عربي بوست




تم النشر: 2022/12/02


نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


حينما كان ريتشارد بوكيارلي في الأوروغواي -وهو بروفيسور كندي مهتم بكرة القدم بالمناسبة- رأى وعرف الكثير عن بلد بحجم الأوروغواي، البلد الذي حقق لقب كأس العالم مرتين، ورغم ذلك لا يُرشحه أحد حالياً للظفر بلقب واحد.

في مونتيفيديو، العاصمة، شاهد ريتشارد كل شيء تقريباً، كرة القدم ليست الرياضة الأولى في الأوروغواي فحسب، بل هي الرياضة الأهم على الإطلاق، والناس يتوقفون عن ممارستها حينما يلعب المنتخب الوطني فقط، حينها يصبح الشعب كله مشاهداً لما يحدث.

كرة القدم في الأوروغواي تُعبر تماماً عن الحياة العادية فيها، إنها مصدر الرزق الوحيد الذي يمكن من خلاله النجاة من الفقر، الذي يمكن من خلاله أن تحيا حياة كريمة، وما دونها يعني الهلاك، لقد رأى ريتشارد كيف ينام الناس في الشوارع، كيف ينامون وسط القمامة، كيف هي حالة الملاعب التي يلعب عليها الأطفال.

رآهم يتقاتلون، يلعبون كل مباراة كأنها الأخيرة، يشدون ويتجاذبون الأقمصة ويلعبون بعنف مبالغ فيه، وبعد عودته من التدريبات كان يركب رفقة رجل انتظر لفترة، ريتشارد لا يفهم لماذا كل هذا الانتظار؟!

طفل صغير يقطع الحي من بعيد، خارجاً من التدريبات، إنه أفضل لاعب شاهده ريتشارد خلال التدريبات، كان صغيراً، وعرف من الرجل أن هذا الصغير يعيش في أسرة فقيرة، ويُحاول بكل الطرق توفير الأموال لشراء ما يلزمه؛ لذا فإنه يطلب من آباء الأطفال أن يصطحبوه معهم من وإلى التدريبات، لأنه لا يملك أجرة أية مواصلة، وكذلك لا يريد أن يُرهق والديه بأي أمر قد يؤثر بأي حال من الأحوال على بقية أفراد الأسرة.

هذا بالتحديد ما دفع لويس سواريز لانتقاد أنطوان غريزمان، لاعب أتلتيكو مدريد ومنتخب فرنسا، ربما لأن غريزمان كان يتقلد تقاليد الأوروغواي في كل شيء، يرتدي الأوشحة التي تحمل أعلام الأوروغواي، ويشرب المتة، ويعترف بأنه نصف أوروغوياني، نصف فرنسي، وكان يحب دييغو جودين بشدة، لدرجة أنه جعله الأب الروحي لابنته.

مشكلة سواريز مع غريزمان لم تكن في هذا الادعاء، بل في أن غريزمان لم يعِش ما عاشوه في الأوروغواي، ولن يعيش أي شيء منه طوال حياته، ببساطة لأنه من أوروبا، وفي أوروبا لا يعيش الناس في الفقر كما يحدث في الأوروغواي، ولأن غريزمان في الأساس من أسرة ثرية فرنسية.

وإذا كان هناك من يمكنه أن يُعبر أكثر عن الأوروغواي وشعبها، فإنه وبكل تأكيد لويس سواريز، تزايُد حجم الأسرة يُقلل من متطلبات الفرد، كالحذاء على سبيل المثال، لم تكن الخيارات متاحة، وُلد في سالتو، لكنه خرج للبحث عن الذات في العاصمة مونتيفيديو، كُل شيء فُرض عليه، كانت الخيارات شحيحة، على الرغم من غريزته المتوحشة، هي القصة المملة ذاتها، سنحدثك عن الفقر، وعن الأحلام، اللاعب الذي تغلّب على كل المعوقات ليصل؛ لكن هذه القصة مختلفة بعض الشيء.

إنه الأوسط بين سبعة أشقاء، والأسرة الفقيرة لا تستطيع أن توفر كل شيء لكل فرد فيها، هذا ما دفعه إلى البحث عن الأحذية البالية في الشوارع، بها يستطيع أن يحمي قدميه، وأحياناً كان يتكيف على التعامل من دونها.

هو الرجل الذي في عام 2010، حينما وقف العالم كله ضده، وقف أمام العالم كله لحمايته إدواردو جاليانو، الموسوعة البشرية الأوروغويانية، الرجل الذي وضع مقولة عظيمة أمام أبناء شعبه، مفادها "إذا لم تتركنا نحلم؛ لن نتركك تنام".

من هنا نشأت الفكرة لدى لويس سواريز نفسه، الفوز هو الغاية والوسيلة في آنٍ واحد، وكل السبل المشروعة أو ما دونها لا بد أن ترضخ من أجله.

البيئة التي خرج منها علَّمته أن يفعل أي شيء ليحقق مبتغاه، حتى وإن استهجنه العالم بأكمله، لدرجة أنهم قالوا إن رغبته في الفوز دفعته لالتهام قطعة من كل بلد زاره، قطعة من إيطاليا، ومن تركيا، وحتى من صربيا، وكل قطعة تمثلت في كتف أو ذراع لاعب يمنعه.

بالتحديد، هذا ما جعل جاليانو يدافع عنه في 2010، هو الشارع وابنه وممثله، وحينما منع كرة أبياه في ربع نهائي كأس العالم في الثانية الأخيرة أشاد به، وقال إنه فعل ما هو أكثر من منعها، لقد غادر الملعب على فعلته، لكن الأوروغواي لم تغادر معه.

ولم يكن لويس سواريز وحده من أتى من مدينة متوحشة كتلك، إدينسون كافاني أيضاً، قالوا إن سالتو تجعلك تولد كبيراً، لا يعرف معظم أطفالها معنى أن تكون طفلاً حقاً، بمجرد أن تصرخ صرخاتك الأولى وتفهم كيف هي الحياة تُجبرك سالتو على البحث عن أماكن أفضل للعيش فيها وطلب الرزق.

حالهما كحال أي نجم أوروغوياني قد تعرفه، فمثلاً الطفل الذي نشأ في أسرة فقيرة، والده كان عاملاً، ووالدته أجبرتها الحياة أن تخرج للعمل لكي تساعد زوجها، في الوقت الذي كان رونالد آراوخو في مدارس حكومية مجانية.

بدأت الأم في بيع المخبوزات، حدث ذلك في أكاديمية هوراكان لكرة القدم، وكانت تشاهد الأطفال يلعبون ويمرحون بالكرة، فقالت ولِمَ لا؟ لماذا لا يكون ابنها واحداً منهم وبينهم؟

قرّرت في يومٍ ما أن تعرض الفكرة على زوجها، والذي حاله كحال معظم الناس في الأوروغواي، كان يعرف أن كرة القدم هي الوسيلة الوحيدة للنجاة من الفقر؛ فوافق على الفكرة.

ليضع رونالدو آراوخو قدمه في الأكاديمية، ويتألق، يجذب أنظار كبار الأوروغواي، تحديداً فريق بينارول، أكبر فريق في الأوروغواي!

ولأن الحياة تستوجب السعي لم تكن الخطوة بضخامتها التي يتوقعها الجميع، فشل رونالدو آراوخو، وكان مُرغماً هذه المرة أن يعود أدراجه سريعاً، إلى أسرته، والبيئة التي دعمته في هذه الخطوة.

مشكلة آراوخو الوحيدة أنه لم يكن رونالدو آراوخو الذي نعرفه حالياً، كان يلعب في مركز المهاجم، والفضل كل الفضل يعود إلى سيرجي كابريرا، الأب الروحي له، والذي في يوم ما قرّر أن يُغير مركزه من مهاجم إلى قلب دفاع، بسبب طول قامته وقوته الجسمانية الهائلة، وهذا ما جعله يكتشف نفسه بصورة أكبر ويتأقلم أسرع على الوضع الجديد.

خاصةً أنه كان يشارك باستمرار في الماراثون وسباقات الجري، فكانت كرة القدم مساحة كبيرة يمكنه من خلالها أن يُظهر ما هي القوة التي تعيش بداخله.

كان معهم أيضاً فيدريكو فالفيردي، لاعب ريال مدريد الحالي المتألق، والذي لم يكن على ما هو عليه في صغره، ربما لأنه كان شاحباً تماماً، وملامحه وجسده لا يوحيان إطلاقاً بأنه يستطيع الركض لأكثر من خمس دقائق.

لكن الفتى كان يؤمن، حاله كحال كل مواطن أوروغوياني، بأن كرة القدم هي الوسيلة الوحيدة للنجاة من الفقر، لذا فإنه قرّر أن يركض حتى يتوقف قلبه عن العمل، وحتى تنفجر قدماه، كما صرّح مُسبقاً عن دوره في ريال مدريد، وحبه للفريق، ورغبته في تحقيق كل ما يمكن تحقيقه من أجله.

وهذا بالتحديد ما يجعلنا نتأكد أن الفتى الذي رآه ريتشارد بوكيارلي، لم يكن مجرد صدفة صنعها القدر، بل هو نتاج تاريخ طويل من سكان البلد نفسه، وهذا الفتى يسير على نهج مَن سبقوه، لويس سواريز، كافاني، وكل أسطورة أوروغويانية مرت على تاريخ كرة القدم.


نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

بينهم وبين العرب

بينهم وبين العرب مسافة كبيرة على الخريطة، وفي الفكر، وفي كل شيء تقريباً، بالمناسبة، تعداد سكان الأوروغواي تقريباً 3.5 مليون نسمة، تكبرها الأرجنتين بحوالي 15 ضعفاً في تعداد السكان، والبرازيل بحوالي 80 ضعفاً، وحتى بنما، الدولة التي لا وجود لها تقريباً في كرة القدم، أكبر من حيث التعداد السكاني من الأوروغواي.

لكن هذا الأمر لم يقف عائقاً أبداً أمام الأوروغواي، لا في الماضي ولا في عصرنا الحالي، لكي تتصدر مشهد كرة القدم، وتصبح أكثر دولة تحقيقاً لألقاب كوبا أميركا بالمناصفة مع الأرجنتين، برصيد 15 لقباً لكل منهما.

ولا أن تُناصف الأرجنتين في الأمر نفسه، لكن على النطاق الدولي، وتحقق كأسي عالم، بدأ الأمر في عام 1924، حينما حققت الأوروغواي الميدالية الذهبية في الألعاب الأولمبية في باريس، وقالوا يومها إنهم لم يصبحوا مجرد بقعة في خريطة العالم، ومنذ ذلك اليوم بدأ كل شيء ولم ينتهِ على الإطلاق.

هم أول من حققوا البطولة الافتتاحية لكأس العالم على مدار تاريخه، وهم أكثر من سببوا ألماً في نفوس وعقول الشعب البرازيلي، حدث ذلك في عام 1950، حينما حققوا كأس العالم في أرض البرازيل، وبين جماهيرها، اليوم الذي كتب عنه إدواردو جاليانو وقال:

"كانت المباراة الصامتة الأكثر صخباً في تاريخ كرة القدم".

كان الشعب البرازيلي يحتفل مسبقاً باقتراب اللقب، لكن الجميع تفاجأ بأن الأوروغواي لا تقبل بأن تكون وصيفاً، لأنها تعرف أن كرة القدم هي الوسيلة الوحيدة للنجاة من الفقر.

ولمثل هذه الأسباب هم يتفوقون على كل المنتخبات العربية تقريباً، على الصعيد القاري، رغم أن محافظة واحدة في دولة عربية قد تكون أكبر من حيث التعداد السكاني من دولتهم بأكملها، شرقاً وغرباً، وربما لأن اليوم الذي رأينا فيه دموع خوسيه ماريا خيمينيز، في روسيا عام 2018، كانت دموعه تُعبر عن أكثر منتخب عدائي مر على كرة القدم، إنهم لا يقبلون الهزيمة، ويعتبرونها عاراً يُلاحقهم، لهذا وقف لويس سواريز مانعاً الكرة على خط المرمى في 2010، وفي الدقيقة الأخيرة من ربع نهائي كأس العالم، ومدحه وسانده إدواردو جاليانو، رغم أن العالم كله وقف ضده.