كتابات - أحمد الكاتب
الحلقة الأولى
تلعب أسطورة قتل عمر لفاطمة الزهراء، وما رافقها من اقتحام بيتها واحراق باب دارها وعصرها واسقاط جنينها، التي تنتشر في بعض الأوساط الشعبية الشيعية منذ قرون، دورا سلبيا في إثارة الفتنة بين المسلمين الذين يصدق بعضهم الأسطورة فيتخذ موقفا سلبيا من الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، انتصارا للسيدة فاطمة الزهراء، بينما يعتبر كثير من المسلمين عمر بن الخطاب نموذج الامام العادل، وهكذا ينشأ الصدام بين المسلمين وتتعمق العداوة والبغضاء فيما بينهم، ولذلك يجدر بنا القاء ضوء على هذه الأسطورة لنرى كيف نشأت؟ وكيف انتشرت؟ ومتى؟ ومن كان وراءها؟
وماذا كان موقف الشيعة في القرون الأولى وكذلك موقف أهل البيت عليهم السلام من الخليفة عمر بن الخطاب؟
***********
الموقف الإيجابي الأول
إذن فان الفتنة الكبرى التي عصفت بالجيل الأول من المسلمين، فتحت الباب أمام عمليات نقد واسعة ضد عدد من الصحابة الذين قادوا الحروب والمعارك منذ حصار عثمان وقتله مرورا بحرب الجمل وانتهاء بحرب صفين. ولم يكن نقد الصحابة (أو سبهم أو لعنهم أو تكفيرهم) يقتصر على الشيعة الذين لم يكونوا قد تبلوروا بعد كطائفة خاصة، وانما كانوا لا يزالون حزبا سياسيا يوالي الامام علي، أو كانوا في فترة معينة يمثلون التيار العام للمسلمين في عهد حكم الامام، ثم تشعب منهم "الخوارج" الذين انشقوا على الامام علي وكفروه، واندمج قسم آخر منهم في صفوف معاوية بعد تنازل الامام الحسن عن الخلافة.
وبما أن الشيعة في ذلك الوقت لم يكونوا يمتلكون أية نظرية سياسية خاصة بهم كنظرية الامامة الالهية التي ولدت فيما بعد، فقد كان موقفهم من الشيخين الجليلين الخليفتين الراشدين أبي بكر وعمر (رضي الله عنهما) موقفا إيجابيا وعاديا كموقف بقية المسلمين، وكانوا يكنون لهما كل المحبة والتقدير، بل وعمل بعض قادة الحزب الشيعي ولاة لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، مثل سلمان الفارسي الذي أصبح والي المدائن، وعمار بن ياسر والبراء بن عازب، وحذيفة بن اليمان، وسهل بن حنيف، وعثمان بن حنيف، وحجر بن عدي، وهاشم المرقال، ومالك الأشتر. وعندما استشار عمر بن الخطاب رضي الله عنه علياً عليه السلام في الشخوص لقتال الفرس بنفسه، قال له الإمام :"(إن هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا قلة، وهو دين الله من الله، والله منجز وعده وناصر جنده، والعرب اليوم وإن كانوا قليلاً فهم كثيرون بالإسلام، وعزيزون بالاجتماع. فكن قطباً واستدر الرُّحى بالعرب، وأصلهم دونك نار العرب، فإنك إن شخصت – أي خرجت – من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها، حتى يكون ما تدع وراءك من العورات أهمَّ إليك مما بين يديك. إن الأعاجم إن ينظروا إليك غداً يقولوا: هذا أصل العرب، فإذا قطعتموه استرحتم، فيكون ذلك أشد لكلبهم عليك وطمعهم فيك". نهج البلاغة
وهناك رواية يذكرها ابن قتيبة الدينوري ومصادر شيعية أخرى، تؤكد هذا المعنى، وتقول:
- إن حجر بن عدي وعمرو بن الحمق ، وعبد الله بن وهب الراسبي، دخلوا على علي ، فسألوه عن أبي بكر وعمر: ما تقول فيهما؟ وقالوا: بين لنا قولك فيهما وفي عثمان. فقال علي: وقد تفرغتم لهذا؟ وهذه مصر قد افتتحت وشيعتي فيها قد قتلت؟ إني مخرج اليكم كتابا أنبئكم فيه ما سألتموني عنه فاقرءوه على شيعتي، فأخرج اليهم كتابا فيه:
"... فلما مضى (رسول الله) تنازع المسلمون الأمر بعده، فوالله ما كان يلقى في روعي ولا يخطر على بالي أن العرب تعدل هذا الأمر عني، فما راعني الا إقبال الناس على أبي بكر، وإجفالهم عليه، فأمسكت يدي، ورأيت أني أحق بمقام محمد في الناس ممن تولى الأمور علي، فلبثت بذلك ما شاء الله، حتى رأيت راجعة من الناس رجعت عن الاسلام يدعون الى محو دين محمد وملة ابراهيم عليهما السلام، فخشيت إن أنا لم انصر الاسلام واهله أن أرى في الاسلام ثلما وهدما ، تكون المصيبة به علي أعظم من فوت ولاية أمركم التي إنما هي متاع أيام قلائل ثم يزول منها ما كان كما يزول السراب، فمشيت عند ذلك الى أبي بكر فبايعته، ونهضت معه في تلك الاحداث حتى زهق الباطل، وكانت كلمة الله هي العليا، وأن يرغم الكافرون.
فتولى أبو بكر رضي الله عنه تلك الأمور فيسّر وسدّد وقارب واقتصد، فصحبته مناصحا وأطعته فيما اطاع الله فيه جاهدا، فلما احتضر بعث الى عمر فولاه فسمعنا وأطعنا، وبايعنا وناصحنا، فتولى تلك الأمور فكان مرضي السيرة ميمون النقيبة أيام حياته ، فلما أحتضر قلت في نفسي: ليس يصرف هذا الامر عني، فجعلها شورى وجعلني سادس ستة... ثم قالوا لي: هلم فبايع عثمان، والا جاهدناك، فبايعت مستكرها وصبرت محتسبا، وقال قائلهم: انك يا ابن ابي طالب على الأمر لحريص، فقلت لهم: أنتم أحرص... حتى اذا نقمتم على عثمان فقتلتموه، ثم جئتموني تبايعونني، فأبيت عليكم وأبيتم علي، فنازعتموني ودافعتموني ، ولم أمدَّ يدي ، تمنعا عنكم، ثم ازدحمتم علي، حتى ظننت أن بعضكم قاتل بعض، وأنكم قاتلي، وقلتم: لا نجد غيرك، ولا نرضى الا بك، فبايعنا لا نفترق عنك ولا نختلف، فبايعتكم ودعوتم الناس الى بيعتي فمن بايع طائعا قبلت منه، ومن أبى تركته، فأول من بايعني طلحة والزبير، ولو أبيا ما أكرهتهما، كما لم أكره غيرهما، فما لبثا الا يسيرا حتى قيل لي : قد خرجا الى البصرة في جيش ما منهم رجل الا وقد أعطاني الطاعة وسمح لي بالبيعة...".[1]
وعندما جدد الشيعة بيعتهم للامام علي بعد خروج الخوارج إلى حروراء والنهروان قالوا له: نحن أولياء من واليت وأعداء من عاديت. فشرط لهم الامام أن يوالوا من والى على سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويعادوا من عادى على سنته، فجاء ربيعة بن أبي شداد الخثعمي - وكان صاحب راية خثعم في جيش الإمام أيام الجمل وصفين- فقال له الإمام: بايِع على كتاب الله وسنة رسوله. فقال ربيعة: وعلى سنة أبي بكر وعمر. فقال الإمام: لو أن أبا بكر وعمر عملا بغير كتاب الله وسنة رسول الله لم يكونا على شيء من الحق.
وقال الامام أمير المؤمنين عليه السلام في رسالته التي بعث بها إلى أهالي مصر مع قيس بن سعد بن عبادة واليه على مصر:".. فلما قضى (رسول الله) من ذلك ما عليه قبضه الله عز و جل صلى الله عليه ورحمته و بركاته، ثم إن المسلمين استخلفوا به أميرين صالحين عملا بالكتاب والسنة و أحسنا السيرة ولم يعدُوَا لِسُنـَّتِهِ ثم توفّاهما الله عز و جل رضي الله عنهما".[2]
وقال عليه السلام عن أخيه عمر بن الخطاب بالخصوص:"..لقد قوَّم الأود و داوى العمد و أقام السنة و خلَّف الفتنة، ذهب نقيَّ الثوب، قليل العيب، أصاب خيرها و سبق شرَّها، أدَّى إلى الله طاعته واتَّقاه بحقِّه".[3]
وتجلى هذا الموقف الإيجابي من الشيخين أيضا في ثقافة أهل البيت عليهم السلام، وخصوصا في دعاء الامام السجاد علي بن الحسين، الذي يقول فيه:"... اللهمّ وأصحاب محمد صلى الله عليه وآله خاصة الذين أحسنوا الصحبة والذين أبلوا البلاء الحسن في نصره، وكاتفوه وأسرعوا إلى وفادته، وسابقوا إلى دعوته، واستجابوا له حيث اسمعهم حُجّة رسالاته، وفارقوا الأزواج والأولاد في إظهار كلمته، وقاتلوا الآباء والأبناء في تثبيت نبوته وانتصروا به، وما كانوا منطوين على محبته يرجون تجارة لن تبور في مودته، والذين هجرتهم العشائر إذ تعلقوا بعروته وانتفت منهم القرابات إذ سكنوا في ظل قرابته، فلا تنس لهم اللهمّ تركوا لك وفيك وأرضهم من رضوانك".[4]
وقد روى الكليني في (الروضة من الكافي) عن أبي بصير قال:"كنت جالساً عند أبي عبد الله عليه السلام، إذ دخلت علينا أم خالد تستأذن عليه، فقال أبو عبد الله: أيسرك أن تسمع كلامها؟ قال: فقلت: نعم، قال: فأذن لها، قال: وأجلسني معه على الطنفسة، قال: ثم دخلت فتكلمت، فإذا امرأة بليغة، فسألته عنهما – أي عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما – فقال لها: توليهما، قالت: فأقول لربي إذا لقيته: إنك أمرتني بولايتهما، قال: نعم".
وينقل كثير من المصادر السنية: أن الامام علي كان يقول: "لا أُوتَى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا ضربته حدَّ المفتري".[5] حتى ان القاضي المعتزلي عبد الجبار الهمداني نقل في كتاب (تثبيت النبوة) أن أبا القاسم نصر بن الصباح البلخي قال في (كتاب النقض على ابن الراوندي): أن سائلا سأل شريك بن عبد الله فقال له: أيهما أفضل أبو بكر أو علي؟ فقال له: أبو بكر. فقال السائل: تقول هذا وأنت شيعي؟ فقال له: نعم، من لم يقل هذا فليس شيعياً. والله لقد رقي هذه الأعواد علي فقال:"ألا إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر". وسواء صحت هذه الرواية أم لم تصح، وذلك لأن الشيعة عموما كانوا يُعرفون تاريخياً بتفضيلهم الامام علي، فان من الثابت أن الشيعة في القرن الأول كانوا يحترمون الشيخين ويوقرونهما أشد توقير، ولم تكن لهم مؤاخذات الا على بعض الصحابة الذين حاربوا الامام علي أو اختلفوا معه. وهذا ما يؤكده إمام أهل السنة في القرن الخامس الهجري اللالكائي حيث يروي عن ... حريث بن ابي مطر سمعت سلمة يقول: جالست المسيب بن نخبة (نجية) الفزاري في هذا المسجد عشرين سنة وناسا من الشيعة كثيرا فما سمعت أحدا منهم تكلم في أحد من اصحاب رسول الله الا بخير، وما كان الكلام الا في علي وعثمان.[6]
وهو ما يؤكده أيضا محب الدين الخطيب بقوله:"من الظواهر التي تسترعي الأنظار في تاريخ هذه الفترة أن الغلاة من الفريقين -فريق الشيعة وفريق الخوارج- كانوا سواء في الحرمة للشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، تبعاً لما كان عليه أمير المؤمين علي نفسه، وما كان يعلنه على منبر الكوفة من الثناء عليهما والتنويه بفضلهما".[7]
-----------------------------------
[1] - الدينوري، ابن قتيبة، الامامة والسياسة ج1 ص 133-134 دار المنتظر بيروت 1985
[2] - إبـراهيم بن هلال الثقفي فـي كتـابـه: " الغارات " ج1/ص210 ، و السيد علي خان الشوشتري في كتابه " الدرجات الرفيعة " ص 336 ، و الطبري في تاريخ الأمم و الملوك، ج3/ص550
[3] - نهج البلاغة، الخطبة 228
[4] - الصحيفة السجادية: الدعاء الرابع
[5] - البخاري ، حديث رقم 3671
[6] - اللالكائي، كتاب السنة، موقف الشيعة من ابي بكر وعمر، حديث رقم 2613
[7] - محب الدين الخطيب، الخطوط العريضة، ويليها مؤتمر النجف
http://www.fnoor.com/books.htm
ahmad@alkatib.co.uk
المفضلات