تشابك الطوائف (1)

لماذا وضع الضاري «النقاط على الحروف» في هذا الوقت؟

ما فرص مقتدى في الصمود بين النيران والدماء؟

أول تظاهرة مذهبية كانت في البصرة .. وهذه ليست صدفة

بغـــداد ـ د. جمـال حسـين

حررت مدن الجنوب العراقي من التكريتيين والعانيين والراويين والأنباريين ومن بعثهم الى ديارها، لتستبدل بهم الأصفهانيين والأهوازيين والقميين والتبريزيين ومن لم شملهم.

هذا مختصر مفيد للحرية المشروطة التي جناها الجنوب المظلوم، الذي يمعن في تبديل بدلته وشجرته ونطقه لتزينه بنزف لم يكن مستعدا له، وإن جرت «بروفة» أولية عليه في أيام عنيدة من مارس 1991 حين دفعت إيران بمجموعات أرادت تحويل مسرى «الانتفاضة الشعبية» العفوية التي انطلقت من أحياء البصرة الفقيرة لصالحها، الأمر الذي دفع ثمنه العراقيون ببقاء صدام أكثر من عقد لهذه «الهفوة» الإيرانية المقصودة بصرّ الأسنان وبذر ّ النموذج الجنوب اللبناني الذي تحلم بإنشائه في البصرة تحديدا.

وإذا كان الجميع سنة وشيعة، يشتكون في السر ّ ويلوذون بالعبارات العامة عن الأخوة والوحدة الوطنية في العلن، فإن ذلك لا يغير في الأمر ما لم يغيروا ما في أنفسهم وعلى الأرض، فالكلام مهنة يأكلون خبزهم منها وحرفتهم التي يتقنونها، وعلى الناس الدمار وعلى الأرض الخراب.

المسألة لم تجر أبدا على النحو المعلن والمصور والمكشوف، فالباطن غاية في الخطورة والعمد في إخفائه غاية في نفوس المخططين ورهبة من إفشاء السر الذي ليس صعبا ظهوره حين يقتل السنة اخوانهم الشيعة على البطاقة المدنية، ويفجر السنة مآتم أخوتهم الشيعة لكونهم يتأخرون في الأذان بضع ثوان ويضيفون إليه من «بدع» واجتهادات، وحين يقتل الشيعة اخوانهم في الدين دفاعا عن النفس تارة وإلهاما لقوائم المنظمات السرية.

نقاط على الدماء

ولعل تصريح رئيس هيئة علماء المسلمين حارث الضاري الذي اعتزم فيه «وضع النقاط على الحروف» باتهامه «قوات بدر» علنا بمسؤولية اغتيال أئمة وخطباء مساجد كلهم سنة، كان مفتتحا لابد منه لتقليب «الملف الطائفي» الموجود الذي ينكره أو يخففه السياسيون بناء على واجبهم السياسي الذي يقتضي عليهم دوما تخفيف «الاحتقان».

غير أن إصرارنا على وجود «الاحتقان الطائفي»، بل وحتى المجابهات الطائفية التي تشبه كثيرا «حربا طائفية غير معلنة» له المزيد من المعطيات، أكدها لا أكثر تصريح من يعتقد أنه كبير علماء السنة.

والتصريح المثير للضاري لم يضع النقاط على الحروف، بل انه وضعها على الدماء أيضا، فهو شدد على عبارات مثل «وقد أعذر من أنذر» و الأهم منه ما جاء في قوله تحديدا «ستشهد المرحلة القادمة ما لا تحمد عقباه» وأن الأمور تسير نحو التوتر الحاد.

والتوتر ليس حادا فحسب، بل دمويا ولا يتسع المجال لتعداد عمليات الاغتيال والاغتيال المضاد وفتح مقابر جماعية جديدة على أساس طائفي، تنفرد «القبس» في نشر صور بعض منها، وهي لجثث ضحايا ما أطلق عليه قضية المدائن التي أنكر الرسميون وجودها، كما تنصلت منها كل التنظيمات الإرهابية المعلنة عن نفسها والتي راح ضحيتها مدنيون شيعة تصوروا أن سكنهم في مناطق سنية، لا يجلب لهم المصير الذي تجسده هذه الصور القاسية.

الشيخ والوزير

وضع الضاري نقاطه على حروفه في هذا الوقت بعد أن تأكد من خسارة محاولات أطراف كان يديرها لعرقلة إنشاء حكومة إبراهيم الجعفري التي كادت تسقط حتى اللحظات الأخيرة وما أن باءت جهود سرية في عدم تقديم بيان جبر الى وزارة الداخلية.

فلم تهضم أبدا «التنظيمات السنية» العراقية بمختلف مشاربها واجتهاداتها وصول عنصر بارز في «المجلس الأعلى للثورة الإسلامية» له قوات شكلت ودربت وسلحت في إيران ضمن قوام «حرس الثورة» الإيراني. زد على ذلك وجود خلفيات كثيرة كانت قوات بدر طرفاً فيها مع جهات سنية مختلفة وخاصة في المناطق العراقية التي يقطنها السنة والشيعة.

ربما افترضوا بالوزير بيان جبر «السوء» قبل أن يجربوه، فمثلا، أطلع وزير الداخلية العراقي الرأي العام على واحدة من «التباس القصد» الذي راح ضحيته، موضحا بأن «العلماء السنة» قد تم اعتقالهم قبل توزيره بنحو 15 يوما.

وردا على دعوات «هيئات سنية» بإقالته، قال ان الجمعية الوطنية لها الحق وحدها في تقرير مصير هذا الوزير أو ذاك وليس جهات لم تحصل على مقعد واحد في الجمعية.

رد حامي القانون في العراق كان حاميا و قانونيا وليس سياسيا، فهو يعرف بأن السنة قاطعوا الانتخابات وفق مزاجهم وعوامل أخرى خارج نطاق المزاج، وفي الوقت نفسه فتح على نفسه باب المساجلة في واحدة من مسلمات الدولة العراقية، الأمر الذي قد تبدى في صفحات مناقشة «قضية بيان جبر» و منظمة بدر ودورها في العملية الأمنية برمتها، وخاصة نفيه الطبيعي بأنه ولا قوات بدر قد «مارست القتل بحق أحد»، حيث لا يوجد عاقل ينتظر منه أكثر من هذا النفي.

الأزمة لا تنحصر بتصريحات الشيخ ولا نفي الوزير، بل في قضية شاملة أعقد بكثير مما تبدو للوهلة الأولى كأنها صراع على مقعد الداخلية، أنها متشعبة إلى درجة يصعب لملمة خيوطها الرئيسية.

الشيخ والسيد

لمقتدى الصدر علاقات «مقاوماتية» جيدة مع حارث الضاري وأحمد الكبيسي وكثير من رجال الدين السنة، فهو يصف رئيس هيئة علماء المسلمين بـ «الشيخ المجاهد» والعلماء يدعون له ولمجاهديه وقاموا ببعض الفعاليات الناجحة بإظهار الوئام بين الطائفتين الكبيرتين في العراق بتحقيق حلم الأب الشهيد محمد صادق الصدر بالصلاة الجماعية بين السنة والشيعة.

لكن مقتدى الصدر ذهب إلى أبعد من هذه المجاملات والعواطف ليقف ما بين ألسنة العلماء السنة الملتهبة وتصريحات البدريين المنددة، لكي يطفئ من هذا ويبرد من ذاك.

ولا نعتقد ان مقتدى الصدر سينجح في لعب دور «مخفف الصدمات» في هذه الأزمة الكبرى، فالبدريون هم أنصار الحكيم الذين لا يودون الصدريين هم ولا أجدادهم، كما أن نطاق تأثير الصدريين في الهيئات السنية المتصارعة فيما بينها محدود للغاية، ناهيك عن وضع مقتدى الخاص وعمره وضيق مجال المناورة الذي يطبع تحركاته واتهام أكثر من طرف سني له بتلقي دعم إيران أسوة بالحكيميين في بدر وغيرها.

مظاهر.. وحسب

ولم يكن قرار «ديوان الوقف السني» محميا بدعم هيئة علماء المسلمين والحزب الإسلامي العراقي بإغلاق مساجد السنة بعد صلاة الجمعة الفائتة ولمدة ثلاثة أيام أكثر من تظاهرة شكلية للتعبير عما يحصل في البلاد من تصادم وتشابك طائفي غير محدود ولا محمود.

فكما قال خطيب وإمام مسجد «أم القرى» أحمد عبد الغفور السامرائي ان هذا الإجراء يجيء «احتجاجا على تلك المجازر»، دون أن يسميها ويحددها. فالخطيب البليغ والمؤثر في أعصاب متابعي الفضائيات التي يحلو لها نقل خطبته كل جمعة يدرك ان المجازر لم ترتكب بحق السنة وحدهم، فالشيعة الراهنون طالتهم مجازر نعرضها اليوم بالصور، لا تقل عما سجلته دوائر الطب العدلي ومشارح البلاد بحق الشبان السنة.

ويذهب السامرائي ليكرر تهديد الضاري بالقول إن إغلاق المساجد السنية ليس سوى «احتجاج سلمي وخطوة أولى وستتبعها خطوات». ومن الواضح أن للجماعة خطة تحرك كاملة ليس من الصعب إدراكها لمتتبع نشرات الأخبار اليومية في العراق!

التظاهرة المذهبية

هذا يحدث باستمرار في طول العراق وعرضه، ويحصل في العراق دوما، كما تألمت أيامه في الكثير من «الأحداث الطائفية» دون الالتفات ولو من الناحية المهنية لأهميتها ودس أصابع التحقيق لمعرفة ما يجري بالفعل.

ففي البصرة مثلا، حدثت أول تظاهرة مذهبية شارك فيها السنة بدعوة من مديرية الأوقاف السنية و «هيئة علماء المسلمين» التي لم تكن ناشطة بعد، كما الحال في ذلك اليوم الحزيراني (يوم من يونيو) من عام 2003.

لم يتوقف أحد عند «تظاهرة السنة» وكان مجلس الحكم المشكل منذ أيام يضم عضوين من أهل البصرة وكلاهما شيعة (الشهيد الزاهد عز الدين سليم والقاضي وائل عبد اللطيف الذي كان الى جانب عضويته في مجلس الحكم محافظا للبصرة في سابقة جديدة في منظومة الحكم العراقي).

محاصصة المساجد

لم يتنبه إليها أحد بمعنى، أن العراق كله كان مهموما بقضايا أكبر من شعارات السنة البصريين، فالناس بدأوا يشعرون بمهانة الاحتلال (في هذه الأوقات بالذات انطلقت رصاصات الأميركيين في صدور المتظاهرين في ساحة الفردوس مستبدلة مهمتهم المعلنة الى محتلين تقليديين). أضف الى ذلك أن البلد برمته سرق في وضح النهار، فما بالك ببضعة مساجد يدعي سنة البصرة أن اخوتهم الشيعة صادروها!

لم تكن أولوية مسألة «محاصصة المساجد» في وقت انشغل فيه أهل الحكم بمحاصصة أنفسهم، واغتم الأميركان بمسقط جنودهم بعد أن أعلن رئيسهم نهاية الحرب، وثمة صدى خفيف كانت تعمله رسائل صدام الصوتية وبدأ فرسان القاعدة يمتطون صهوات السيارات المفخخة.

راحت إذن صرخات سنة البصرة في تلك الأوقات وكظموا غيظهم، بل خبأوه رمادا يمكن اشتعاله في أي لحظة، فيما انشغل الشيعة بجدولة الأولويات العديدة التي جاءوا من أجلها.

المظلومون

بداية، ان شيعة العراق وسنتها كان مغضوباً عليهم بسبب السياسة «المناطقية» التي اتبعها النظام حتى إزاء البعثيين الأصليين، فمن عاش في تلك الأوقات يعرف ما حل بعائلات بعثية وأبنائها (العمر والمنديل نموذجا) لكونهم بصريين، فصفاء صالح العمر عندما كان عضوا لفرع البصرة لحزب البعث دفع وعائلته ثمنا باهظا لمجرد أنه قال لصدام في واحدة من زياراته الى المدينة بأن «البصرة مهملة وتحتاج الى اهتمام أكبر من القيادة». لم يصح الديك البعثي لآل العمر لغاية سقوط النظام من وراء كلمة واحدة. فقد تعامل صدام مع صفاء وفاروق وجهاد (أشقاء كلهم وصلوا مرتبات عليا في الحزب في البصرة) كبصريين وليس كبعثيين.

لذلك فأن من بطش بالبصرة غرباؤها لا أبناؤها وهذه حقيقة، ولم يثق صدام ببصري إطلاقا ولم يصل طوال فترة حكمه أي بصري إلى منصب قيادي عدا حالة واحدة انتهت بمأساة عندما أصبح حميد مجيد العايد محافظا للناصرية وحقق فيها انجازات جعل الأهالي يطلقون عليه «ابن الناصرية» وحين سمع صدام هذا اللقب أخفاه تماما من الوجود.

ونموذج نعيم حداد، عضو القيادة القومية، ومصيره المأساوي على يد صدام لم يكن لكونه شيعيا، بل لأنه من الناصرية ولم يوافق على التدخل ضد عشائر سوق الشيوخ والضغط عليهم في مسألة التسلل وحركات الثوار في الأهوار الجنوبية.

بينما قرب الشيعي محمد الزبيدي ليبطش بأهله في الجنوب واستغل الأكاديمي والبعثي القديم الشيعي سعدون حمادي للتطبيل لسياسته ورسمها وأخيرا إضفاء شرعية ما على برلمان مزيف.

الجمرة الطائفية

القضية التي نريد إيصالها أن المشكلة، لا سابقا ولا حاليا، كانت عراقية ـ عراقية، والظلم وقع على العراقيين كلهم بلا استثناء، و«الجمرة الطائفية» التي يرغب البعض في «توليعها» لا تنحصر بمشاكل الوقف السني والشيعي، فحتى هاتين المؤسستين كانتا نتيجة إلغاء وزارة الأوقاف بقرار من الحاكم الأميركي بول بريمر ولم تكن تنفيذا لفتوى إيرانية أو فلوجية، وسرت ضمن المخطط الأميركي لتكريس الوضع الطائفي في العراق (ليس مؤكدا وجوده نظريا، لكنه عمليا بيـّن جدا) بابتكارهم للمرة الأولى منظومة المحاصصة.

ظهور الوقف السني والشيعي كل على حدة بقرارات فوقية شمل العراق، والمشكلة لم تبدأ بهذا التنظيم الذي أساسه مذهبي على أقل تقدير، بل تنحصر في أن الأمور تاريخيا وإداريا لم توضح في السابق عندما كانت ثمة وزارة لأوقاف الجميع بمن فيهم اليهود. ولم تكن ضمن «الأدبيات الإدارية» تسميات مثل «مسجد للشيعة» وذلك للسنة، وكان هذا الأمر يجري حسب العرف، وبناء على من يدير المسجد ومن يؤمه ومن يؤذن فيه، لكن تحديد إداري ـ حقوقي لم يكن موجودا.

الكثرة تغلب

وكذلك التسليح يغلب العقل والتفاهم. فالتنظيمات والحركات الشيعية التي داهمت الجنوب العراقي، وخاصة في البصرة منذ اللحظات الأولى لتسليمها للبريطانيين، كانت مسلحة جيدا ومتحمسة ومنتظرة هذا اليوم، فيما شعب الداخل كان معصورا من صدام الى درجة أنه كان خائفا من أي شيء ولم يكن مستعدا لمواجهة عناصر انتحارية ذاقت الأمرين في الغربة.

العبارة الأخيرة لا تعني بالضرورة ان الذين قدموا الى البصرة كانوا من ضمن أهلها الذين هربوا او لجأوا الى إيران، واغلبهم أيام الانتفاضة، لكن قسماً منهم كانوا كذلك، إلى جانب قوات منظمة دستها إيران بما لا يقبل الشك ضمنها.

وضع هؤلاء أيديهم على مؤسسات الدولة الكثيرة بما في ذلك المستشفيات والجامعة، وشيدوا عند رأس كل جسر وشارع حزبا وتنظيما وحركة. وكانت هذه المقار بمثابة موطئ القدم الذي انطلقوا منه لرسم خرائط طرقهم.

سرقة التسامح

لم يضر العراقيين أن يكون مستشفى صدام باسم الصدر، ولا فرق حتى من وجهة النظر الطبية ولم تستفزهم كثرة الصور للرموز الدينية التي تجاوز عددها وأشكالها ما كان يعاني منه العراقيون من صدام ورساميه ومصوريه وبدلاته المختلفة على الرغم من تكرار سخط السيد علي السيستاني من استغلال صوره في واجهات الأحزاب ومؤسسات الدولة.

من الممكن عدّ هذه المظاهر شكلية، قياسا إلى ما حصل على الأرض من استيلاء على عقارات ومبان ومنشآت بأكملها وتوظيفها لصالح الحزب والحركة المستوردتين.

الحديث لا يجري عن سرقة ميناء المعقل ورافعاته وإهدائها الى إيران ولا عما حصل في معملي الأسمدة والورق وما جرى من نهب بالساعات لمصنعي البتروكيماويات والحديد والصلب، ولا منشآت التصنيع العسكري التي تلاشت بين ليلة وضحاها، فهذا في النهاية حديد، لو كانت إيران الغنية والقوية تقبله على نفسها، فلا التاريخ ولا العراقيون سيسامحونها على إبرة واحد نقلت إليها وتقبلتها بصمت لدوافع، الحديث هنا غني جدا عن التوقف عندها.

الأشد إيلاما مما تمت سرقته من العراق كان التسامح والمودة بين ما هو سني وشيعي وأرمني وصابئي وهندي وبلوشي وأحسائي وحتى يهودي. فالعراق عاش وترعرع على هذا النحو ولم يفرق بين عربي واعجمي إلا بالحب وامتداده على منبته وتربته.

وطوال حياتنا ولغاية هذه اللحظة نستنكف هذه التقسيمات، لكن لهذه الرسالة مبدأ ووضعا آخر، فهي مجهزة للحديث بلغتهم، باللغة التي فرضوها علينا على الواقع، ولا مفر من تتبع مجرياته علنا كي نضع الإشارة على المحور الخطأ.