نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

قصة خبرية

٢٤ نوفمبر ٢٠٢١

عماد أبو الفتوح

عندما جاء عام 1982، كانت شركة «جونسون آند جونسون» تمرّ بأوقات رائعة، فعلى الرغم من أن الولايات المتحدة آنذاك كانت على وشك الدخول الى فترة من الركود الاقتصادي، فإن الشركة العملاقة كانت تعيش أزهى أوقاتها، حيث تبلغ قيمتها مليارات الدولارات، وتستحوذ على مئات الشركات حول العالم، ومنتجاتها تملأ الأرفف في كل مكان، ما جعلها تحقق زيادة في المبيعات وصلت الى %16 في العام السابق.

والحقيقة، انه على الرغم من نجاح الكثير من منتجات الشركة، فإن منتج واحد بالتحديد كان يقود الازدهار الضخم في أداء الشركة، وهو دواء «تايلينول» المُسكن للألم، الذي كان يُباع في الصيدليات مباشرة دون الحاجة الى وصفة طبية. حقق هذا الدواء انتشاراً واسعاً في السوق حتى استحواذ على ثلث سوق المُسكّنات في أميركا، وحقق مبيعات بمئات الملايين من الدولارات، ما يعادل %20 من إجمالي ارباح الشركة.

اما بالنسبة للتوقعات المستقبلية للمنتج، فلم يكن الأمر أقل إثارة، حيث أشارت البيانات آنذاك الى أن النمو المتوقع لدواء «تايلينول» سيستمر لخمس سنوات مقبلة ليستحوذ على حصة أكبر قد تصل الى نصف سوق المسكنات، ما يعني زيادة اضافية متوقعة لأرباح الشركة بشكل هائل، كان الجميع متفائلين، والأمور تسير على ما يُرام، ولكن المتنبّي لم يكن يمزح عندما قال: تجري الرياحُ بما لا تشتهي السفنُ!

السُحب تتجمَّع

لم تكد عدة أشهر تمرّ على الشركة التي تزهو بأرقامها المتصاعدة، الا وحدثت أمور ما كانت في حسبان مُديريها التنفيذيين: حوادث قتل غامضة لسبعة أشخاص في مدينة شيكاغو، لم تفصل بين وفاتهم الا عدة ايام، وكان العامل المشترك بين كل الضحايا هو استخدامهم لدواء «تايلينول»، الذي تنتجه جونسون آند جونسون. وبالمزيد من التحقيقات، اكتشفت الشرطة أن القاتل قام بخلط التايلينول بمادة البوتاسيوم سيانيد السامة.

تسربت الاخبار الى وكالات الانباء، فانطلقت موجة من الذعر بين سكان شيكاغو، وبدؤوا يتخلصون من التايلينول خوفاً من أن يكون مسمماً. زادت هذه المخاوف مع تحذيرات الشرطة للسكان بعدم استخدام التايلينول، وعدم شرائه من الصيدليات، بل واعادت ما لديهم من هذا الدواء الى الصيدليات والمراكز الطبية في اقرب وقت ممكن.

ضربة ليست بالحسبان

بعدها بيومين، تم حظر بيع التايلينول في المدينة بالكامل، وانتقال الخبر الى مدن وولايات أميركية أخرى، الأمر الذي أدى – خلال ستة أسابيع فقط – الى انخفاض مبيعات التايلينول بنسبة %80.

ومع موجة ذعر هائلة اصابت الجميع، وحديث لا يتوقف من الصحافة حول حوادث القتل الغامضة التي يُذكر فيها باستمرار اسم دواء التايلينول، كان من الطبيعي أن يتعرض التايلينول – الذي يعتبر أفضل منتجات الشركة - الى أكبر حملة دعائية سلبية على الإطلاق، توقع العديد من الاداريين في الشركة أنه من الصعب جداً التصدّي لها، وأنه ما من سبيل لإنقاذ منتجهم المميز الذي سيجد طريقه الى الموت المحقق خلال اسابيع، الا ان هذه الأزمة بالتحديد، تحولت لاحقاً من خطر داهم يهدد سمعة الشركة، الى واحد من أفضل وأروع نماذج فن ادارة الازمة، والتي لا تزال تُدرّس حتى اليوم في كليات الاعمال في كل انحاء العالم.

أهلاً بالعاصفة

في غضون أيام من اشتعال الأزمة، قرر جيمس بورك المدير التنفيذي في جونسون أند جونسون قراراً نهائياً صارماً: سحب 31 مليون علبة وزجاجة من التايلينول من الأسواق فوراً، مع التعهد للمستهلكين ان الشركة ستعيد لهم نفس المنتج مجاناً لكن بوسيلة تأمين أكبر.

بدا هذا القرار مبالغاً فيه للغاية بالنسبة للعديد من الاداريين في الشركة، وأخبروا «بورك» ان هذه الخطوة قد تثير قلق المستهلكين أكثر تجاه المُنتج ويشعرهم أن الخطر يشمل كل المناطق في أميركا، الا ان «بورك» كان يستهدف شيئاً آخر أكثر عمقاً، شيئاً قادراً على تحويل هذه الأزمة الخطيرة الى فرصة ممتازة لتلميع العلامة التجارية للشركة، ليس فقط خلال هذه الأزمة وإنما لسنوات طويلة قادمة.

كان بورك يستهدف «استغلال» هذه الأزمة، لتعزيز مبدأ «الثقة» لدى العملاء، عندما يرى العميل أن سبعة أشخاص قُتلوا باستخدام منتجات جونسون آند جونسون ــ غير المتورطة في أي شيء بالأساس ــ فتقوم هذه الشركة بسحب كل منتجاتها من كل الاسواق، وإعادة توزيعها مرة أخرى بمعايير أكثر أماناً، فهذا بالتأكيد جديرٌ بأن يزرع ثقة عميقة في نفس كل مستهلك لخدمات هذه الشركة على المديين القريب والبعيد. وكان هذا بالضبط هو رهان بورك لحل الأزمة.

السلامة أولاً

خلال شهر واحد، وبعد سحب المنتج من الاسواق بالكامل، أعلن بورك عن خطة جونسون أند جونسون إعادة طرح الدواء للأسواق مرة أخرى ولكن بشكل أكثر أماناً، وبدون أي زيادة في سعره. سيكون الدواء في عبوة ثلاثية الإغلاق يستحيل فتحها او العبث بها قبل ان يستخدمها المستهلك. وفي الوقت نفسه، خصصت الشركة لجنة طوارئ للتعامل مع وسائل الإعلام والشرطة، لدرجة أن الشركة خصصت جائزة قدرها 100 ألف دولار لمن يستطيع التوصل الى القاتل.

كانت تكلفة كل هذه الاجراءات هائلة على خزينة جونسون آند جونسون، حيث تكلّف سحب كل العبوات من السوق، وصناعة العبوات الجديدة المؤمّنة حوالي 100 مليون دولار. ولكن في المقابل ومع الاعلان المستمر عن هذه الاجراءات من شركة جونسون، خفت تماماً وتيره القلق من منتجات الشركة، وتحولت الى اشادة هائلة بالاجراءات التي تتخذها للحفاظ على صحة وسلامة عملائها من ناحية، والمشاركة في البحث عن القاتل من ناحية أخرى، على الرغم من أنه ليس مطلوباً من الشركة الانخراط في هذه العملية بالأساس.

شكراً للعاصفة!

كانت الأرقام الفصلية التي تلت حوادث التسمم كارثية بالنسبة لأرباح جونسون آند جونسون بالطبع، حيث تراجعت الايرادات الكلية للشركة بنسبة %25، مع الانهيار الكبير الذي حدث في مبيعات أهم منتجاتها واكثرها توزيعاً. ولكن، ومع بدء اتخاذ الاجراءات التي فرضها المدير التنفيذي جيمس بورك، تعافت الشركة بشكل سريع، حيث شهد الشهران الأولان من العام 1983 عودة اسهم الشركة الى قيمتها التي كانت عندها قبل حوادث التسمم.

لاحقا، وبعد 8 اشهر من تطبيق اجراءات التعامل مع الأزمة، استعاد التايلينول %85 من حصته في سوق المُسكِّنات، ثم لم يلبث ان استعادها بشكل كامل في نهاية العام، ليتم الاعلان عن تجاوز الشركة للأزمة نهائياً.

وبنهاية 1983، لم تكن جونسون آند جونسون قد تخطت واحدة من اكبر العواصف التي مرّت بها فقط، بل استفادت بشكل كامل منها بضرب عصفورين بحجر واحد: حماية منتجها المميز في السوق، وتلميع علامتها التجارية امام الملايين من مستخدميها حول العالم!

فلنعدّل الأشرعة

بحسب أحد مديري جونسون آند جونسون الذين شهدوا هذه الأزمة، ونشر مقالاً في صحيفة النيويورك تايمز يحكي تفاصيلها، لم يكن تقليدياً على الإطلاق في ذلك الوقت أن تقرر شركة كبرى أن تسترد كل منتجاتها من السوق، ثم تعيد طرحه بحُلّة أكثر أماناً وكفاءة، لمواجهة الأزمة ولإعادة الثقة في قلوب عملائها تجاه علامتها التجارية. لذلك، وبعد أربعين عاماً من هذه الحادثة، اعتبرت الخطوات التي اتخذها جيمس بروك دليلاً أساسياً لمبادئ «ادارة الأزمة» Crisis Management الذي تدرسه كل الشركات اليوم.

ربما لا يوجد أفضل من مقولة الكاتب الأميركي وليام آرثر وارد لوصف الاجراءات التي اتخذها جيمس بورك في مواجهة الأزمة:

المتشائم يشكو من الريح، والمتفائل يصمد أمامها أملاً في توقفها. أما الواقعي، فيعدّل الأشرعة!* * * * * * *



https://alqabas.com/article/5869319 :إقرأ المزيد