نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

من المسلسل



نستكمل في هذه المقالة، وستكون الأخيرة، حديثنا عن المسلسل التلفزيوني «معاوية». وأشير إلى أنني اعتمدتُ في توثيق المادة التأريخية لكل ما كتبته حول هذا المسلسل على مصادر ومراجع تراثية لأهل السنة والجماعة، أو مشتركة ومتفق عليها بينهم وبين غيرهم، ولم أورد شيئاً انفردت به مصادر الطوائف والمذاهب الإسلامية الأخرى بمختلف أسمائها، لتفادي تهمة الانحياز والمبالغات التي تتسم بها مصادر الأقليات عموماً.هل تورط معاوية في مقتل عثمان؟

ضمن مسعى ترويج الرواية الأموية، وبهدف تنزيه وتبرئة معاوية بن أبي سفيان ومعاونه الأول عمرو بن العاص من غالبية الاتهامات التي تحفل بها كتب التراث العربي الإسلامي لهما، تأتي قفزة المسلسل على كل ما قيل من اتهامات لمعاوية وحاشيته بالتآمر على حياة الخليفة الثالث عثمان بن عفان أو تسهيل مقتله، أو كحد أدنى خذلانه.

وبخصوص اتهام معاوية بالتورط في هذا الحدث الذي شطر أمة الإسلام قديما وحديثا شطرين، أستعيد باختصار ما كتبته في هذا الخصوص في مناسبة سابقة (الأخبار 26 شباط 2023) وفيها أوردت بعض الأدلة والروايات على هذا التورط ومنها باختصار:
-

الرسالة التي عُثر عليها في حوزة أبي الأعور السلمي، والتي زوَّرها مروانُ بن الحكم بن أبي العاص كاتب الخليفة عثمان، وختمها بختمه. ونفهم من سياق الرواية أن مروان تعمّد أن تسقط هذه الرسالة وحاملها في قبضة المتمردين على الخليفة بعد انسحابهم من المدينة وإجهاض الفتنة ليشعلها مجددا. وحين واجه الثوارُ الخليفةَ بهذه الرسالة أنكر معرفته بها، وأقسم بالله أنه ليس كاتبها، فطالبوه بأن يسمي كاتبها فرفض، ويرجح أغلب المؤرخين والباحثين أن كاتب الرسالة هو مروان بن الحكم قريب عثمان من بني أمية.

-أرسل معاوية جيشاً من أهل الشام إلى الحجاز (تقول المصادر إنه مؤلف من أربعة آلاف مقاتل أي ضعف عدد المتمردين من أهل مصر والعراق) بهدف معلن هو إنقاذ الخليفة عثمان. ولكن معاوية أوصى قائد جيشه، يزيد بن أسد القسري، بالمرابطة شمال المدينة، عند موضع ذي خُشُب على مسافة 34 كلم منها، وأمره ألا يبرحه ولا يتقدم ويدخلها، فبقي هناك حتى مقتل الخليفة ثم انسحب عائداً إلى الشام.

-وفي ما بعد، وحين استتب الأمر لمعاوية وصار خليفة/ ملكاً، جعل أبا الأعور السلمي، من كبار قواده! وهذا ما رواه عمر بن شُبة البصري في كتابة الضخم «تاريخ المدينة». والبصري، المولود عام 173 هـ، محدِّث ومؤرخ من أهل السنة والجماعة يوصف بالمحدِّث الثقة.وحتى قبل حدوث الفتنة، فثمة دليل يورده المؤرخ ابن الأثير يؤكد أن معاوية متهم بالتواطؤ، فقد تساهل مع جماعة من الناقمين على الخليفة عثمان حين نفاهم إليه ليضعهم تحت رقابته ولكنَّ معاوية أطلقهم وتركهم يذهبون إلى حيث شاؤوا بدعوى إنهم «ليسوا أكثر من شغب ونكير». فكان أنْ عاد هؤلاء إلى المدينة لاحقاً، وحدث ما حدث.

لقد قفز مؤلف المسلسل على كل هذه التفاصيل المهمة واكتفى في الحلقة 12 بأن جعل معاوية، وقد بلغه خبر مقتل عثمان، ووصله قميصه المدمي، يأمر مستشاره السرياني سرجون بن منصور الرومي، بسحب جيشه من ضواحي المدينة.

حصار الماء في مناسبتينوفق مسلسل معاوية الحلقة 14، فإن جيش معاوية استولى قبل بدء معركة صفين على شريعة على الفرات ومنع الماء عن جيش العراق. ثم تظهر بركة مياه ورجل يحمل قربة ويمشي ليصل إلى بئر وعليه رجال يسحبون دلوا منه ليظهر معاوية واقفاً يتأمل!

ثم يأمر الخليفةُ عليٌّ أحد قادته بأن يذهب مع بعض الرجال إلى الفرات ليروا إنْ كان معاوية يريد منع الماء عنهم أم لا.

ويمنعهم قائد معاوية، أبو الأعور السلمي، ويقول لهم: نمنع الماء عنكم كما منعتم الماء عن الخليفة عثمان - وسنتوقف عند هذه التهمة الكاذبة بعد قليل

- ولكن معاوية "يتكرم" ويأمره بأن يسمح لرجال جيش الخلافة بالاستقاء.

هذه الكذبة تتعارض مع ما ورد في أقدم وأهم مصادر التاريخ الإسلامي؛ ففي «الأخبار الطوال» (ص 169) لأبي حنيفة الدينوري وهو من أهل القرن الهجري الثالث (ولد سنة 212 هـ)، وفي «البداية والنهاية» (ص 498) للمؤرخ الشهير ابن كثير الدمشقي، وفي «مروج الذهب» (ج2/ص386) للمسعودي (ولد سنة 283 هـ)، وفي مصادر أخرى، ورد العكس تماماً؛ فليس معاوية هو من تكرم على جيش العراق بالماء بل أن هذا الجيش هو الذي حرر الشريعة بحد السيف بعد هجوم عنيف وطرد جيش معاوية منها.

وحين سأل معاويةُ عَمراً بن العاص معاوية إنْ كان عليٌّ سيمنع الماء عنهم، فقال له عمرو:

«ظني أنه لا يستحلُ منكَ ما استحللتَ أنتَ منه»!

بمعنى، إذا كنت قد استحللت منعَ الماء عنه وهو حرام، فعليٌّ لن يستحلَ ذلك. وفعلاً أباح الخليفة علي شريعة الماء للشاميين من جنود معاوية.

والمسلسل يحفل بالكثير من هذه الأكاذيب والمرويات الضعيفة التي جرى اعتمادها وإهمال الأخرى الموثوقة.
إخراجاً، كان هذا المشهد بالغ السوء، فالواقعة جرت على شريعة على ضفاف نهر الفرات، في حين جعلها المخرج تجري قرب بئر ماء في منطقة جرداء سبق أن شاهدناه في مشهد آخر، يُخرج الرجال الماء منه بدلو ثم يملأون القرب منه.

فهل يمكن لمخرج ومؤلف هاويين أن يرتكبا خطأ فنياً وتأليفياً فادحاً ومثيرا للسخرية كهذا؟
مَن قتل عثمان ومنع عنه الماء؟

أما عن التهمة التي وجهها أبو الأعور السلمي قائد جيش معاوية إلى أنصار علي، وقوله إنهم هم الذين منعوا الماء عن عثمان وتورطوا في مقتله، فالمسلسل يعترف بعكس ذلك تماماً في حلقة أخرى هي الحادية عشرة.

ويورد ما أوردته مصادر التأريخ الإسلامي من أنّ الإمام عليا أرسل ولديه الحسن والحسين ليزودا دار عثمان سرا بالماء ويدافعا عنه بسيفيهما، ولكن المسلسل يورد هذا الخبر بكثير من سوء النية وانعدام النزاهة، فكيف ذلك:

ركز المسلسل في مشاهد حصار الثائرين لدار الخليفة عثمان بن عفان وكرر أنّ هؤلاء الثائرين من أهل الكوفة حصرا وأن أهل الكوفة يحبون علي أكثر من غيره. وهذا غير صحيح، فالكوفة لم تكن ذات غالبية شيعية آنذاك لأن التشكل الطائفي الإسلامي لم يكن قد بدأ بعد، وكان الثائرون قد قدموا من أهم مدن الدولة الإسلامية الفتية آنذاك وهي البصرة والكوفة وفسطاط مصر.

بل إنّ أكثريتهم - كما تقول بعض المصادر - كانت من مصر.

أما الحسن البصري، وهو شاهد عيان كان عمره وقتها أربع عشرة سنة، فعندما سُئِل «أكان فيمن قتل عثمانَ أحدٌ من المهاجرين والأنصار؟

قال: لا كانوا أعلاجاً من أهل مصر». (تاريخ خليفة بن الخياط ــ ت 240هـ ـ ص 176). وحتى ابن تيمية قال:

«ولا أحد من السابقين الأولين دخل في قتل عثمان».
والثابت الصحيح عن قيس بن أبي حازم قوله إنَّ الذين قتلوا عثمان ليس فيهم من الصحابة أحد (أخرجه ابن عساكر في تاريخه - ص408).

وفي هذه المقتبسات دليل لا يدحض على براءة محمد بن أبي بكر الصديق، والي علي بن أبي طالب على مصر، والذي دأب بنو أمية على اتهامه بالمشاركة في قتل الخليفة عثمان.

أكثر من هذا، فإنَّ سلفياً سنياً معاصراً هو الداعية الليبي والأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين علي الصلابي، كتب في مدونته سنة 2020: «إنَّ قاتل عثمان رضي الله عنه رجلٌ مصريٌّ، لم تفصح الرِّوايات عن اسمه، وبهذا يتبيَّن لنا براءة محمَّد بن أبي بكر الصِّدِّيق من دم عثمان، براءة الذِّئب من دم يوسف، كما تبيَّن:

أنَّ سبب تهمته هو دخوله عليه قبل القتل، وقد ذكر ابن كثيرٍ ـ رحمه الله ـ أنَّه لمَّا كلمه عثمان رضي الله عنه استحى، ورجع، وتندَّم، وغطَّى وجهه، وحاجز دونه، فلم تفد محاجزته».

أي أنَّ محمداً حاجزَ وحاول منع مهاجمي الخليفة من قتله فلم يستطع، ولكن عمراً بن العاص، وفي رواية أخرى معاوية بن حديج، قتل محمدا في مصر ثم دس جثمانه في جوف حمار ميت وأحرقه كما ورد في مصادر قديمة كثيرة.

أما الطبري فيفهم من كلامه أن معاوية هو من أمر بأن يقتل محمد بهذه الطريقة بعد أن يحرم من شرب الماء (تاريخ الطبري ج 5 ص 104- أحداث سنة 38 هـ).
في مشهد حصار الثائرين لبيت الخليفة عثمان، وتحديداً في الدقيقة 26 من الحلقة 11، لم يكتف المسلسل بالتشويش والتعتيم على الحقائق التأريخية بل حاول تقديم الشخصيات الإيجابية أحياناً من دون التعريف بها.

هنا مثلاً، نرى شابين يقومان بإيصال قِرب الماء سراً في الليل إلى دار الخليفة المحاصرة بمساعدة رجلين آخرين وحين يكتشف الثائرون أمرهم يهجمون عليهم، ويبادرهم ملك بن الاشتر وهو من زعماء الثائرين بالكلام بعد أن يمنعهما من رمي القِرب، ويقول:

لو كنتم أنتم المحاصرين، فهل كان بنو أمية يفعلون معكم ما تفعلونه أنتم مع عثمان؟

وينتهي المشهد من دون أن يعلم المشاهدون من هما هذان الشابان اللذان هرعا لنجدة الخليفة. ولحسن الحظ فالحادثة مسجلة في كتب التاريخ ولا يمكن للمؤلف أو لمن راجع المسلسل أن يحذفها من كل السردية الإسلامية، والشابان معروفان وهما الحسن والحسين ابنا الإمام علي بن أبي طالب كما سنتأكد من ذلك في مشهد لاحق آخر.
ففي الدقيقة 32 من الحلقة نفسها، وبعد عدة مشاهد من حصار دار الخليفة عثمان يتصدى الشابان - اللذان كانا يوصلان القرب - بسيفيهما للثائرين ويمنعان مَن يحاول اقتحام الدار، فيقترب منهما أحد الثوار غاضباً، فيتدخل ابن الأشتر ويفصل بينهم قائلاً:

"لا أريد لأحد من أهل المدينة أن يصاب بأذى، فكيف إذا كانا الحسن وأخاه". ومن هذا المشهد نعلم أن الشابين اللذين كانا يدافعان عن دار الخليفة عثمان، وهما اللذان كان يوصلان قرب الماء سرا لتلك الدار، هما الحسن والحسين ابنا علي، على النقيض المروية الأموية الموروثة والتي تُحمِّل بني هاشم ومنهم علي وبنوه مسؤولية مقتل الخليفة الثالث وقطع الماء عن داره وهم منها براء.

أخيراً، ولحسم الجدل القديم والمعاصر بين شيعة بني هاشم وشيعة آل سفيان القدماء أو بين المُفاضلِين بين هؤلاء وأولئك من السلفيين المعاصرين والمؤرخين الموضوعيين في عصرنا سنختم بهذه الشهادة التي لا يمكن الطعن فيها لأنها من داخل البيت الأموي؛ إنها خطبة التنازل عن الخلافة التي ألقاها الخليفة الشاب معاوية (الثاني) بن يزيد بن معاوية وهو آخر خليفة من آل سفيان قبل أن يتلقفها منهم بعد انبتار عقبهم وانقطاع نسلهم فرعُ آل مروان.معاوية الحفيد يهجو أسرته ويخلع نفسهنقل لنا ابن حجر الهيثمي (909 - 974 هـ) وهو فقيه شافعي ومحدِّث ومؤرخ ذو هويً أموي، في كتابه «الصواعق المحرقة» (ص 134).

خطبة معاوية الحفيد قال: «مات يزيد بن معاوية سنة أربع وستّين هـ، لكن عن ولد شاب صالح عهد إليه فاستمرّ مريضاً إلى أن مات، ولم يخرج إلى الناس ولا صلّى بهم ولا أدخل نفسه في شيء من الاُمور، وكانت مدّة خلافته أربعين يوماً، وقيل:

شهرين، وقيل: ثلاثة أشهر، ومات عن إحدى وعشرين سنة، وقيل: عشرين.

و من صلاحه الظاهر أنّه لمّا وُلِّيَ صعد المنبر فقال: إنّ هذه الخلافة حبل الله، وأنّ جدّي معاوية نازع الأمر أهله ومَن هو أحقّ به منه عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، و ركب بكم ما تعلمون حتّى أتته منيّته فصار في قبره رهيناً بذنوبه، ثمّ قلّد أبي الأمر و كان غير أهل له، ونازع ابن بنت رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم، فقصف عمره، وانبتر عقبه، وصار في قبره رهيناً بذنوبه، ثمّ بكى و قال:

مِنْ أعظم الاُمور علينا علمنا بسوء مصرعه وبؤس منقلبه، وقد قتلَ عترة رسول الله صلّى الله عليه (وآله ) وسلّم، وأباحَ الخمرَ وخرَّب الكعبةَ، ولم أذق حلاوة الخلافة فلا أتقلّد مرارتها، فشأنكم أمركم، والله لئن كانت الدُّنيا خيراً فقد نلنا منها حظّاً، ولئن كانت شرّاً فكفى ذرّية أبي سفيان ما أصابوا منها، ثمّ تغيّب في منزله حتّى مات بعد أربعين يوماً ـ كما مرّـ فرحمه اللهُ أنصف من أبيه و عرف الأمر لأهله».

وقال العلامة الفيروزآبادي، بعد ذكر هذه الخطبة:

بل وأنصف من أبيه وجده جميعاً، فلا تغفل. كما وردت الخطبة في «فضائل الخمسة من الصحاح الستة: 3 / 392» للعلامة المُحقق السيد مرتضى الفيروزآبادي، طبعة مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت. نقلاً عن:

الصواعق المحرقة لابن حجر: ص 134.
وقد توفي هذا الخليفة الشاب، وهو في العقد الثاني من عمره. واختُلِفَ في سبب وفاته فقيل إنه اغتيل بالسم (سُقيَ شُربة)، وقيل إنه طُعن (أصابه الطاعون) وهذه رواية ضعيفة فالطاعون وباء يصيب الجموع لا الأفراد، ولم تسجل المصادر التأريخية حدوث طاعون في دمشق حين وفاته. وقيل إنه مات حتف أنفه بمرضه.

وأرجح الروايات أنه مات مسموماً بعد أن فضح الأسرة السفيانية وذم أباه وجده فأضرَّ بها وبسمعتها كثيراً بين أهل الشام حاضنة الدولة الأموية.

ومع موت معاوية الحفيد ينقرض الفرع السفياني من الأسرة الأموية ويبدأ حكم الفرع المرواني بأولهم مروان بن الحكم بن أبي العاص المتهم بتزوير رسالة من الخليفة عثمان ومُشعل الفتنة الكبرى، وهو الشخص الذي لعن النبيُّ أباه ولعنه وهو في صلب أبيه في حديث صحيح رواه الإمام أحمد بن حنبل والهيثمي وابن عساكر والبزار والطبراني وغيرهم.

https://www.al-akhbar.com/culture/82...AF%D8%AD%D8%A9