الدكتور خالص جلبي

خرافة الدولة الإسلامية (1/2)



الفلسطينيون يحلمون بدولة وعلم. والكشميريون يقاتلون للانفصال عن الهند من أجل تكوين دولة. و(خطاب) الذي قتل في الشيشان ومن بعده يقودون حرب عصابات من أجل إقامة دولة إسلامية. والأكراد يحلمون بدولة كردية، وفي مناقشة على الهواء من محطة فضائية قال الكردي أنه لا مانع لديه أن يضرب بالعصي آناء الليل وأطراف النهار بيد مخابرات كردية على أن يعيش في ظل دولة غير كردية. ودول الطوائف في الأندلس زادت عن عشرين بين بني (الأفطس) و(ذي النون) و(بني العباد) مما جعل الإمام (ابن حزم) يتبرأ منهم جميعاً. ويذكر قول الشاعر (ألقاب مملكةٍ في غير موضعها .... كالقط يحكي انتفاخاً صولة الأسد).

واليوم تبلغ الدول العربية أكثر من عشرين دولة، ومع كل زيادة في العدد يزداد التناقض والشقاق والنفاق، ويستفحل الوباء والغلاء والعناء والغباء، ويحجز المواطن العربي في مزيد من مربعات التخلف، وكل زيادة في الأرقام تعني نقصا فيها عكس قوانين الرياضيات. وقديماً شكا بنو إسرائيل إلى موسى سوء الأوضاع وتمنوا الخلاص من فرعون، ولكن موسى اعتبر أن إزالة فرعون ليست حلاً للمشاكل بقدر من سيكون البديل. "عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون". وفي كتاب (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) لـ (عبد الرحمن الكواكبي) أشار إلى ثلاث أفكار رئيسية تشكل مثلث الخلاص من الاستبداد:

1 ـ أن يكون (سلمياً بالتدريج)
2 ـ و(أن الأمة التي لا يشعر كلها أو أكثرها بآلام الاستبداد لا تستحق الحرية)
3 ـ وأنه ( يجب قبل مقاومة الاستبداد تهيئة ماذا يستبدل به الاستبداد).
وإلا كان على حد تعبير الكواكبي استبدال صداع بمغص والسل بالشلل.
إن استبدال فرعون بفرعون لا يتقدم في حل المشكلة إلا بإلغاء كل حل. فيتغير الأشخاص ويبقى الوسط مريضا كسيحا.
(والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا).
إن التحدي الأكبر ليس في الهدم بل البناء.

ومازلت أتذكر (آية الله منتظري) ـ وكنت يومها زائرا لإيران بمناسبة العام الثاني على الثورة ـ وهو يخطب بعد نجاح الثورة الإيرانية قائلاً: "لقد هدمنا بناية كبيرة وكل التحدي اليوم هو في إيجاد بناية أفضل". واليوم لم يبق منتظري وطالقاني وعلي شريعتي وثورة، بل أتوقراطية خانقة ودولة بوليسية، ورئيس دولة يتلمظ لصنم نووي، ويدعو لشن الحروب. وهكذا فقد استبدلت إيران الإسلام بإسلام شاهنشاهي، والشاه بشاه يلبس عباءة ويطلق لحية ويحمل سبحة، كما جاء في فيلم مرملوك الإيراني، الذي ظهر لأسبوعين ثم اختفى.

إن القضاء على الشاه كان أول الطريق وأسهله، فهو عملية هدم لا أكثر، وكل التحدي هو في التخلص من وضع " اللاشرعية" بإقامة الشرعية. والقضاء على صدام كان الفصل السهل من المسرحية الأمريكية، واستئصال السرطان لا يعني بالضرورة عدم وجود انتقالات ورمية. والتخلص من الإقطاعي السابق لا يعني استبداله بإقطاعيين جدد أكثر عددا وأظلم وأبطش كما حصل مع الثوريين البعثيين الذين يواجهون منكر ونكير الألماني الحلس ميلس.

إن إزالة الظلم هي أقل من نصف الحل، ولكن كل الحل هو في إقامة العدل. وعندما يستأصل جراح الأوعية الورم الدموي لا يعني أن العملية انتهت، بل الأصعب فيها قد بدأ، بإعادة ترميم المنطقة بالكامل من خلال وضع الشريان الصناعي محل الورم المستأصل. وفي كتاب (المقال على المنهج) لفيلسوف التنوير (رينيه ديكارت) اعتبر أن المهم في تغيير الأفكار ليس هدم البنى القديمة فهو سهل، ويجب الحذر فيه، بل وعدم البدء فيه، تماماً مثل الذي يعيش في بيت خرب قذر وتريد إسكانه الفسيح النظيف من البيوت.
يقول (ديكارت): لا تهدم بيته، بل ابن له الجديد، ثم خذه ليدخل البيت الجديد، وهو من تلقاء نفسه لن يعود إلى بيته القديم. من المهم إذن أن لا نهدم شيئا ليس عندنا بديل عنه؛ بل يجب أن نمتلك ما هو أفضل منه أو مثله على الأقل.

ويقول الجراحون هناك خمس قواعد فلسفية في الجراحة منها أن الجراحة تجرى إذا لم يكن عنها بديلا. وأن لا يدخل الجراح إلى وسط لزيادة الفساد فيه أكثر مما كان. كمن أراد أن يصلح تضيقا في المعي فقاده عمله إلى انسداد كامل مهدد للحياة. وفي القرآن تقول آية النسخ أنه " ما ننسخ من آية نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير". فالنسخ حالة تطورية نحو الأحسن وليس نكسا للخلف. فهذه قوانين وجودية ثقيلة، وهي تتنوع وصالحة للتطبيق في الكيمياء وعلم النفس والفيزيولوجيا والجراحة والفلسفة والعمران الإنساني والسياسة.

واستبدال وضع سيء بوضع سيء مثله أو أشد سوءً لا يعني شيئا، وعندما عُرض الملك على رسول الله (ص) رفضه لأنه لم يرد بناء دولة هرقلية. والتخلص من دولة قمعية بدولة أشد قمعا هو مثل الفأر الذي استأجر لنفسه مصيدة. أو بتعبير (لينين) عن الرأسماليين الذين اشتروا حبل مشنقتهم بيدهم، عندما أرادوا التخلص من القيصر الروسي بالشيوعيين، وكان ذلك عندما شحن الألمان (لينين) في عربة قطار مغلقة إلى روسيا عبر أراضيهم مثل من ينقل جرثومة (الانثراكس) إلى عدوه بتصوره أنه سيقضي على الدولة القيصرية فجاء منه البلاء المبين، وهلكت القيصرية الألمانية وصعد نجم الشيوعية حتى حين.

والذي حصل أن لينين قضى فعلاً على عائلة (رومانوف) بدداً فلم يترك منهم أحداً بحفلة إعدام جماعية في (كاترين بورج)، ولكن الثورة الشيوعية اندلعت في وسط الفوضى، وخسر الغرب الرهان على (كيرنسكي) فكانوا في مرض، فانتقلوا إلى اختلاط للمرض أدهى وأمر. مثل من كان يعاني من الحمى فأصيب بانثقاب معوي، أو كان يعاني من سعال بسيط فتعرض لالتهاب رئوي قاتل. وكلف هذا الحلفاء لاحقاً أن يحشدوا كل إمكانياتهم ليقضوا على السرطان الشيوعي عبثاً، وما حصل مع أمريكا وجماعات المجاهدين في أفغانستان يشبه هذا التورم الخطير، وكذلك في تسليح العراق، ففي النهاية انقلب السحر على الساحر. ويكون الإنسان في ورطة فيخرج منها ليقع في ورطة ألعن. فهذه عظة التاريخ، ولقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثاً يفترى. واليوم يحتفل الروس بنقل بقايا جماجم العائلة المالكة القديمة التي دفنت في مستنقع، ولكن عائلة (رومانوف) شطبت من ملفات التاريخ، وإلى الأبد، ودلفوا إلى مستودعات النسيان، كما حصل لمن قبلهم قرونا كثيرة، هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا؟

إن وهم الدولة أسطورة مضاعف مرتين كل منهما أشد خطراً من الآخر. الأول بتصور الانتقال إلى دولة جديدة مثل العبور من مفازة النار إلى الجنة، ووهم فكرة (الدولة الإسلامية).

ومنذ أيام (الخوارج) ادعى الناس أنهم يقيمون دولاً إسلامية، فليس أسهل من رفع الشعارات واغتيال الحقائق وتفريغ المضامين. كما حصل مع البعثيين بالثالوث المقدس. الوحدة والحرية والاشتراكية فأصبحت الخراب والديكتاتورية والطائفية. ولم تعتبر الأمة وكل مدارس الفكر الإسلامية والمذاهب أن جهاد الخوارج كان جهادا، مع أن الخوارج أثاروا قضايا فكرية جديرة بالمناقشة مثل انتخاب الحاكم من الأمة ولو كان رأسه "زبيبة"، ولكن مشكلتهم كانت في التشدد والتكفير والعنف المسلح لقلب الأوضاع. وهذا الميل المريض تشربته اليوم جماعات الإسلام السياسي اليوم، ومن الملفت للنظر أن الخوارج انعزلوا تاريخيا في الواحات البعيدة في الصحاري في الأطراف كما هو بين الطوارق في الجزائر والأباضية في مسقط. واليوم نرى أشد العنف الإسلامي ينبع حيث يقل الفقه ويشتد الحماس. والخوارج لم يكن ينقصهم الحماس بقدر الوعي، فهذه هي كارثة العالم الإسلامي المعاصرة بالفراق بين الفهم والتقوى، وانفكاك النص عن الواقع والتاريخ.

استباح الخوارج دماء المسلمين باسم الإسلام، واليوم تحت اسم الحرية اغتيلت الحرية أضعافا مضاعفة، وترسخت الديكتاتوريات بأشجار باسقة في أصل الجحيم طلعها كأنه رؤوس الشياطين. وباسم الشعب خسف بالشعب. وعندما أراد البعض اغتيال فكرة القرآن رفعوا القرآن على رؤوس المصاحف في خديعة معاوية الكبرى، ومن المعروف في علم الكيمياء العضوية أن نفس المركب يتحول من ترياق إلى سم بقلب جذر الهدركسيل فيه. فيبقى الشكل كما هو والمفعول مقلوبا. ويمكن تحت اسم (مسجد) أن يمارس الضرار والتفريق بين المؤمنين، وأن يتحول إلى بؤرة تحيك الموآمرات وشبكة تجسس مضادة، كما في قصة (مسجد الضرار) الذي تحصن فيه المنافقون فأمر النبي بهدمه " والذين اتخذوا مسجدا ضرارا كفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون".

ومازلت أتذكر خطبة الجمعة في فيرجينيا في أمريكا عندما شاركت في مؤتمر التعددية وقام خطيب أمريكي مسلم فحذر من خرافة الدولة وأنها يمكن أن تتحول إلى مصيدة لكل الفكر. وتحت هذا الوهم سقط في شراك العنكبوت من كل اتجاه زوجان. وعندما اعتلى الإنقلابيون ظهر الحصان العسكري تحت إغراء إقامة (دولة) تحقق أحلامهم وطموحاتهم لم يروا سوى كوابيس وتشردا وقتلا. وعندما سئل (حارس سيلاجيج) عن البوسنة (الدولة الإسلامية) كان جوابه صريحاً وفي غاية الوعي والتألق :"نحن لسنا دولة إسلامية. نحن دولة علمانية تضم خليطاً من المسلمين والكروات والصرب تتعايش فيها كل الأقليات".

إنه ليس أسهل من وضع خنادق نفسية أمام زحف الإسلام ببناء دول خرافية تحت أسماء إسلامية ليست بريئة تماما، ويمكن محاربة الإسلام باسم الإسلام، ويمكن لصدام أن يضع فوق علم العراق الله أكبر وليس شيء أكبر من صدام، أو بتعبير (النيهوم) (إسلام ضد الإسلام). فهذه خديعة يجب الانتباه إليها، وأن نبحث بدون ملل عن الحقائق، ولا نغتر بالشعارات أو الكلمات، التي وصفها القرآن أنها "كلمات ما أنزل الله بها من سلطان". أي كلمات فارغة من رصيد الحقيقة مثل العملة الورقية المزيفة.

ويلفت نظرنا (روجيه غارودي) المفكر الفرنسي المسلم إلى هبوط مساجد فخمة ضخمة عملاقة، كأنها صرح ممرد من قوارير "بباراشوت" من السماء، في مدن العالم الغربي؛ فتثير هلعهم أكثر من إقبالهم، في الوقت الذي يمكن نشر الإسلام بمراكز إسلامية بسيطة متواضعة، تعتمد قوة الفكر، وحسن التنظيم، وفهم عقلية المواطن الغربي، وإتقان لسانه فلا بيان دون لسان "وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم".وفي أفغانستان كان (كمال بربك) وهو الشيوعي الأحمر يتظاهر بأنه مسلم تقي نقي حتى مخ العظام، وعندما دخل (نابليون) مصر ادعى الإسلام وأصبح اسمه الحاج نابليون. فهذه قصص مهمة لأيقاظ الذاكرة على الحقائق.

واليوم أزالت أمريكا (حكومة) طالبان ووضعت دمية اسمها حامد قرضاي يتحرك بريموت كونترول، تحت دعوى إقامة حكومة ديموقراطية تعددية وباسم الحرية. ويحذرنا (نعوم تشومسكي) في كتاب كامل بعنوان (ردع الديموقراطية)، أننا يجب أن نفهم قانون التعامل مع القوى العظمى، وأنها عندما تنصر فريقا على آخر، تنصره بما يتفق مع مصلحتها، أكثر من مصلحة الفريقين المتصارعين، كما جاء في قصة القرد الناسك والقطين اللذين سرقا الجبنة فأرادا منه عدالة التقسيم، فاستقرت الجبنة في بطن القرد. وبالمقابل فإن هناك شريحة ترى أن حكومة طالبان ربما هي حكومة شرعية باعتبارها تنادي بالشريعة. ولكن الصراع الجاري في أفغانستان هو لم يزد عن صراع قبلي على السلطة، ولم يظهر هذا على السطح إلا حين تم طرد الروس، وهو التحدي الخطير الذي ذكرناه فيما سبق أن زوال فرعون ليس بشيء، ولكن من سيخلف فرعون؟ أو بتعبير الآية "ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون".

والنموذج الأفغاني ليس ذلك النموذج الذي نرفع به رأساً، وبلد من هذا النوع يفضل للمرء فيه أن يحزم المرء حقائبه ويفر منه. وهذا يظهر مرة أخرى فكرة خرافة الدولة. والخلاصة إن هذا الغرام بإقامة دولة مستقلة، أو دولة إسلامية وهم كبير، و (النميري) في السودان وتحت اسم الدولة الإسلامية أعدم مفكرا صاحب مدرسة مثل محمود طه لآرائه، مما جعل الترابي يقلب يديه على ما أنفق في الانقلاب العسكري ويقبع في إقامته الجبرية وكما يقول المثل العربي: "يداك أوكتا وفوك نفخ".

وكان حظه أفضل ممن سبقه فما زال يحتفظ على برأسه بفضل الروح القبيلة. وفي مصر قتل حسن البنا من وراء أعمال التنظيم الخاص، كما اغتيل صلاح البيطار بيد الرفاق من نفس أبناء الحزب الذين تربوا عل يديه. ويقول مالك بن نبي أن مولودا لو خير أن يولد؟ هل سيختار أفغانستان فيمشي بعكازة خشبية أو يرى بعين واحدة. أو في اريتريا فيقتل في جبهات حرب بائسة. أو في بلد عربي فيقضي نصف عمره في أقبية الاستخبارات والنصف الباقي يرتعش خوفا على رزق عياله؟ أم يختار السويد حيث الضمانات؟ إنه سؤال ثقيل ومزعج ولا أحد يطرحه؟ ويحتفل العراقيون والسوريون ويهنيء بعضهم بعضا حينما ينال أحدهم الجنسية البريطانية أو الكندية. بعد أن لم يبق وطن ومواطنة، وبعد أن فروا من دولهم باتجاه العدالة والأمن والرزق، فهذا هو الوطن وهذه هي دولة الإنسان.

هذه المسألة أشكلت على الفيلسوف (محمد إقبال) مع ضخامة فكر الرجل وبعد نظره، حينما دعا إلى تكوين دولة إسلامية في شبه القارة الهندية، وهو النموذج المشوه الذي ولد مع باكستان في قطعتين من الأرض بينهما بعد المشرقين، لتتمزق إلى دولتين باكستان وبنغلادش، بعد أن بنيت على أنهار من دماء ملايين القتلى، في عملية جراحية دموية من أجل إرضاء غرور سياسيين من نوعية (علي جناح)، يتربع فيها على عرش السلطة، وتطبع صورته البهية على الأوراق النقدية، ويفرش بين قدميه السجاد الأحمر في المطارات، وأن يلقب في كل مكان سيدي سيدي أو بتعبير الإنجيل " يعرضون عصائبهم، ويعظمون أهداب ثيابهم، ويحبون المتكأ الأول في الولائم، والمجالس الأولى في المجامع، والتحيات في الأسواق، وأن يدعوهم الناس سيدي سيدي" .

إنه حلم قديم لكل السياسيين المغامرين من عشاق السلطة وبناة حكم الأسر الإقطاعية المسلحة.
لقد انتبه (مالك بن نبي) إلى هذه الولادة المشئومة بحيث اعتبر أن خلق دولة باكستان كان حاجزاً نفسيا أمام انتشار الإسلام في القارة الهندية، التي كانت في طريقها إلى التحول الإسلامي البطيء.
يقول (بن نبي) أن (تشرشل) كان في طريقه إلى تحقيق هدف ثلاثي من وراء خلق باكستان:

(حصانة ضد الشيوعية) و(حاجز نفسي أمام انتشار الإسلام في القارة) و(كسر فكرة أي اتحاد هندي).
جاء في كتاب (وجهة العالم الإسلامي):" لقد استطاع الثعلب الهرم أن ينشيء في شبه القارة الهندية منطقة أمان، وبعبارة أخرى: حجراً صحياً ضد الشيوعية، ولكنه عرف أيضاً كيف يخلق بكل سبيل عداوة متبادلة بين باكستان والهند، وكان من أثرها عزل الإسلام عن الشعوب الهندية من ناحية أخرى، ولقد بذل هذا السياسي غاية جهده لتدعيم هذه التفرقة وتعميق الهوة بين المسلمين والهندوس، تلك الهوة التي انهمرت فيها دماء ملايين الضحايا، من أجل هذا التحرير الغريب، فكان الدم أفعل في التمزيق من الحواجز والحدود". وهي طريقة بريطانيا المعهودة عندما تغادر منطقة ما، أن تخلق فيها خراجاً مزمنا على صورتين، فإما خلقت وضعاً من العشق لا يقاوم لبناء دولة كما في مشكلة كشمير. أو بناء دول خرافية كما في دولة إسرائيل.

بحيث تجعل المنطقة تغلي في هذا القدر قرونا وينطبخ فيها العرب واليهود معا. ولكنه داء أصيبت به بريطانيا في مشكلة شمال أيرلندا كما يقول المثل العربي رمتني بدائها وانسلت. لقد أدرك غاندي خطورة التقسيم، وأن التفاحة نضجت كفاية لتسقط في اليد، وأن كل التحدي هو في بناء هند جديدة بعد التخلص من بريطانيا، واقترح أن يتولى علي جناح منصب رئيس أول جمهورية في الهند المتحدة، ولكن جناح كان يحوم فكره في اتجاه مختلف يسيل له اللعاب أكثر.

إن الغرام بالدولة قديم، وعشق القوة متأصل في القلوب، وفكرة الدولة تأسر القلوب بسحر لا يقاوم، ويظن المغفلون أنه مع بناء الدولة سوف يبدلهم الله بعد خوفهم أمنا وفقرهم غنى وذلهم رفعة، فحصدوا الديكتاتورية والفقر ومزيدا من التقسيم. وبنوا أصناما نووية أدخلت الفزع إلى كل بيت في القارة الهندية. واليوم يحلم الأكراد بدولة كرمنجية، فيستبدلوا طاغوت عربي بطاغوت كردي ومغص بصداع.

وما حصل مع تقسيم القارة الهندية أنه كان عملية جراحية نازفة لولادة قيصرية مرعبة، فلم ينفصل كل المسلمون ـ لحسن الحظ ـ ويعيش اليوم في الهند أكثر من 100 مليون مسلم، كما لم يبق من انفصل في دولة واحدة بل انشطروا بسرعة إلى اثنتين باكستان وبنغلادش، بعد أن انتزعوا قلب مجيب الرحمن من صدره، والدور اليوم على باكستان أن تنشطر إلى دويلات، وبقيت قضية كشمير بدون حل معلقة غير مطلقة على شكل خراج مزمن كما أرادت بريطانيا لها قبل نصف قرن. ووقعت باكستان في قبضة جنرالات قساة، من خلال سلسلة محمومة من الانقلابات العسكرية. ونضحك ولا نكاد نصدق اليوم أن باكستان التي أنفقت آخر مليم من جيبها لإنتاج صنم نووي خذلها في يوم الفصل. والناس عادة يشترون السلاح ليفيدهم يوم الفصل، ولكن باكستان خافت على السلاح الذي صنعته يداها. فبدل أن يحميها السلاح تبين أنه يحتاج لحماية. إنها نكتة كبيرة لا يضحك لها أحد. وينطبق هذا القانون على (الشيشان) وغيرها. واليوم نرى الشيشان وقد تحولت إلى أنقاض ولا تحمل مقومات دولة، وتريد الانفصال لبناء دولة تشبه دولة الطالبان.

ألم يكن أجدى للشيشان أن يبقوا ضمن إطار دولة عظمى يستفيدون من مزاياها، ويمارسوا المقاومة المدنية في حال وقوع الظلم. كما بدأته النساء في أول الحملة الروسية، وتفاءلنا به، لولا انتقال عدوى المتشددين ووباء السلفية الجهادية مثل أنفلونزا الطيور إلى هناك.

هل الأفضل للإنسان أن يركب غواصة نووية روسية من نوع كيرسك أم حمارا في جبال القفقاس؟
إنه سؤال محرج مزعج ولكن قابل للطرح.