حققت أهدافاً تكتيكية لا تستطيع بناءَ مستقبل على أساسها

نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


فلسطينيون يعاينون الدمار في مبنى استهدفته غارات إسرائيلية على رفح أمس (رويترز)

| بقلم - إيليا ج. مغناير |


18 يناير 2024

«المناورة العسكرية في الشمال انتهتْ وستنتهي قريباً في الجنوب». هذا ما صرح به وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت لتردّ عليه المقاومة الفلسطينية برشقات من الصواريخ بلغت 50 صاروخاً أطلقت من شمال غزة في يوم واحد، ومن بيت حانون تحديداً.


وإذ جاءت هذه الرشقات بمثابة رسالةٍ بأن العمليات العسكرية التي تَعتبر تل أبيب أنها بلغتْ هدفَها لم تحقق أي شيء وأن المقاومة مازالت موجودة في كامل القطاع، فإن هذا الأمر دَفَعَ الجيشَ بعد ساعاتٍ من إعلان انسحابه للقول إنه سيقوم بهجمات محددة في اتجاه شمال غزة، ولاستئناف القصف المدفعي والجوي والبحري لمناطق كانت إسرائيل احتلتها في بداية الحرب، وصولاً إلى تعبير قادتها عن ضرورة معاودة احتلال شمال غزة.

وتجد إسرائيل نفسها في مأزق وجودي أمام مقاومةٍ لا ترغب في تقديم أي انتصار للعدو مهما صغر أو كبر. فإذا انسحبت إسرائيل تكون خسرت الحرب وإذا بقيت تتعرّض لضرباتِ المقاومة المؤلمة، علماً أنها لا تستطيع المكوث طويلاً ولن تحقق أهدافها بإنهاء المقاومة وتحرير الأسرى الإسرائليين.

لذلك صرّح قائد الأركان هيرتسي هليفي بأن «حماس تعيد بناء قدراتها التي تم تفكيكها وأن غياب الأهداف التي تضعها القيادة السياسية مشكلة كبرى لوجود إسرائيل».

وكان غالانت أكد أن «عدم انتصار إسرائيل سيشكل خطراً وجودياً عليها وأن المستقبل مرهون بنتائج الحرب».

وهذان الرجلان هما القياديان العسكريان الأهمّ - بعد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو غير العسكريّ ولكنه المقرِّر الأول – وشكّل موقفُهما ما يشبه قرْع ناقوس الخطر بإزاء فشل الجيش في تحقيق الأهداف غير المنطقية والمستحيلة التحقيق.

وقد أعرب هليفي عن قلقه من القيادة العسكرية على أرض المعركة التي تدعو للانتقام وتدمير كل شيء في غزة ولا تلتزم بتعليمات إطلاق النار ما يتسبّب بقتل ليس فقط كل مَن يتحرّك في القطاع ولكن الأسرى الاسرائيليين إذا أفلتوا من سجّانيهم، كما حصل للبعض منهم.

وليست المرة الأولى تضع إسرائيل أهدافاً غير واقعية التنفيذ. فلو أعلنت القيادة السياسية منذ بداية الحرب أن هدفها تأديب المقاومة كي لا تعيد الكرّة (هجوم السابع من أكتوبر) من خلال إحداث دمار هائل في غزة، لكانت قدّمت السلّم الذي يحتاج إليه المسؤولون للنزول عن الشجرة وإنهاء المعركة بنصرٍ ما.

إلا أن إعلان سحب الجيش من الشمال وكذلك الفرقة 36 - التي كانت تمثل رأس حربة الهجوم - من غزة واستبدالها بأخرى وإبقاء ثلاثة فرق لا تتقدّم في الوسط والجنوب هو خطوة تمهيدية لتخفيف أعداد القوات المحاربة على الأرض كدليل على أن الإسرائيليين لا يصرحون بما يخططون له حقيقةً وأن التصريحات التصعيدية لا تمت للحقيقة ولا تحاكي وقع الأرض، وأن المعارك بدأت تتخذ منحى آخر أقل هجوميا لتخفيف حدة الاشتباكات وخفْض وجود القوات داخل القطاع لأسباب عدة:

- الإصابات البشرية:

فإسرائيل تعاني أعداداً غير مسبوقة من الإصابات ولا تعترف بالعدد الحقيقي ما خلا تسريب الإعلام العبري بلوغ هؤلاء أكثر من 11.000 مصاب ويعاني بين 20 و30 في المئة منهم إصابات دائمة.

- قلة وفرة القنابل والذخائر الذكية:

وهذه النقطة تتعلق بدعم الغرب الذي يعلم أن أهداف إسرائيل العسكرية غير قابلة للتحقيق وأن ممارسات الجيش الإسرائيلي التي افتقدت للأخلاق الحربية واتهامه بتطهير عرقي أمام محكمة العدل الدولية يحتّم وقف الحرب أو تبديل أسلوبها لتخفيف التبعات والخسائر المعنوية على إسرائيل وجيشها وحليفتها أميركا في ضوء تضرُّر سمعة جميع الداعمين لهذه الحرب.

- الإستراتيجية العسكرية وإعادة التقييم التكتيكي:

في النزاعات طويلة الأمد، غالباً ما تخضع الاستراتيجيات والأهداف العسكرية لإعادة التقييم. وإذا لم تسفر التكتيكات الأولية عن النتائج المرجوة، أو إذا اعتُبرت تكلفة مواصلة العملية مرتفعة للغاية من حيث الموارد والأفراد، فإن الانسحابَ الجزئي يمكن أن يكون قراراً إستراتيجياً لمعاودة تجميع الصفوف وإعادة التقييم.

- الاعتبارات السياسية الداخلية:

يمكن للديناميات السياسية الداخلية في إسرائيل أن تلعب دوراً أيضاً. ويمكن للرأي العام والمعارضة السياسية والحاجة إلى الحفاظ على الاستقرار الداخلي أن يؤثّر على القرارات العسكرية.

فإذا أصبح الصراع في غزة غير مقبول سياسياً أو إذا تضاءل الدعم الشعبي، قد يؤدي ذلك إلى تغيير في الإستراتيجية العسكرية. وكانت نسبة الإسرائيليين الداعمين للحرب تناهز 80 في المئة وهبطت الى 61 في المئة، وسط توقعات بأن تزداد هذه النسبة هبوطاً كلما طال أمد المعركة والفشل في تحقيق الأهداف.

- الحفاظ على الاستعداد العسكري:

يمكن أن تؤدي الاشتباكات الطويلة إلى إجهاد الموارد العسكرية والأفراد. وقد يكون الانسحاب الجزئي ضرورياً للحفاظ على جاهزية الجيش وقدرته على مواجهة صراعات محتملة أخرى أو احتياجات أمنية. وقد بدأت إسرائيل باستخدام قنابل انزلاقية في هجماتها، خصوصاً على وادي السلوقي في لبنان، ما يؤكد أن وضع مخازنها الوفير عند بداية الحرب لم يعد كذلك بعد أكثر من 100 يوم من الحرب.

- عدم القدرة على التنبؤ بمسار الحرب غير المتكافئة:

قد يكون التعامل مع جماعات مثل «حماس» التي تستخدم تكتيكات الحرب غير المتكافئة، محكوماً بعدم القدرة على توقُّع ما سيقوم به الخصم ومجريات الميدان، وهذا الأمر يمثل تحدياً للجيوش التقليدية. ويمكن أن تؤدي صعوبة تحقيق انتصارات عسكرية واضحة المعالم في مثل هذه السيناريوات إلى إعادة تقييم جدوى وتكلفة استمرار العمليات.

- تجنب المزيد من التصعيد:

يمكن أن يكون الانسحاب الجزئي خطوة لتجنب المزيد من تصعيد الصراع بما قد يؤدي إلى مواجهة إقليمية أوسع. وهذا أمر مهمّ بشكل خاص بالنظر إلى المشهد الجيوسياسي المعقّد في الشرق الأوسط.

- تأثير الهجمات الصاروخية المستمرّة:

إن استمرار قدرة المجموعات الفلسطينية على إطلاق الصواريخ على المستوطنات الإسرائيلية بالرغم من العملية العسكرية يمكن أن يؤدي إلى إعادة تقييم فعالية الإستراتيجية العسكرية الحالية واستكشاف طرق بديلة لتحقيق الأهداف الأمنية.

- الضغط الدولي:

تواجه إسرائيل ضغوطاً دولية كبيرة في ما يتعلق بأعمالها العسكرية التدميرية في غزة. وإذ تميل الصراعات الطويلة إلى إثارة المزيد من الإدانة الدولية والدعوات لوقف إطلاق النار، فإن هذا الضغط ولا سيما من الحلفاء الرئيسيين والهيئات الدولية، يمكن أن يؤثّر على قرارات وقف تصعيد العمليات العسكرية.

في موازاة ذلك، يجب عدم إغفال واقع أن الصراع الانتخابي في أميركا بات أكثر حدّة بعد ارتفاع حظوظ دونالد ترامب ليصبح الأوفر حظّاً لمواجهة الرئيس جو بايدن الذي خسر الكثير من خلال عدم انتصاره على روسيا وفي ضوء حرب إسرائيل على غزة التي حصدت دعماً شبابياً عالمياً غير مسبوق، بما في ذلك داخل أميركا.

ولذلك فإن مصلحة واشنطن تقتضي بتغيير نمط عمل الجيش الإسرائيلي ليصبح أكثر دقة ويبقى على حدود غزة ومستعداً للدخول في عمليات خاطفة إذا أراد.

لكن هذه الخطوات تعني أن إسرائيل استسلمتْ لواقع أن تحرير الأسرى لدى «حماس» لن يتم إلا بالتفاوض بعد إنهاء الحرب وأن الحركة والفصائل المقاومة الأخرى لن ترضى إلا بانسحاب إسرائيلي كامل وإعادة إعمار غزة قبل تسليم جميع الأسرى، مع إخلاء جميع السجون الإسرائيلية من الأسرى الفلسطينيين قبل وبعد السابع من أكتوبر وإنهاء العمليات الخاصة والاغتيالات للقادة في غزة والضفة.

لقد استطاعتْ إسرائيل تدميرَ جزءٍ من البيئة الحاضنة للمقاومة وتقديم صورة عن حجم الدمار والقتلى المستعدة لإيقاعه في حال هوجمتْ مرة ثانية. وهذه أهداف معقولة لم تعلنها إسرائيل لتتبناها لاحقاً. ويجد الجيش نفسه أمام مقاومة لم تُهزم وتعود بقوة إلى مناطق غزة - التي لم تتركها أصلاً - وأمام مستوطنين لن يعودوا من دون إعطائهم الطمأنينة اللازمة والأمن المطلوب لمنع تكرار ما حدث في السابع من أكتوبر.

حققت إسرائيل أهدافاً تكتيكية لا تستطيع بناءَ مستقبل على أساسها. وتالياً لم يتبق لأميركا سوى حلّ الدولتين، وهو اقتراح قديم جديد لن يحصل ما دام نتنياهو وحكومته المتطرفة في السلطة، ولن يستطيع بايدن التعويل على رئيس الوزراء الحالي ليقدّم له أوراقاً يمكن أن يعتقد أنها قد تكون رابحة في معركته الانتخابية.

وهكذا تكون حرب غزة عملتْ على الإطاحة بنتنياهو وقادة إسرائيل وكذلك ببايدن عندما تتوقّف قرقعة السلاح. أما لائحة انتصار المقاومة، على الرغم من الخسائر البشرية والمادية الفادحة التي لا تعطي أي انتصار لأي جيش بل هي وصمة عار تلاحقه لأمد طويل، فتتضمّن فوزاً إستراتيجياً تعوّل عليه دول الشرق الأوسط مستقبلاً وأهمّ عناصره انكسار صورة «الجيش الذي لا يُقهر» والذي فشل في تحقيق أهدافه أمام مجموعة أقلّ عدداً وعُدة وذات روحية صلبة تتفوّق على أقوى الأسلحة والجيوش.

https://www.alraimedia.com/article/1673274/