نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

د. حامد الحمود

٢٤ يونيو ٢٠٢١

غيّب الموت الشاعرة لميعة عباس عمارة، عن عمر يتجاوز التسعين عاماً بقليل. وقد ارتبط اسم الشاعرة باسم الشاعر بدر شاكر السياب، الذي انتقل إلى رحمة الله في الكويت عام 1964 عن 38 عاماً. وتتميز لميعة بشعرها العذب والسهل المباشر. وقد اشتهرت بقصيدتها «لو أنبأني العراف» 1980

تقول فيها:

لو أنبأني العراف

لم أكتب غزلاً في رجل
*
خرساء أصلي

لتظل حبيبي

لو أنبأني العراف

أني سألامس وجه القمر العالي

لم ألعب بحصى الغدران

ولم أنظم من خرز آمالي

أن حبيبي

سيكون أميراً فوق حصان من ياقوت

شدتني الدنيا بجدائلها الشقر، لم أحلم أني سأموت

لكن فوق ذلك يذكرني غياب هذه الشاعرة المرهفة، بما نشرته أنا عن الزبير بعد سقوط نظام صدام ، وكان مقالاً طويلاً في القبس و«النهار» اللبنانية بعنوان «الزبير بداية ونهاية تجمع حضري نجدي في جنوب العراق». وموضوعه عن هجرة الزبيريين من نجد وتجمعهم في الزبير، التي بنيت بالقرب من قبر الصحابي الزبير بن العوام (رضي الله عنه) الذي قتل في معركة الجمل، التي وقعت في 36 هجرية، وقتل معه الصحابي طلحة بن عبيدالله (رضي الله عنه)، وأُسرت فيها السيدة عائشة بنت أبي بكر الصديق (رضي الله عنهما). وقد اختار النجديون هذا المكان لقربه من البصرة، ولكونه مكاناً تتقاطع فيه القوافل التجارية. ولحوالي ثلاثة قرون، عاش هؤلاء النجديون محافظين على خصوصيتهم وعاداتهم وتقاليدهم مع تحقيق علاقة اقتصادية عضوية مع مدينة البصرة – ثغر العراق إلى العالم.

ونشأت الزبير كمدينة أشبه ما تكون مدينة نجدية، وضعت على مبعدة 15 كلم غربي البصرة. وكانت خالية من الزراعة باستثناء مزارع محدودة حواليها. ولم يزرع فيها حتى النخيل. والحقيقة أنه لا حاجة لها لذلك عندما تكون ملاصقة للبصرة. فتجارها – كما تجار الكويت – استثمروا كثيراً في مزارع النخيل في البصرة. ونتيجة لعدم الاستقرار الذي أصاب العراق منذ سقوط النظام الملكي عام 1958، ولاكتشاف النفط في الكويت والسعودية، بدأت هجرة عكسية لأهل الزبير إلى السعودية والكويت، هروباً من عدم الاستقرار وبحثاً عن الرزق، فأوطانكم حيثما ترزقون. وقد حدثت الهجرة العكسية للزبيريين من العراق بكثافة في بداية السبعينات، خاصة بعد أن فتحت السعودية أبوابها لهم مانحتهم الجنسية باعتبارها استعادة لجنسيتهم الأصلية. وكانت آخر دفعة من الزبيريين تغادر الزبير إلى السعودية مباشرة بعد الغزو الأميركي للعراق.

وفي مقالي «الزبير بداية ونهاية تجمع حضري جنوب العراق» شرحت عن علاقة الزبيريين الاقتصادية والعاطفية مع نخيل العشار وأبو الخصيب. وكيف كان مصدر رزق وغذاء لهم. كما أن تجارتهم فيه أحدثت لهم فرصاً تجارية أخرى من استيراد وتصدير وتملك للأراضي. وتناولت في مقالي كيف تم تدمير مزارع النخيل في البصرة وعلى ضفاف شط العرب، من خلال القصف المتبادل بين القوات العراقية والإيرانية في حربهما التي استمرت من 1980 إلى 1988. وكيف احترقت مزارع النخيل ودفنت الأنهار التي ترويها لتسمح بمرور الدبابات وقطع المدفعية. وفي خاتمة مقالي هذا اقتبست من قصيدة للشاعرة العراقية لميعة عباس عمارة، التي انتقلت إلى رحمة الله في كاليفورنيا بالولايات المتحدة عن عمر يناهز 92 عاماً. فالشاعرة كما الزبيريين لهم علاقة عاطفية بنخيل البصرة. فقد زارت الشاعرة لميعة مزارع النخيل في كاليفورنيا بعد الحرب العراقية ــ الإيرانية. وقد صورت معاناة النخيل أثناء الحرب، معبّرة عن ذلك بلسان فلاح أميركي اسمه لي أندرسن، أخبرها بنفسه أنه تألم عندما شاهد نخيل البصرة محترقاً على شاشة التلفزيون. تقول لميعة:

كنا نتبادل مع لي أندرسن

أخبار النخل وما أكثرها

ونعود بأعذاق خلال البرحي

وصناديق الخضراوي

في موسم ما بعد الحرب

كان حزيناً جداً لي أندرسن

شاهد في التلفاز

صور النخل المحروق على مد البصر

منتصباً أعمدة سوداء

كنساء بثياب حداد

وثكالى بغداد

منتصباً يقف النخل المحروق على مد البصر

شهداء لم تدفن

ليذكر بالحرب العبثية

ترثيه الريح

وتعول نادبة:

حتى النخل ضحية؟

حتى النخل ضحية؟

وبعد سنوات قليلة من الغزو الأميركي وسقوط صدام، زارت الشاعرة لميعة عباس عمارة الكويت بدعوة من مهرجان القرين. والتقيتها مرتين: مرة بمنزل الروائي طالب الرفاعي، والمرة الثانية في منزل الأخ فيصل المناعي. فذكرتها بقصيدتها هذه، ومن حديثي معها تشوقت أن أزور مزارع النخيل في كاليفورنيا.

ففي عام 2017، كنت مع زوجتي في كاليفورنيا، وذهبت مع صديق فلسطيني، كان يعيش في الكويت قبل عام 1990، إلى مزارع النخيل في مدينة كوشيلا بالقرب من مدينة بالم سبرنغ، التي تبعد ساعتين شرق لوس أنجلوس. والغريب ونحن نقترب من كوشيلا بدأت أشاهد أشجار الأثل من النوعية نفسها التي زرعها الزبيريون حول الزبير منذ مئات السنين. ووصلنا إلى كوشيلا وزرت أكثر من مزرعة، ولاحظت كيف تمكن الأميركان من تطوير إنتاجية النخلة الواحدة. فعذوقها ممتلئة وحبة البرحي كبيرة.

هناك في كوشيلا تذكرت الشاعرة لميعة عباس عمارة، واستمتعت برؤية النخيل من جميع الأنواع.. لكني لم أقابل الفلاح لي أندرسن، الذي شارك آلامها باحتراق نخيل البصرة.

وقد أخبرني الأخ فيصل خاجه أخيراً أنه كان على تواصل دائم مع الشاعرة لميعة، وتحدث إليها منذ حوالي شهرين، وكان من ضمن الحديث معها أن دعاها إلى زيارة الكويت، فأخبرته أن للكويت مكانة خاصة في قلبها، ورغم أن الطبيب حذرها من السفر وركوب الطائرة فإنها على استعداد للمخاطرة في حياتها من أجل زيارة الكويت مرة أخرى.

د. حامد الحمود



https://www.alqabas.com/article/5854060 :إقرأ المزيد