أجرت اللقاء: مليكة بوشامة

للحديث عن التطرف الديني والمأزق الفكري، اللذين تعيشـهما المجتمعات العربية والاسـلامية، شجــون ناء بها المثــقف العربي، وراح نظيره الغربي يُعمل «معاوله» المعرفية في الظاهرة لسبر اغـوارها واكتـناه اسبابها. وجـيل كيـبل واحد من هؤلاء الباحثين الغربيين الذين سخروا ابحاثـهم للتنـقيب في جـذور المشـكلة بمنــهج علـمي يرصد الظروف الديموغرافية والاقتصادية والاجتماعية التي مهدت لظهـورها، لينــطلق بعد ذلك الى عملية التحليل. وهو اليوم يبشرنا بعصر انوار ينبلج من مخاض عسير يستغرق سنوات طويلة لا يستطيع التكهن بها.

جيل كيــبل زار الــبلاد أخيرا للمشاركة في نــدوة بجــامعة الكــويت فكـان لـ«القبس» معه هذا اللقاء.



أزمة اقتصادية خانقة في سوريا.. ودول الـخليج سوف تتردد في دعمها

> تتهم الكتابات الغربية في موضوع الأصولية الدينية بالانتقائية غير العلمية وعدم فهم خصوصيات الآخر، والنزوع الى قياسه على الذات الغربية من خلال مفاهيم معرفية خاصة به. ما تعليقك على ذلك؟

- اعتقد ان معظم الدراسات الاجتماعية التي تناولت الحركات الاسلامية المعاصرة على يد باحثين اتقنوا اللغة العربية، واجروا ابحاثهم ميدانيا هي اعمال ذات جودة عالية عموما. وتشكل اليوم جزءا من النقاش الدائر في العالم العربي والاسلامي. فمعظم ابحاثي مثلا ترجمت الى العربية، ورغم ان البعض لا يتفق مع طروحاتي، فإنها تحظى بمستوى عال من النقاش حسب مالمسته من زياراتي للبلدان المعنية. واعتقد ان هذا يبعث على التفاؤل بإمكان تغيير الافكار.

ولا ننسى ان العالمين العربي والاسلامي يفتقران اليوم الى البحث العلمي الاجتماعي في الظاهرة الاصولية والمواضيع ذات الصلة. وكل ما نجده هو مجرد كتابات نقدية تتناول المسألة اما بالسلب او الايجاب ولكنها لا ترقى الى مستوى البحث الاجتماعي. غير انه بالامكان ان نرقى بمستوى النقاش في ظل الحدود المفتوحة ورواج سوق الافكار والانفتاح الاعلامي.

مرجعيات أم قدرات؟

> نلاحظ ان الباحث الغربي يكون دائما سباقا الى تشخيص ادواء الآخر واحيانا وصف الدواء ايضا ثم يلحقه الآخرون يرددون صدى كلامه، فهل أصبح الغرب مرجعية حتمية لأي مشروع تطويري او اصلاحي؟

- لا اعتقد انه يمكن الحديث عن فئوية حصرية من هذا القبيل. فهناك باحثون غربيون من مستويات مختلفة، كما هناك باحثون شرقيون من مستويات مختلفة، وهناك مفكرون مسلمون يعيشون في الغرب واجروا ابحاثهم من هناك. ولا اعتقد ان التحدي يكمن في مسألة المرجعيات بقدر ما يكمن في تحليل واقع اجتماعي ومقارنة ظواهر اجتماعية وتقديم تحليل لحركة سياسية ودينية.

الظواهري والماركسية

> بالادوات المعرفية نفسها المستعارة من الغرب؟ وماذا عن خصوصية الآخر؟

- اعتقد انه يمكننا اعتماد مفاهيم كونية شرط ان نعرف كيف نكيفها مع الوضع في البلدان المعنية، ولو قرأت كتاب ايمن الظواهري مثلا: «فرسان تحت راية النبي» لوجدت الى جانب الاحالات الدينية تطورا سياسيا يمكن فهمه في اطار تحليلات تحيل على الفكر الماركسي فهو يتحدث عن الطليعة والجماهير وتجييش الامة وما الى ذلك. ومن هنا انا اؤمن بأهمية المفاهيم الغربية وامكان تكييفها مع ما يجري في العالم العربي والاسلامي المعاصر.

صعوبات وتضييق

> يذهب البعض الى ان العقل العربي لا يستهويه اي مشروع اصلاحي تجديدي ما لم يصطبغ بصبغة الدين، هل يعني ذلك انه لا امل في ظهور تيار عقلي مستقل عن النظرة الدينية في المجتمعات العربية الاسلامية؟

- بلى! اعتقد ان هناك اليوم تيارات فكرية تعتمد منهجا نقديا للظاهرة الدينية في العالم العربي الاسلامي لكن سبل التعبير تكاد تكون مغلقة امامها. ففي الكويت يمكن الحديث عن فكر ليبرالي يمثله أشخاص مثل خلدون النقيب وشملان العيسى، وفي مصر هناك نصر حامد أبوزيد، ومحمد اركون وعبده فيلالي انصاري من شمال افريقيا وكلهم ينكبون على تحليل الظاهرة الدينية تحليلا علميا لكن كثيرا منهم يضطر للهجرة بسبب ما يلاقونه من صعوبات وتضييق في بلدانهم.

معركة داخل الإسلام

> هل ترشح هؤلاء لحمل مشعل تجديد الخطاب الديني الإسلامي؟

- لا، ليس هم فقط، فهذا المشروع الضخم يمر أيضا عبر عدد من التحولات داخل العالم الاسلامي، والحركات الاسلامية نفسها. وقد لاحظنا في تركيا مثلا، كيف اضطر الحزب الاسلامي بعد وصوله الى الحكم الى تغيير طريقة تعاطيه مع فكر حسن البنا وغيره، مما يؤكد ان المشاركة في الحكم تؤدي الى تحولات في الايديولوجيات. وأعتقد ان ثمة تحديا ديموقراطيا يشهده العالم الاسلامي اليوم وان لم يتجسد بشكل واضح. وهو مضطر للتأقلم مع الانفتاح المحيط به انها معركة تدور رحاها داخل الاسلام.

> هل يحتاج الامر الى عشرات السنين كما حدث في الغرب؟

- نعم! اظنه سيستعرق طويلا. لكن العملية تجري بشكل يتسم بالتعقيد والتناقض في ظل وجود ضغوط قوية تمارسها الاوساط الاكثر محافظة لمنع التغييرات وان كان لا مناص امامها من التأقلم مع عالم متغير.

حوار السلطة والإخوان

> كيف تفهم دعوة واشنطن لمصر الى فتح الحوار مع الاخوان المسلمين؟

- الاخوان المسلمين في مصر اليوم منقسمون الى عدة تيارات لكنهم يمثلون حزب معارضة. وهي معارضة يحق لها المشاركة في الانتخابات ان هم رغبوا في ذلك، ونبذوا العنف ولو اختلفنا معهم، لان حرمان حزب معين من المشاركة يتنافى مع مبدأ الديموقراطية وبالتالي تبقى حرية التعبير مكفولة له ما لم يلجأ الى العنف وان كان يملك نظرة معادية للديموقراطية.

> وماذا عن الانفجار الاخير في القاهرة؟

- ربما امكن فهمه في اطار الاجواء المتوترة التي تعيشها مصر حاليا بسبب المواجهة بين فريق يتمسك بالوضع القائم وآخر يدفع باتجاه تغيير جذري. ومن الصعب حاليا تحميل مسؤولية الانفجار لهذه الجهة او تلك. ولكن ما من شك أن العنف السياسي يعيق الحوار، ويدفع الى تعطيل العملية الديموقراطية بحجة الدوافع الامنية.

مأزق حزب الله

> هناك من يقول ان حزب الله اللبناني يواجه مأزقا، في حين يرى اخرون انه قادر على الحفاظ على مكتسباته؟

- حزب الله نشأ في البداية على يد الجمهورية الاسلامية في ايران لخدمة مصالحها في لبنان، وهو حزب شجع او تقبل فكرة اختطاف الرهائن، وتبني اسلوبا متطرفا جدا. واذكر هنا حادثة اختطاف رهائن فرنسيين كان بينهم صديقي ميشال سواريه الذي قضى، والتي نفذتها جماعات كانت تختبئ وراء حزب الله، لكن الحزب اصبح يملك اليوم قاعدة شعبية واسعة، وحضورا راسخا في الاوساط الشيعية، وهو ما خوله الانتماء ا لى النظام السياسي في لبنان. واعتقد انه منقسم حاليا على نفسه كما يحدث في كل الاحزاب السياسية. فهناك اتجاه قوي يميل للجانب الايراني ويمثله حسن نصر الله واخر متأثر بآية الله السيستاني في العراق الذي يرفض «ولاية الفقيه» ولا بد لحزب الله اليوم ان يضطلع بدور سياسي اهم في المشهد اللبناني. واظن انه محاصر بين قطبين اثنين فإما القبول بخيار المشاركة في العملية الديموقراطية أو خيار الحزب الديني المؤيد لقيام جمهورية إسلامية.

> كيف ترى مصيره؟

ـ وقف حزب الله حتى الآن في صف ايران وسوريا ضد اميركا وفرنسا وقوى المعارضة اللبنانية لكنني لست متأكداً ان هذا التحالف سيدوم بعد انسحاب سوريا من لبنان. واعتقد انه يتعين على الحزب ان يتأقلم سياسياً وإلا همّش مع تقلص دور سوريا.

ماذا سيفعل السوريون؟

> وماذا عن المخاض السياسي في لبنان؟ هل أنت متفائل بشأنه؟

ـ ألمس تخوفاً كبيراً من اندلاع حرب أهلية ثانية خصوصاً بعد حوادث التفجير. واعتقد ان خطر الانزلاق إلى حرب أهلية وارد. والأمر رهين بما إذا كان الانسحاب السوري سيخلف وراءه عناصر استفزاز تجر اللبنانيين الى الاقتتال.

> هل من شبه بين ما يجري حالياً والمشهد السياسي في لبنان 1840؟

ـ قد تكون هناك بعض اوجه الشبه. فلبنان يبقى بلداً مقسماً تقسيماً طائفياً على الصعيد السياسي. ومسألة الاندماج السياسي لم تتحقق فعلياً. لكنه في الوقت نفسه شهد تغيراً كبيراً واصبح عصرياً أكثر من أي وقت مضى. لكن أهم أسباب الأزمة اللبنانية في رأيي تكمن في فقدان البلد لمكانته المركزية السابقة كأكبر قاعدة تجارية ومصرفية في الشرق الأوسط. وهو يعاني اليوم من التهميش بعد ظهور مراكز أخرى مثل دبي مما قلص من الموارد المتاحة أمامه.

سوريا والعراق

> التفات واشنطن الى سوريا أخيراً والوقوف لها بالمرصاد هل يعني ان الوضع قد استتب لها في بغداد فانتقلت الى الخطوة التالية من الاستراتيجية المرسومة؟

ـ اعتقد ان المسألة العراقية لم تسوّ تماماً. فاجراء الانتخابات التي أتاحت للعراقيين فرصة اختيار ممثليهم بشكل حر لا ينفي ان المشكلة ما زالت قائمة. فطالما هناك تمرد في صفوف السنة لا يمكن تحقيق أي تقدم في العراق الذي يمثل خمسة ملايين برميل نفط يومياً يتعذر استثماره في ظل الوضع الأمني المتردي، وبالتالي فإن استقرار البلاد مرهون بوجود موارد.

> وماذا عن سوريا؟

ـ يبدو لي ان الوضع في سوريا أصبح حرجاً للغاية في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعيشها. وسوريا لا غنى لها عن مساعدات دول الخليج خصوصاً في حين ان هذه الأخيرة ترتبط بالسياسة الأميركية في المنطقة، وقد تكون غير مستعدة لدعم سوريا.

الكاثوليكية والدور المنتظر

> من المعروف ان اختيار الحبر الأعظم الراحل جان بول الثاني خضع لمعايير سياسية، واريد بتعيينه ضرب الشيوعية في العالم. هل تتغير هذه المعايير مع تغير المعطيات اليوم؟

ـ اعتقد ان الكرادلة يواجهون مشكلاً كبيراً. ففي تاريخ الكنيسة الكاثوليكية يأتي بعد كل بابا قوي الشخصية، بابا انتقالي، يظل في منصبه الى حين يتعزز وضع الكنيسة من جديد بعد كل التغييرات التي تكون قد أحدثت. ولكن إذا كان جان بول الثاني، بابا انهيار الشيوعية، فهو ايضاً فتح آفاقاً أخرى للكاثوليكية، وأعطى دينامية جديدة لها في المجتمعات الغربية المعلمنة، ورسخ الهوية الكاثوليكية المسيحية في مواجهة العالم الاسلامي. واعتقد ان هذا يمثل احد التحديات اليوم. فالكاثوليك اقل عدداً من المسلمين. ولعل أهم التحديات التي ستبرز صعود الكاثوليكية في القارة الجنوبية وبخاصة في الهند والصين حيث ينتظرها دور كبير للاضطلاع به بعد الشيوعية.

> هل تمثل الأصولية الدينية في الكويت خطراً حقيقياً؟

ـ هناك قدر لا بأس به من حرية التعبير في الكويت قياساً الى بلدان أخرى. فوجود الاخوان المسلمين فيها يعود الى خمسين عاماً خلت. وهذا ما جعل البعض يرى ان الكويت في مأمن من العمليات الارهابية والعنف الناجم عن التطرف الديني في ظل حرية التعبير المكفولة لهؤلاء. ولكن تبين في الشهور الأخيرة أن الأمر ليس كذلك. وقد ظهرت مجموعات تعلن ارتباطها بالقاعدة وبفكر بن لادن. وفي ظل هذه التطورات بدأ التراشق بين الليبراليين الذين يحملون الاسلاميين مسؤولية التطرف والحركات الاصولية المشروعة التي تعتبر نفسها أفضل حصن ضد التطرف، وأظن أن مآل هذه القضية مرهون بتطور المجتمع الكويتي، وإصلاح المناهج التربوية. لأن التعليم الليبرالي كفيل بدفع عجلة الافكار التقدمية الى الأمام.

مطالب بالوكالة

> وقضية حقوق المرأة السياسية؟

ـ هذه القضية تمثل تحديا كبيرا جدا، وتمثل موضوعا معقدا. لأن المرأة الكويتية هي أكثر نساء الخليج استفادة من التطور. فالكويت تكاد تكون البلد الوحيد الذي تعيش فيه المرأة أجواء انفتاح، الى جانب انها تضطلع بدورها في مختلف المجالات. والرافضون لمطالبها السياسية يعتبرونها مجرد وكيل للسياسة الاميركية في المنطقة. ولكن يتعين على المرأة الكويتية أن تقرر مصيرها بنفسها بغض النظر عن الرغبة الاميركية.

سيرة ذاتية

جيل كيبل باحث فرنسي يدرس الحركات الاسلامية في العالمين العربي والاسلامي بدءا بالمغرب والجزائر ومصر وفلسطين والاردن وانتهاء بتركيا وماليزيا وباكستان وايران. له عدة مؤلفات منها: «النبي والفرعون» (1984) و«ضواحي الاسلام» (1987) و«انتقام الله» (1991) و«في عزب الله» (1994) و«الجهاد: صعود الحركات الاصولية وانحدارها» (2002)، وفيه تنبأ بأفول هذه الحركات وحلول مرحلة «ما بعد الاصولية»، واخيرا «يوميات حرب في الشرق».

وكيبل هو ايضا باحث في «المركز الوطني للابحاث العلمية» في باريس ومدير ادارة الابحاث فيه، واستاذ زائر في جامعة نيويورك منذ 1993، ومدير الدراسات العلمية في «الهيئة الوطنية للعلوم السياسية».

واستاذ في معهد الدراسات السياسية في باريس IPE، وعضو في لجنة «ستازي» التي شكلها الرئيس الفرنسي جاك شيراك لتقويم وضع العلمنة في فرنسا.

لـجنة ستازي

شكلها الرئيس الفرنسي جاك شيراك، وأناط بها مهمة تقويم وضع العلمنة في فرنسا، والتصدي للمشكلة التي شهدتها المدارس الحكومية الفرنسية. ويقول جيل كيبل إن بعض الحركات الدينية الاصولية، اسلامية ويهودية ومسيحية سعت الى السيطرة على عقول الشباب من خلال فرض علامات دينية ظاهرة، فظهرت الانقسامات والنزاعات في أوساط الطلاب، الذين يفترض أن يجتمعوا حول عدد من القيم المشتركة. وطال الانقسام صفوف الطلاب المسلمين أنفسهم حيث انقسموا الى فريق متعاطف مع الحركات الاصولية وآخر علماني يتعرض للطعن في اخلاصه لدينه، وهذه كانت ضربة للتعليم في فرنسا. لأن الهدف الأساسي منه هو اكتساب المعارف التي تمكن الطالب من تحسين مستواه في الحياة العملية. ولذلك أوصينا بمنع أي علامات دينية في المدارس دون الجامعات حيث يكون الطالب راشدا ومسؤولا عن خياراته. ولدى سؤاله عن مدى الاندماج الذي حققه المهاجر المسلم في المجتمع الفرنسي تحدث كيبل عن الجيل الثالث من المهاجرين الذي أصبح لا يتحدث سوى لغة موليير وتشرب الروح الفرنسية، وصار يتصرف على هذا الأساس وقد كشف حادث اختطاف الصحافيين الفرنسيين في العراق مالبروتو وشيسنو حقيقة موقف المسلم الفرنسي. غير أن مسألة الادماج مازالت تطرح مشكلة اجتماعية كبيرة - على حد قوله - في ظل اخفاق أعداد كبيرة من المهاجرين المتحدرين من أصول مغاربية في تحقيق النجاح الاجتماعي بسبب الققر، وسوء الظروف التعليمية، وحياة «الغيتوهات»، مما يستدعي بذل مجهود جبار على الصعيد السياسي وإلا شهدنا مزيدا من التفجر في الأوضاع الاجتماعية. واشار كيبل الى ظهور نخبة جديدة في الأوساط ذات الاصول الاسلامية تبعث على التفاؤل بما حققته من نجاح في مجال التجارة والادارة والثقافة.

وعن احتمال دخول امرأة محجبة الى البرلمان أو الحكومة استبعد المستشرق الفرنسي أن يكون الناخب الفرنسي، مسلما كان أو غير مسلم، راغبا اليوم في انتخاب مرشحة محجبة.