عبد الحميد البجوقي - هسبرس

الثلاثاء 5 شتنبر 2023







الطقس في بنما استوائي، معدل الحرارة يتراوح بين 24 و29 درجة، لكنه مُحَمَّل برطوبة مفرطة، وفقط يختلف فيه الشتاء عن بقية فصول السنة بزخات مطرية متقطعة تعود بعدها إشراقة الشمس. كان صباح يوم الجمعة 18 غشت 2023 فرصة للتخلص من روتين اللقاءات والندوات، قررتُ أن أنفرد يومها بزيارة للمدينة العتيقة وبعدها إلى بحيرة مُجاورة مرتبطة بالممر المائي الذي تمتد منه قناة بنما الشهيرة. غادرت الفندق مبكرا في اتجاه المدينة العتيقة، وانطلقت كعادتي في مثل هذه الزيارات بدون برنامج أو خريطة، وارتميتُ في أحضان المدينة وضجيجها، عمارات شاهقة يفوق بعضها 50 طابقا، وبنايات فاخرة تحتضن مؤسسات تجارية كبرى وعدد هائل من البنوك، سيارات فاخرة تَعبُر المدينة بجوار أخرى قديمة ومترهلة، توقفتُ في زاوية قريبة من مفترق طرق يؤدي يساره إلى طريق المدينة العتيقة عند بائع متجول للفواكه المحلية يعرضها قطعا صغيرة في كؤوس بلاستيكية، عرفتُ من سحنته ولون بشرته أنه من السكان الأصليين، طلبت كأسا من فاكهة المانغو وسألت البائع الذي انتبه إلى أنني أجنبي عن مصدر الفواكه، وهل هي محلية، كانت وسيلتي لتجاذب أطراف الحديث معه، وأجابني مبتسما وببشاشة تُمَيِّز السكان الأصليين أن فواكهه محلية وطرية، كان غرضي من السؤال التواصل معه واكتشاف الإنسان البنمي العادي بعيدا عن بروتوكول الندوات واللقاءات الرسمية، وأظُنُّ أن الرجل انتبه إلى ذلك، لم يراوغ في الجواب وأخبرني بسرعة أن اسمه كريسطوبال وأنه يتحدر من شعب بوغلي “Los Buglé”، وفورا انتقل يُحَدِّثُني بإعجاب عن بنما وينتقد بشكل لاذع حكومة بلده وسياسة رئيس الدولة والفساد والمحسوبية المنتشرين في دواليب الدولة، ظنَّ البائع في البداية أنني إسباني قبل أن أخبره أنني مغربي، وانفجر حينها يهنئني بحماس بإنجاز المغرب في كأس العالم لكرة القدم بقطر، أخبرني أنه تَعَّرَف على المغرب كأغلب البنميين في مباراة كأس العالم الأخيرة.

راقني سحر هذه اللعبة ودورها في التعريف بشعوب العالم ودُوَّله، وأن تصل عبرها أصداء المغرب إلى بنما، كما وصلت أصداء البرازيل مع بيلي والأرجنتين مع الساحر مارادونا إلى المغرب والعالم، سرَّني أن يتعرف بائع المانغو على المغرب عبر كرة القدم، بقدر ما أحزنني أن لا يعرفه بإنجازات في العِلم والأدب والثقافة وغيرها، بين هذا وذاك اكتفيت بكون كرة القدم كغيرها من الرياضات فن وإبداع، وأن أغلب لاعبي الفريق الوطني أبناء الشتات المغربي المنتشر في العالم، وأن المغرب له جيش من السفراء يجوبون العالم ويقدمونه في أجمل الحُلل. هممت بالأداء وأنا أسأل كريسطوبال عن المدينة العتيقة وبحيرة غامبوا، تَطَلَّع إلي وهو يواصل تنظيف وترتيب قطع الفواكه في الكؤوس البلاستيكية ونصحني قائلا:

ـ البحيرة أجمل في الصباح ببهاء الطبيعة وبهجتها، والمدينة العتيقة أجمل في المساء بأجوائها الاحتفالية وضجيجها ومقاهيها العتيقة.

هممتُ بالسؤال عن أجواء البحيرة حين قاطعني:

ـ اطمئن وتوجه الآن إلى البحيرة، طبيعة خلابة وساحرة، وسكان القرية المجاورة هنود فقراء لا يملكون حسابات بنكية، لكنهم أغنياء بأرواح أجدادهم، ولا يطلبون أكثر مما يحتاجون، هم حماة ما تبقى من الطبيعة التي نهشتها القناة.

غادرتُ في اتجاه موقف لـ”الطاكسيات” قريب من المكان عازما على زيارة البحيرة والسكان المجاورين لها من الهنود، وظلت كلمات كريسطوبال ترنُّ في أذني بعمق مضمونها ومغزاها، بطريقته الخاصة وبلباقة وحكمة الهنود بَلَّغني الرجل رسالة السكان الأصليين عن معاناتهم منذ وطأ الإنسان الأبيض الإيبيري هذه الأرض، ولَمَّحَ ببساطة لا تخلو من عمق وحكمة لتدمير الطبيعة ومخاطر التغير المناخي وجشع الرأسمال العالمي، عادت بي الذاكرة حينها إلى مشاهد اللقاءات الرسمية في معرض الكتاب ومداخلات المشاركين عن تلاقح الثقافات الغنية باختلاطها مقابل رسالة بائع المانغو من السكان الأصليين عن اغتصاب الثقافات والتنكيل بها وبالطبيعة، وعن أي معنى للهوية الغنية بتعدد جداولها إذا فقدت أصولها وإنسانيتها،

كلام الرجل أعادني إلى مراجعة مغزى شعار معرض الكتاب في دورته 22 ببناما “الهوية والأصل Identidad y Origen” وأوحى لي بتقويم العنوان ووضعه على قدميه بتقديم الأصل على الهوية، بمعنى أن لا يُلغي تعدد الهويات وتلاقحها الأصل في وجودها وكأن الرجل يقترح أن يكون الشعار: “الأصل والهويات” وليس العكس، وتَحَسَّرتُ حينها أن لا يكون هذا الرجل مشاركا في فعاليات المعرض الدولي للكتاب ببلده وأن تنفتح معارض الكتاب على عموم الناس الذين هم أصل الهوية والتعدد.

فقط استغربت أن يحمل الرجل اسم مكتشف أمريكا الأبيض والإيبيري كريسطوبال كولومب.