شيء من تاريخ القسوة والدم في العراق -...


نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي




نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


بغداد
والمسماة أيضاً "مدينة السلام"، وفي الجانب الغربي من نهر دجلة "الكرخ" في يوم الإثنين الرابع عشر من تموز من العام 1958، كانت هناك جثة لرجل لا يسترها أي شيء ربطت بحبال غليظة، تتدلى من شرفة "فندق الكرخ"، يتجمع تحتها مجموعة من الفتيان والشباب والأطفال وهم يتراقصون ويتصايحون، كان بأيدي بعض منهم سواطير وسكاكين، وربما كانوا يمتهنون القصابة، فسرعان ما بدأوا بتقطيع الجثة وفصل أعضائها عنها.

المشهد هذا ليس مشهداً مأخوذ من أحد أفلام الرعب في السينما، إنما كان واقعاً حدث في هذا التاريخ وفي هذه المدينة التي لم تعرف بعده السلام. ولنبدأ من البداية، الجثة المعلقة من على شرفة الفندق كانت جثة الأمير عبد الإله ولي العهد والوصي على عرش العراق لمدة أربعة عشر عاماً خلت، أبن الملك علي الهاشمي آخر ملوك المملكة الحجازية، أبن الشريف حسين قائد "الثورة العربية الكبرى".

نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


ولد الأمير عبد الإله يوم الاثنين 24 تشرين الثاني 1913 في مدينة الطائف في الحجاز في بيت جده لأمه الملكة نفيسة، وبعد مرور ستة أشهر على ولادته وعلى عادة أهلها أرسل الى مكة المكرمة وفي الشهر السابع وضع على باب الكعبة وطيف به داخلها.

وتقرر أن يعيش الطفل عبد الإله في قصر الخاصكية المطل على الحرم المكي بين الصفا والمروة، وبعد أن بلغ الخامسة من عمره، رافق والدته وشقيقاته الخمسة إلى الشام للالتحاق بعمه الأمير فيصل بن الحسين حيث وصلت الملكة نفيسة مع بناتها وولدها إلى دمشق قبل مدة قصيرة من تتويج الأمير فيصل ملكاً على سوريا عام 1918.

وبعد أن تمت مراسيم التتويج التي جرت في ساحة الشهداء في دمشق في شهر تشرين الأول عام 1918 قرر الملك فيصل أن يُلحق أبن أخيه الأمير عبد الإله بإحدى المدارس السورية.

وبقي عبد الإله في سوريا مدة بقاء عمه الملك فيصل ملكاً عليها والتي استمرت سنة ونصف، حيث قرر الملك فيصل أعادة عائلته وعائلة أخيه الأمير علي إلى المدينة المنورة، بعد أن تيقن من الصدام بينه وبين القوات الفرنسية التي قررت إخضاع سوريا لسيطرتها.

وصلت العائلتين إلى المدينة المنورة وبعد إتمام زيارة المسجد النبوي تقرر رجوعهم إلى مكة، وهكذا عادت عائلة الأمير علي بن الحسين إلى مكة للعيش فيها تحت رعاية الملك حسين ملك مكة المكرمة والحجاز طيلة توليه عرش المملكة التي امتدت عشر سنوات.


نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


بعد اشتداد النزاع الهاشمي السعودي قرر الملك علي بن الحسين إخراج عائلته من ضمن الكثير من العوائل الحجازية من مكة لإبعادهم عن ويلات الحرب التي باتت وشيكة الوقوع بين جيش آل سعود والجيش الحجازي، فغادرت العائلة مكة المكرمة إلى مصر، وبعد بقائها في مصر فترة من الزمن غادرت مصر متوجه إلى المملكة الأردنية الهاشمية لتكون تحت رعاية الملك عبد الله بن الحسين الذي خصص لها قصر الحسين لإسكانها.

وبعد ثلاثة أشهر من وصول الملك علي بن الحسين إلى العراق بعد أن تنازل عن عرش مملكة الحجاز يوم 15 كانون الأول 1925. طلب الملك فيصل الأول الذي توج ملكاً على العراق في 23 آب 1921 في ساحة القشلة ببغداد، مجيء العائلة إلى العراق والعيش إلى جانب أبيهم.

تلقى الأمير عبد الإله منذ صغره وحتى الكبر تعليمه في أكثر من بلد بسبب تنقل عائلته من بلد إلى آخر، فخلال وجوده في سوريا تعلم مبادئ القراءة والكتابة التي تناسب عمره الذي لم يتجاوز 6 سنوات، وبعد عودته إلى مكة المكرمة قرر جده الشريف حسين أن يواصل حفيده تعليمه فعهد إلى القائد العسكري محمود خلوصي وهو ضابط ركن كفوء في الجيش العثماني أن يتولى تعليمه مبادئ العسكرية، والعلوم الدينية، فيما تولى الدكتور خليل الحسيني أحد أطباء الثورة العربية تعليمه مبادئ اللغة العربية والجغرافية. وأثناء وجوده في الأردن تولى تعليمه الدكتور جميل التوتونجي العلوم العامة والفلسفة ومبادئ اللغة الفرنسية.

عند مجيء الأمير عبد الإله إلى بغداد عهد عمه الملك فيصل الأول إلى نخبة من كبار العلماء والأساتذة العراقيين مهمة تدريسه، فعهد إلى يوسف العطا وهو من كبار علماء العراق تدريسه مبادئ الفقه الإسلامي، بينما تولى الأستاذ نعمان الأعظمي تدريسه قواعد اللغة العربية.

كان الملك علي بن الحسين معروفاً عنه أنه كان عالماً بأحكام الشريعة الإسلامية وشديد التمسك بأهداب الدين، لذلك فقد حرص على أن يدفع بولده عبد الإله ويشجعه لإكمال دراسته في الشريعة الإسلامية فأرسله إلى القدس عام 1928 لإكمال دراسته في هذا المجال، غير أنه لم تكن لدى عبد الإله هذه الرغبة، فلم يستمر بمواصلة دراسته في القدس ورجع إلى العراق.

وبعد عودته من القدس إلى بغداد بقي فيها فترة من الزمن ثم توجه إلى مصر للالتحاق بكلية فكتوريا في الإسكندرية لدراسة اللغة الإنكليزية وآدابها ودراسة العلوم المصرفية.

بقي عبد الإله في هذه الكلية لمدة ثلاث سنوات استطاع خلالها أن يوثق علاقته بالعديد من الطلبة الذين كانوا يدرسون فيها، إلا أنه لم يستطيع مواصلة الدراسة في كلية فكتوريا لصعوبتها فعاد إلى العراق عام 1935 وعين موظفاً في وزارة الخارجية.


نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


كان عبد الإله محباً للرياضة بشكل كبير وعرف برعايته للنوادي الرياضية وتشجيعه للشباب لممارسة الرياضة.

ومحباً كذلك للفروسية والصيد، وكان يهوى جمع التحف الثمينة. كان الأمير عبد الإله رجلاً متعدد الهوايات إلا أن أهم هواياته التي أبدع فيها هي رياضة الفروسية التي أعتاد على ممارستها صباح كل يوم بين الحقول والبساتين، وعرف بحبه للخيول العربية الأصيلة، وكان يعرف أنسابها وأصولها بشكل جيد، وأقتنى أفضل أنواع الخيول واهتم بالعناية بها وأشرف على تدريبها بواسطة مدربين أكفاء ماهرين وأشراكها في السباقات الأسبوعية، فضلاً عن ذلك كان له مقصورة خاصة في سباق الخيل (الريسز) في منطقة المنصور التي يتردد عليها برفقة الملك فيصل الثاني، كما كان له عضوية في أحد الأندية البريطانية الخاصة هو نادي صيد الثعالب، وهذه الرياضة تجرى على ظهور الخيل.

وكان يتسابق مع بعض الشخصيات التي تجيد ركوب الخيل أمثال اللواء عبد الله عبيد المضايفي والذي كان مرافقاً خاصاً له وغيره من الشخصيات.

وكان يقود سيارته المكشوفة على وجه الخصوص بنفسه والتجول في شوارع بغداد، كما يجيد ركوب الدراجة (الموتوسيكل) إجادة تامة، ويحب ممارسة رياضة التجديف في فصل الصيف. وكان يجيد لعبة التنس ويزاولها ثلاث مرات في الأسبوع.


نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


بعد ان توفي الملك فيصل الأول في سويسرا يوم 7 أيلول عام 1933 بسبب انسداد الشرايين حسب ما جاء في البيان الرسمي الذي أذيع في اليوم التالي.

وفي ذلك الصباح 8 أيلول توجه رئيس الوزراء آنذاك رشيد عالي الكيلاني، والوزراء وبعض الأعيان والنواب إلى القصر الملكي وقدموا التعازي إلى الأمير غازي، وطلبوا منه بصفته ولياً للعهد أن يؤدي اليمين الدستوري التي نص عليها القانون الأساسي (الدستور) تمهيداً لمبايعته ملكاً على عرش المملكة العراقية خلفاً لوالده،


نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


ثم أعلن رئيس الوزراء الكيلاني تتويجه ملكاً باسم الملك غازي الأول.

أثار بقاء الملك غازي الذي كان يتمتع بشعبية كبيرة لدى العراقيين وطموح كبير على رأس السلطة المشكلات في وجه بريطانيا،

وأصبح يهدد مصالحها في العراق والمنطقة فكان التخلّص منه أمراً ضرورياً وحتمياً في نظر بريطانيا،


نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


في صباح الرابع من أبريل/نيسان 1939، نعى مجلس الوزراء الملك غازي على إثر اصطدام سيارته التي يقودها بنفسه بالعمود الكهربائي الواقع بالقرب من قصر الحارثية (الرحاب) القريب من قصر الزهور الذي يقيم فيه، فهوى العمود على السيارة وأصاب رأس الملك إصابة بليغة أودت به.

وصدر البلاغ الرسمي الموقع من خمس أطباء بسبب الوفاة، وكتب القاضي خليل المفتي محضر التحقيق وسبب الحادث الذي هو القضاء والقدر.


نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


وبذلك آل العرش إلى ولده الوحيد فيصل من زوجته الملكة عالية، والذي كان آنذاك في الرابعة من عمره، (ولد في بغداد يوم 2 مايس 1935).

وبعد أن عقد مجلسي الأعيان والوزراء جلسة مشتركة يوم الخميس 6 نيسان 1939 والاستماع لشهادة الملكة عالية شقيقة عبد الإله وزوجة الملك غازي وأيدت الشهادة الأميرة راجحة شقيقة الملك غازي، بأن الملك أكد في مناسبات عدة بأنه في حالة حدوث أي شيء فأن أبن عمه الأمير عبد الإله هو الذي سيكون وصياً على أبنه فيصل.


نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


قرر المجلس تنصيب الأمير عبد الإله الذي لا يحمل الجنسية العراقية حتى يوم تنصيبه لأنه يعتبر نفسه لايزال ولي عهد عرش مملكة الحجاز. كان الأمير عبد الإله في السابعة والعشرين من عمره عندما نصب وصياً على العرش، ومن المرجح أن الساسة الكبار أمثال نوري السعيد ورشيد عالي الكيلاني وغيرهم، شعروا بإمكانية السيطرة عليه لكونه شاباً بهذا العمر.

عبد الإله إنساناً بسيطاً طيباً اختاره القدر أن يكون حاكماً في بلد يموج بالمتناقضات التي اعجزت عمه فيصل الأول من قبل، دون ان يهيأ لهذا المنصب، وكان قدره أن يأتي للحكم على أثر حادثة في غاية الغرابة والغموض، وما أكثر الغرائب التي ستنهي حياته كشاب وطني عروبي متحمس فيما بعد.

ولعل من الممكن حصر الخطوط الرئيسة التي حددت سيرة عبد الإله طيلة فترة الوصاية وولاية العهد، والتي أثرت في حياته وفي طرق تفكيره وتقديره ومعالجته للأمور وهي:

ثقافته السياسية البسيطة، وتجربته المعدومة في ممارسات الحكم، ثم أمله في العودة إلى عرش الحجاز الذي ورثه عن أبيه والذي تحول إلى العمل على عرش سوريا وكذلك العقداء الأربعة الذين وقفوا خلفه حتى استلم الوصاية على العرش دون عمه الأمير زيد أصغر أبناء الشريف حسين، والأخ غير الشقيق للملك فيصل الأول، المرشح الأقوى والأصلح، والذي كان ولي عهد المملكة السورية العربية عندما كان أخيه فيصل ملكاً عليها. وكان متزوجاً من امرأة تركية وطبقاً للبعض كان مرفوضاً بسبب سلوكه الاجتماعي المتحرر وميوله التركية التي كانت محط شك الساسة العرب، وطبقاً لآخرين كان مرفوضاً كونه جد مستقل بحيث لا يمكن تطويعه.


حركة مايس 1941 من أهم الأحداث التي واجهت عبد الإله


اتسمت السنة الأولى من وصاية الأمير عبد الإله على العرش باستقرار نسبي، إلى حد ما بسبب تزامن مؤقت للمصلحة بين نوري السعيد والضباط القوميين في الجيش العراقي، والذين كانوا من جيل الضباط الشباب ذوي الاتجاهات القومية العربية، وكانت الدافع الرئيسي وراء دخولهم المعترك السياسي، وتوجههم صوب سياسة أكثر عروبية.


نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي