نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


د. حامد الحمود - القبس



22 سبتمبر 2022

مضى أكثر من عشر سنوات على آخر زيارة لي لمدينة كولونيا بـ«العربية» أو كولون بـ«الإنكليزية» أو كُلُنْ بـ«الألمانية»، والمدينة أعطت اسمها للعطور الخفيفة بسبب نجاح ماء الكولونيا المسمى «4711» الذي بدأ تصنيعه في هذه المدينة منتصف القرن التاسع عشر. وزيارتي هذه لمدينة كُلُنْ هي زيارة مختلفة.

فإضافة إلى كوني أزورها رفقة ولدَيَّ حمود ويوسف، فإنَّها مختلفة لأنها المرة الوحيدة التي سمحت لنفسي أن أكتشفها.

فكنت في السابق أزورها لاجتماع عمل أو لزيارة معرض تجاري. وعادة ما أسكن فيها عندما تكون الزيارة لمعرض تجاري أو صناعي في مدينة دوسلدورف، التي تبعد عنها ساعة بالقطار. أما إذا كان المعرض في كُلُنْ فأسكن في دوسلدورف. هذا لكي أتجنب دفع أسعار فنادق باهظة في المدينة التي يكون المعرض فيها، والتي تقفز فيها أسعار الغرف إلى خمسمئة يورو، وكان استكشافي لمدينة كُلُنْ مقصوراً على زيارة قصيرة لكاتدرائية المدينة لدقائق قصيرة، وأخذ صور لمصلين يشعلون الشموع.


لكن زيارتي هذه كانت مختلفة كوني تمشيت فيها لساعات، وعبرت الجسر الحديدي (جسر هوهنزولرن) المعلق على مسار المشاة عليه الآلاف من الأقفال، والتي يعلقها عليه المحبون «تبركاً» به لجلب حظ أو لديمومة المحبة. وعرفت من لوحة معلقة على مدخل الجسر أنه جرى إنشاؤه عام 1911، وأن الجيش الألماني قام بتفجيره في مارس 1945؛

لمنع عبور قوات الحلفاء، وأعيد إنشاؤه عام 1948 من قبل شركة كروب Krupp وهي الشركة الأهم في ألمانيا في صناعة الحديد، وكانت وراء تطور صناعة الأسلحة في فترة ألمانيا النازية.

وفي هذه الرحلة شاهدت أهم ما يميز مدينة كُلُنْ بعد الكاتدرائية، ذلك هو تمثال ملك بروسيا فريدريك وليام الثالث في ساحة الهوي ماركت. ويظهر فيه فريدريك وليام الثالث فارساً على حصانه، منتصباً على منصة يبلغ ارتفاعها أكثر من مترين، استخدم محيطها لنصب تماثيل لرجال مهمِّين في حقبة حكمه.

وهناك صورة لهذا النصب أُخذت عام 1945 بدون فارس وحصانه، وكأنه يحكي للسائحين ما حل بالمدينة من قصف من قبل قوات الحلفاء عام 1945.

فأجزاء من المدينة سويت بالأرض من شدة القصف، لكن الطيارين تجنبوا قصف الكاتدرائية بأوامر من قيادتهم.



وفي هذه الزيارة منحت نفسي بعض الوقت رفقة ولدَيَّ لزيارة متحف لودفيج Ludwig الذي بني من قبل المدينة، ومنح هذا الاسم بعد أن تبرع بيتر لودفيج بثلاثمئة وخمسين لوحةً لمشاهيرَ مثل دالي وبيكاسو وماتيس وفرانسيس بيكون الذي غُطيت لوحته بزجاج، مما ذكرني بلوحة لفرانسيس بيكون شاهدتها في متحف معهد الفنون في شيكاغو وغُطيت بزجاج كذلك. وشرحت لي ابنتي لطيفة أن لوحات فرانسيس بيكون تثير مشاعر غضب عند بعض من يشاهدها، حتى أن لوحته في معهد شيكاغو للفنون مراقبة بالكاميرا، إضافة إلى حمايتها بالزجاج.

فمن خلال لوحاته يفضح الأيرلندي بيكون مدى معاناته من تربية والده له، كما أنه يفضح التحرش الجنسي بالأطفال الذي يرتكبه بعض رجال الدين في الكنيسة الكاثوليكية. وفي هذا المتحف شاهدت لوحة عنوانها «القبلة» لبيكاسو، وقارنتها بلوحة الفنان النمساوي كليمت بالعنوان نفسه والتي هي أقرب للواقعية من لوحة بيكاسو التي تحتاج مساعدةً لشرح مغزاها.



صباح الجمعة 16 سبتمبر، أمشي وحدي بمحاذاة نهر الراين، ولفت نظري انخفاض مستوى المياه، لذا عندما تساقط المطر لم يزعجني ذلك، بل فرحت مشاركاً ملايين المزارعين الأوروبيين الذين يعانون من الجفاف. وتمنيت أن يكون لدي الوقت والطاقة لأن أستمر بالمشي محاذاة النهر إلى دوسلدوروف، هذه المدينة التي زرتها لأول مرة عام 1983 في أول رحلة عمل إلى ألمانيا. استمر المشي مستعيداً ذكريات عشرات الزيارات لهذا البلد الذي لعب شعبه وتاريخه ووعيه أحياناً وتخلفه أحياناً أخرى في تشكُّل عقل العالم، إن كان للعالم عقل واحد، أو ربما وعي واحد.

وقد ساعدني على فهم اليسير من تاريخ هذا الشعب ما قرأت لروائيين مثل إيريك ماريا ريمارك (1893ـــــ1970) الذي شارك جندياً في الحرب العالمية الأولى، وبناء على تجربته كتب «كل شيء هادئ على الجبهة الغربية» والتي تحولت إلى فيلم. كما ساعدني على فهم اليسير من رؤى وعواطف هذا الشعب ثلاثة من الأدباء الألمان الذين فازوا بنوبل وهم هيرمان هيسه (1877ــــ1962) وهاينريش بول (1917ــــ1985) وغونتر غراس (1927ــــ2005)، وأعتقد أن هيرمان هيسة الذي كان أكثر روائي ألماني قرأت له، ساهم من خلال رواياته بتعزيز التوازن الداخلي في عواطفي.



أستمر في المشي متخيلاً ألمانيا، كإنسان قدَّم في سنواته الخمسين الأولى أفضل وأسوأ ما عنده لنفسه وللعالم. ففي الأعوام الخمسين الأولى من القرن العشرين قدمت ألمانيا للبشرية أشعة X، وطورت الأسمدة الكيميائية وقدمت مئات المميزين في الفيزياء والكيمياء والاقتصاد وعلم الاجتماع، لكنها قدمت للبشرية كذلك الغازات السامة والحرب العالمية الثانية والهولوكوست، الذي لو لم يحدث لما كان لإسرائيل أن تتأسس، على الأقل بالطريقة التي تأسست بها. وفي النصف الأول من القرن العشرين الذي شهد حربَينِ عالميتَينِ، واستخدمت فيه الغازات السامة بالحرب الأولى والقنبلة الذرية في الحرب الثانية، والذي ساهم العلماء الألمان في تطوير الاثنين، فمن هاجر منهم إلى الولايات المتحدة كان وراء تطوير القنبلة الذرية.

وما حصل من كوارث في منتصف القرن العشرين، لم يكن خارج توقعات الشعراء وعلماء الاجتماع الألمان المميزين. لكنهم كانوا مهمشين، وكانوا يوصفون بأنهم ثوريون ويساريون وهدامون. فترد عليهم روزا لوكسمبورغ بأن «الناس لا يصبحون ثوريين لأنهم يحبون الأزمة أو الكارثة، بل يصبحون كذلك لأنهم يخشون هذه الازمة أو الكارثة»، لكن الشرطة الألمانية اغتالتها في برلين في يناير 1919.



وجدت نفسي قريبا من متحف الكاكاو، وأعجبني كثيرا مبناه الذي بني مباشرة على نهر الراين. أشترى تذكرة بـ 14 يورو لأدخل المتحف، والتي رأيت أنها غالية على متحف صغير نسبيا. لكنهم ربما رأوا أن من يحب الكاكاو لن تثنيه 14 يورو عن دخول المتحف.

شربت قهوة في المقهى لأُريِّحَ، مخزِّناً طاقةً للمشي في المتحف. واكتشفت في جولتي بالمتحف أن الجزء الأول منه، كان متحفاً علمياً يشرح للزائر ما قدمه علماء النبات من دول مثل ألمانيا والسويد من اكتشافات لأنواع من النباتات في الغابات الحارة الماطرة التي من بينها الكاكاو في أميركا الجنوبية وأفريقيا وآسيا.

أما الجزء الثاني من المتحف فكان مصنعاً للكاكاو، وينتج 400 كغم يومياً، والذي يعتبر صغيراً جداً، لكنه وضع لكي يشاهد الزائر خاصة الأطفال بأنفسهم عملية تصنيع الكاكاو.



في المساء ألتقي صديقاً ألمانياً سائلا إياه عن التحديات التي ستواجهها ألمانيا في الأشهر المقبلة، وأسأله تحديداً: هل هناك قلق على المستقبل؟ فيجيبني:... قلق؟ ألمانيا لا يمكن أن تعيش من دون قلق أو Angst بـ«الألمانية». نحن رابع قوة اقتصادية في العالم، وما يحركنا شعباً ودولةً هو القلق. نحن لا نستطيع أن نعيش من دون قلق!


د. حامد الحمود


Hamed.Alajlan@gmail.com


hamedalajlan@






https://alqabas.com/article/5894340 :إقرأ المزيد