عربي بوست




طبيب أردني مقيم في ألمانيا


تم النشر: 2022/02/17


نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


صورة أرشيفية من الحرب العالمية الثانية - رويترز


قرأت كتاب "امرأة في برلين"، وهو مذكرات يومية لامرأة ثلاثينية ألمانية، تروي فيه أحداث ثمانية أسابيع من سقوط العاصمة برلين في يد السوفييت مع نهاية الحرب العالمية الثانية، ربيع عام 1945 ، وما تلاها من اغتصاب الجنود الروس الجماعي لفتيات وسيدات برلين (جميعهن تقريباً!).

"امرأة في برلين" خليط من تفاصيل يوميات الملاجئ البائسة قبيل سقوط العاصمة، تتلوها أحداث السلب والنهب والاغتصاب التي مارسها الجنود الروس في المدينة المحتلة، وانتهاء بالحياة العصيبة التي خاضتها نساء المدينة في فترة ما بعد انطفاء مدافع الحرب الرهيبة.

امرأة في برلين.. كيف عانت؟

نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي



غلاف كتاب امرأة في برلين

المشاعر المبثوثة في الكتاب صعبة وقاسية للغاية، ابتداءً من تلاشي الأمل الواهي بالانتصار في حرب مجنونة قادها مجانين، وصولاً إلى لحظة الهزيمة الواقعة وانتشار ظاهرة انتحار العائلات الألمانية الجماعي خوفاً من انتقام قوات الحلفاء، ومن ثم انقضاض الجنود الشبان الروس على كل من تقع عليهن أعينهم من إناث (صغيرات كنَّ أم كبيرات، متزوجات أم عزباوات، أم أرامل، صحيحات أم مريضات وذوات عاهات).

اغتصاب واسع لمدينة رجالها مختفون في الأسر أو المنفى، أو هاربون من ذلك كله، مدينة من النساء المتضورات من جوع أيام الحرب، وبؤس وكآبة الملاجئ المتهدّمة تحت قصف الطائرات الأمريكية الذي لم يرحم، اغتصاب لمرات عديدة، وفي أوضاع مخزية، يتكرر كل يوم تقريباً، لأسابيع، قبل أن تصدر الأوامر الرسمية (المتأخرة جداً) من العاصمة المنتصرة موسكو بمنع ذلك.

مشاعر الكاتبة في كتابها "امرأة في برلين" ومن حولها من نساء في ظل هذا القاع هو أنفس ما في الكتاب، طريقة تقبل البرلينيات للأمر، باعتباره انتقاماً مشروعاً للمنتصرين، بعد أن نكّلت القوات النازية بمدنهم وقراهم، يسألن بعضهن عند اللقاء: "كم مرة؟".

يتحولن إلى أشباحِ بشر من الجوع والبؤس والكآبة، لجوء بعضهن إلى تقديم الجنس لاحقاً للحصول على فتات الخبز واللحم، خضوعهن كمدنيات برجوازيات لمنطق وثقافة المغتصبين الروس القادمين من بيئات وقرى بدائية، تعاليهن عليهم في النهار، وانكسارهن لنزواتهم في الليالي الباردة الطويلة.

الكاتبة تعلنها لاحقاً بشكل صادم: لم تكن تفكر أيامها سوى في طعامها! الجوع الشديد سد عليها منافذ التفكير ببؤسها وامتهان كرامتها المتكرر، شروعها في كتابة هذه المذكرات التي صارت فيما بعد يوميات "امرأة في برلين" لم يكن سوى حيلة لـ"تقيؤ" مشاعرها على الصفحات.

خذلها الجميع، حتى أبناء جلدتها وجيرانها عندما كانت تطلب منهم أبسط عون أو طلب إيواء، فلجأت إلى السير في طريق مؤلم بغرض النجاة فقط.

في المذكرات أيضاً وصفٌ للشخصية الألمانية وعجائبها المضحكة أحياناً، "تقديس النظام" إلى الحد الذي يجعل أهل المدينة يمشون على طول السكة الحديدية بدلاً من ركوب القطار الفارغ المتحرك، وذلك لأن التذاكر محدودة! (رغم سقوط المدينة وسقوط إدارتها).

والتعالي على الجنود المحتلين، واحتقار ثقافتهم الريفية وجهلهم بالفنون والموسيقى، وبدائية حياتهم الجنسية، رغم الإذلال العظيم الذي فرضه هؤلاء عليهم جميعاً، والتمحور المطلق حول الذات، والتعامل ببرود وبجلافة مع الجيران الألمان بعد توقف القصف والمدافع، رغم مشاركة الجيران أنفسهم حياة الملجأ الضيق الخانق قبل أيام قليلة.

وكذلك التعامل مع الأحداث الجسام والمصائب الفادحة بلغة الأرقام والإحصاء الجامدة: عدد مرات الاغتصاب، رتب المغتصبين العسكرية، أعداد المحروقين في مراكز الاعتقال النازية، عدد كيلوغرامات حصص الخبز التي يحوزها الفرد من سلطة الاحتلال… إلخ.

بقي أن أقول إن هذه المذكرات تروي فترة مصيرية في التاريخ الألماني، هذه الفترة ستطبع العقلية الألمانية إلى الأبد بطابع الاعتراف الكامل بجرائمهم تجاه الآخرين، إلى الحد الذي يبررون فيه لأنفسهم وقوعهم تحت نير المنتصرين الجدد، وربما تفسر لنا أيضاً النظرة شبه الفوقية التي تنظرها المرأة الألمانية لنظيرها الرجل، بعد أن عجز عن حمايتها من قطعان المحتلين المغتصبين، بل كانت هي السبَّاقة لحمايته وتخبئته من خطر الاعتقال والترحيل.