الذين يتحدثون عن سيّر الثورات، عادة ما يحكون عنها من خارجها,,, وأمامنا العديد من الثورات العظيمة التي لم يتمكن قادتها من الكتابة عنها، لكون الكتابة في حينها عن الثورة تعني أساسا الاجابة عن الأسئلة التي تحتاج اليها الثورة، أما عندما تنتهي الثورة، فان حال الكتابة عنها ينتقل من أيدي صانعي الثورة الى يد المؤرخين لها، والفرق شاسع بين ثورة تتحدث عن نفسها، وأخرى يحكى عنها, وقد فطن لينين الى هذه المفارقة حين كتب، ان «الثورة سوداء، والواقع رمادي اللون»,,, وهو بذلك يختزل وضعية الانتقال القسري من أفكار الثورة الى واقع الثورة.
علماً أن كل الثورات التي عرفها العصر الحديث انطلقت على هذا النحو، وتطورت الى أنظمة تتعايش مع أوضاع جديدة فرضت عليها، وتواجه بشكل يومي قياس أجوبتها عن أسئلة الداخل والخارج بموازين القوى والاكراهات الكبرى، اضافة الى الضغوطات والتحرشات الخارجية,,, وبمعنى آخر فان كل الثورات تبدأ جميلة ومنتشية، لكن تتحول مع مرور الزمن الى أنظمة سياسية باردة وجافة، وتحديداً الى أنظمة براغماتية، تجيب عن أسئلتها في حدود الأهداف والمصالح,,, حتى أن المعاينة العادية لتاريخ الثورات، تظهر البدايات وما آل اليه حال الثورات كردات رجعية وتخلياً عن روح وثوابت الثورة، أو تملصاً وانقلاباً عليها، والحال أن الأمر ليس دائما كذلك، فالثورات تأكل نفسها، على هذا النحو أو بغيره.
أي أنها تنتقل من ميتافيزيقا الثورة الى واقعية التأسيس والتراكم وممارسة صراع الاستمرار_ وليس خفياً أن كل الثورات الحديثة التي صنعت نفسها بقوة الشعوب أو على ظهور الدبابات تحولت الى نماذج سياسية مبتعدة أو مناقضة لأفكارها ومنطلقاتها، بل ان ما تبقى من الثورات التي عرفها القرن الماضي كالثورة الصينية والايرانية تمثلان فرادة عجيبة لقدرتهما على ملاءمة ثوابت ثورتهما مع تطورات العصر، لدرجة تكاد تكون فيها الصين البلد الوحيد الذي ينظم نفسه بمؤسسات شيوعية بخلفية اقتصادية رأسمالية واضحة، وتكاد تكون ايران البلد الاسلامي الوحيد الذي يدير شأنه السياسي بمؤسسات على قدر كبير من الاختلاف مع السائد من الأنظمة في العالم العربي والاسلامي, ولهذا السبب ظلت صعبة على الامساك والتحكم فيها من قبل الغرب، وخصوصا الولايات المتحدة الأميركية، أو عصية على الدخول في الطابور، كما أريد لها منذ أزيد من ربع قرن, وان كانت الأسئلة حول قدر هذه الثورة ومصيرها لم تكتمل بعد! ولكن ثمة تراكما قد حققته لجعلها نموذجا يستحق الاهتمام والمتابعة.
والواقع أن ايران الثورة، كانت دائماً موضوع اهتمام الدارسين منذ انطلاقتها، وقد كتب عنها الكثير,,, وكذا عن قادتها ومفكريها، لكن الحديث عن الثورة الاسلامية الايرانية بأقلام قادتها يبقى استثناء نادرا وغير مكرور في العديد من الثورات، فالثورات يكتب عنها الآخرون، وليس قادتها، وقد فطن الرئيس الايراني السابق هاشمي رفسنجاني الى هذه القاعدة، فكان متهيباً للكتابة عن تاريخ الثورة الايرانية التي مازالت في طور النشوء والاستمرار، اضافة الى أن الكتابة عن ثورة من طرف أحد صانعيها، هي كتابة عن وجهة نظر خاصة من الثورة، وتحديدا عن مفصل من فصولها الكثيرة والمتباينة.
لذلك فقد كتب الرئيس السابق هاشمي رفسنجاني، عن دوره في الثورة، وهو مفصل طبيعي ومشروع لشخصية فاعلية، ساهمت في انجاح الثورة الايرانية، فكتب عن الأسباب التي أدت الى اندلاعها، أي عن أوضاع عاشها الشعب الايراني وتقاسم ضراوة مرارتها كما كتب عن نشأته، وبداياته وانخراطه في النضال السياسي، الى حين تقلده منصب رئيس الجمهورية, كون الكتابة عن أدوار شخصية في تحولات مجتمع وأمة لا تكتمل الا بالاحاطة بالمنطلقات والنوازع والغايات، لذلك فان مذكرات الرئيس هاشمي رفسنجاني قد ضمنت تفاصيل مهمة من تاريخ الثورة الايرانية___ وانْ كانت لا تؤرخ للثورة الا في جوانب جزئية منها، فجاءت أكثر من سيرة ذاتية، ووثيقة تاريخية مهمة، لكنها أقل من تأريخ لثورة، صنفت من بين أهم الثورات التي عرفها القرن العشرون، وشكلت منذ عام 1979 منعطفاً تاريخياً واستراتيجياً شغل العالم كله، ودفع الغرب الى التحرك لاحتواء امتداداتها، والهائها بحرب طويلة، وحصارها اقتصادياً وتجارياً,,, ومواصلة الضغط عليها بالوسائل نفسها الى الآن.
وقد حاول هاشمي رفسنجاني في سيرته الذاتية الحديث عن حلقات الضغط التي تعرضت لها الثورة الايرانية، لكن قبل ذلك تحدث عن سيرة رجل عاش تقلبات بلده، منذ أن فتح عينيه وسط أسرة كبيرة ومشهورة في رفسنجان في مقاطعة كرمان، وسنوات تعليمه الأولى، الى حين انتقاله الى مدينة قم، وتتلمذه على يد قائد الثورة آية الله الخميني، وتخرجه بدرجة «حجة الاسلام» في نهاية الخمسينات من القرن الماضي، واختياره بعد ذلك معارضة نظام محمد رضا شاه بهلوي، حيث وجد نفسه منذ البداية في الصفوف الأولى لحركات الاحتجاج، ثم تقلده منصب منسق القوى السياسية الايرانية المؤيدة للخميني، وسجن بسبب نشاطه هذا ثلاث سنوات ما بين 1975 و1977.
بعد سقوط نظام الشاه، اختير رفسنجاني عضواً في مجلس الثورة، ثم قياديا في الحزب الجمهوري الاسلامي، الذي أسس مباشرة بعد تقلد الخميني نظام الحكم في ايران، الا أن رفسنجاني ذاعت شهرته، وعرف على نطاق واسع كرئيس للبرلمان الايراني في السنوات العشر الأولى من الثورة، وبعد ذلك أثناء رئاسته للقوات المسلحة الايرانية في السنوات ما بين 1988 و1989.
بعد رحيل الخميني في عام 1989، كان رفسنجاني قد راكم تجربة سياسية مكنته من الفوز بالانتخابات الرئاسية بنسبة 95 في المئة، ودشن فترة حكمه بانتهاج برنامج سياسي واقتصادي قائم على قدر كبير من الانفتاح والليبرالية، وهو ما مكنه من التغلب على العديد من الصعوبات والمشاكل الاقتصادية التي كانت تعاني منها ايران، فتميزت فترة حكمه بتشجيع المبادرة الحرة، ودعم قانون السوق الحرة، وانفتاح ايران على الاستثمارات الأجنبية، اضافة الى قدرته على ابقاء بلاده بعيدة من ضغوطات الحصار الأميركي، واعتماد الحياد في الحرب الأميركية على العراق، مقابل تجديد علاقة بلاده مع العديد من الدول الأوروبية.
أما على المستوى الداخلي فقد قام بدور ملحوظ في دعم قوى الاصلاح والحداثة والانفتاح, فكانت فترة حكمه التي تمت على فترتين رئاسيتين، فترة عضدت من قوة ايران وشكلت بالنسبة للتيار الليبرالي جسراً للاستفادة من قوة النظام، وظهر ذلك جلياً في دعم هاشمي رفسنجاني عام 1997 لترشيح الاصلاحي خاتمي لرئاسة الجمهورية، وتدخله شخصياً لمنع عمليات تزوير محتملة للانتخابات، كان المحافظون يعدون لها، حيث تمكن خاتمي بسبب هذا الدعم من الفوز 70 في المئة من أصوات الناخبين، لكن الرجل وانْ كان بارعاً في استثمار التوازنات السياسية، فان انقلاب الاصلاحيين عليه، ومعارضتهم له لرئاسة البرلمان، دفع به الى الاحتماء بالمحافظين الذين أوصلوه الى رئاسة «مجمع تشخيص مصلحة النظام» ومهمته البت في القوانين العالقة بين البرلمان ومجلس صيانة الدستور، وهي هيئة يعتبرها الاصلاحيون معرقلة للاصلاح بحجة اعتراضها على القوانين الصادرة عن البرلمان الذي يشكل الاصلاحيون الأغلبية فيه.
لكن هاشمي رفسنجاني الذي يضع قلبه مع الاصلاحيين، ومصلحته مع المحافظين، يقدم نفسه حاليا بتصنيف سياسي جديد، يسمى تيار «المحافظون الجدد»، وهو تيار يحكم المعاملات السياسية، بقواعد براغماتية صرفة، تراهن على التجديد في الثورة وحركية ثوابتها، وذلك على خلفية أن جموح الاصلاح قد يقتل توابث الثورة، والمحافظة المتطرفة، قد تحنط الثورة وتنهيها,,, وتبقى الحاجة الى طريق ثالث، يأخذ من المحافظين والاصلاحيين ويتباين معهما.
ونعرض في ما يلي موجزا من أهم فصول كتاب مذكرات رافسنجاني التي تناول فيها بكثير من التفصيل مجمل المحطات السياسية التي قادت الى الثورة وما بعدها، مع تقديم حلقات يومية للكتاب بداية من اليوم الاثنين.
الحلقة الاولى
احدى ذكرياتي الجميلة، كانت جائزة قدمها اليّ المرحوم آية الله العظمى البروجردي، الذي كنا نحبّه حبًّا جماً، وكنا نشعر بالسعادة لمجرد النظر الى وجهه، كنت في ذلك الحين قد درست «السيوطي» و«الحاشية»، فكتبت رسالة الى السيد البروجردي، ذكرت فيها أنني أحفظ أشعار «ألفية ابن مالك»، ومتن «تهذيب المنطق»، وجزءاً ونصف الجزء من القرآن الكريم، وأنني مستعد لأن أُمتَحَنَ في حضوره, كان دأبُه تشجيع الطلبة الذين يبذلون مثل هذه الجهود، ويوفّقون، مع اهتمام خاص بحفظ القرآن الكريم وأشعار «ألفية ابن مالك» التي هي دورة صعبة من قواعد اللغة العربية.
في أحد الأيام، في منزل حضرته، وقد أقيم مجلس عزاء، وصعد السيد فلسفي المنبر، انتهزت الفرصة، وسلمته الرسالة يداً بيد، وجلست في مواجهته, قرأ رسالتي مباشرة وقال:
أحفظتَ هذا كلَّه؟
ـ قلت: نعم.
قال: أأنت مستعد للامتحان؟
ـ قلت: نعم.
بعد الجلسة، أضاف الحاج محمد حسين الى تلك الجائزة ثياباً مستعملة، لم يعجبني الأمر، فقد جرح كبريائي، فغادرت المكان باكياً.
لم يتصارع الخميني فربح المستقبل
يمكننا أن نقول اليوم، انطلاقاً من قراءة المعلومات التي نملكها قراءة سياسية، وتجميع المواضيع السياسية ـ في مرحلة مرجعية السيد البروجردي:
1 ـ لو أن الامام الخميني في عصر السيد البروجردي، تدخّل في الصراعات السياسية، لما نجح، لعدم الانسجام بينهما، ولضاعت الفرص المستقبلية، وقد عرفت في ما بعد أن الامام كان يحسب حساب المستقبل.
2 ـمثل هذا التحرك، كان بحاجة الى القوى الموالية, في عصر السيد البروجردي كانت الأكثرية المطلقة من الطلبة تابعة له، ولم نكن نحن مستعدين نفسياً لتحمل أعباء أي اهانة يمكن أن توجّه اليه، وحين كنا نسمع أحياناً أن بعض الأشخاص ينتقدونه، كنا نتألم بشدة، ونعد هذه المعارضة منافية للاسلام وللايمان.
3 ـ كان مقام السيد البروجردي يفرض عليه حيث يرى مصلحة، أن يقيم علاقات، وزيارات، ويوجه برقيات تعزية، ولم تكن هذه المواقف تضر بقيمته المعنوية، مع أن بعض القوى في الحوزة كانت في موقع النضال ضد البلاط ونظام الشاه.
4 ـ كان حزب «توده»، قد أفسد بمواقفه المعادية للدين واهانته للمقدسات، ساحة العمل السياسي والنضالي، وأوجد ذهنية لدى المتدينين ترى أن الخطر الأساسي يكمن في انتصار «حزب توده».
5 ـ مع الأخذ في الاعتبار نفوذ المرجعية العظيم، الا أن البعض كان يعتقد أن فرصاً كثيرة قد ضاعت في عصر السيد البروجردي، انما كان له في جميع الأحوال تأثير ايجابي في تاريخ المرجعية.
6 ـ بعض انجازات السيد البروجردي، كتأسيس «دار التقريب»، وتأسيس «مركز هامبورغ الاسلامي»، يدل على تفكيره الراقي، كان يتردد أحياناً، أنه كان يشير بحسرة الى الوضع القائم قائلاً: «ما أكثر الأفكار والأهداف التي كنت أملكها، وها أنا الآن مشغولٌ باعطاء المال وقبضه», يؤكد ذلك، موقع فتاواه وميوله الثقافية التي انعكست في بعض الميادين، كصلاة الجمعة، والتجديد في أساليب الاجتهاد، والحث على تحضير «جامع الأحاديث».
7 ـ تمتعت المرجعية في عصر السيد البروجردي بالمنعة والمكانة الرفيعة, لم يكن يَسمح بأن يهان الطلبة, وكمثال على ذلك، دفاعه عن السيد خزعلي: الذي اتُهم أنه أورد في احدى خطبه في رفسنجان عبارة قاسية بحقّ الشاه، مضمونها التقريبي، أن الشاه كالخاتم في يد السيد البروجردي، يستطيع ساعة يشاء أن يخلَعَه، وقد نُفي بسبب هذه التهمة، فتدخل البروجردي وأرسل رسالة يحتج فيها على معاملة الطلبة بهذه الطريقة.
8ـ في الوقت نفسه، كان موقفه في بعض الأحيان موضع انتقاد الخاصة، مع أن مثل هذه المواقف كانت تحمّل عادةً لأحد أتباعه.
اذا تجاوزنا المسائل السياسية، فقد كانت بعض مواقفه الأخرى تثير التساؤلات: كمعارضته الجدّية لالتحاق طلبة العلوم الدينية بالجامعة، بحيث حُرِموا من مخصّصاتهم الشهرية.
أول منعطف سياسي
في ذلك الوقت، كان لدى الطبقة الدينية التقليدية، حساسية خاصة بالنسبة الى النساء، فكان لا بد من الاستفادة من مثل هذه المجالات، لتنوير الرأي العام وتثويره ردًّا على مغالطات الحكم.
وقد عالج الامام الخميني هذا الجانب بطريقة ذكية جداً؛ وكان منطقه هو التالي:
ـ متى منحتم الرجال الحرية، وأعطيتموهم حق الانتخاب، لتفكروا الآن بالنساء؟ وبهذا البيان يكون النظام قد سُلب شعاره التقدمي هذا.
الأحزاب ومقاومة رجال الدين
في أثناء جهاد «العلماء» الذي استمر شهرين، كان للأحزاب والتنظيمات السياسية: حزب توده (الحزب الشيوعي)، الجبهة الوطنية، نهضت آزادي (المقاومة الحرة) موقف مشترك معبّرٌ عن استيائهم جميعاً من قوة العلماء.
ربما كان يروق للبعض منهم الاستفادة من حركة العلماء سياسياً، بحيث يعبّئون الناس، دون أن يصيروا قوة، وقد كان لنا مع بعضهم لقاءات ومباحثات، كانوا الى حدّ ما يعتقدون أن «المؤسسة الدينية» بسيطة، ليست متعمقة في جذور المشكلات، بل انها تأخذ الأمور على المحمل السطحي، لذلك كانوا في أعماقهم قلقين من انتزاع العلماء الساحة من بين أيديهم، وأن تتميز عليهم في معارضة النظام ومقاومته, في كل الأحوال كان القاسم المشترك بين الشيوعيين والآخرين معارضتهم لمحورية العلماء في المقاومة.
نهج الامام في المقاومة
منذ اليوم الأول، كان هدف الامام النضال لاسقاط الشاه ونظام حكمه، وكان يستفيد بذكاء من جميع الفرص المتاحة لتحقيق هذا الهدف، على الرغم من أنه لم يكن يحظى بدعم جميع الأطراف.
لم يمرّ وقت طويل حتى تيسّرت الظروف الملائمة، وأصبحت وللمرة الاولى المواجهة علنية، حين اتخذ الامام وسائر العلماء موقفاً من سفر الشاه الى قم، سنة 1341 (1962م).
فقد فكر الامام بالتنسيق مع آخرين، بتدبير يقضي بأن يلازم الناس بيوتهم في أثناء هذه الزيارة، وقد كان تجاوب الناس جيداً، وهذا معناه، أن الشعب لا يؤيد الشاه، لذا لم يشارك في مراسم استقباله.
تحريم احتفالات النوروز
حادثة تحريم احتفالات العيد، أحرجت الحكم، فلجأ الى تضليل الجماهير بعبارات من قبيل: «هؤلاء لا يريدون للناس الا البكاء، وبما أن الناس يفرحون في عيد النوروز، يريدون أيضاً أن يحرموهم من هذا العيد».
اضافة الى ذلك لجأوا الى نوعٍ آخر من التضليل، بأن أظهروا القضية وكأنها قضية دينية محضة، وأغفلوا وجهها السياسي، متذرعين بأن موعد العيد في ذلك العام صادف ذكرى استشهاد الامام الصادق، ولكنّ جهودهم لم تثمر، وكان لتحريم العيد تأثير جيد.
الاعتقال الأول
كان أول اعتقال لي في الواقع، قبل بدء المقاومة بسنوات عدة، وربما كنت أول طالبٍ، اعتقاله مرتبط بمقاومة العائلة الپهلوية_ كنت قد سافرت الى همدان، للتبليغ، في العشر الأوائل من المحرّم، التي صادفت سقوط النظام الملكي في العراق، في كلامي، حذّرت حكومة ايران، ووجهت اليها انتقادات لاذعة؛ كنت شاباً وكانت مواعظي لافتة، ومعرفتي وثيقة وعلاقاتي حميمة بالشيخ ملا علي، وآية الله بني صدر والعلماء والطلاب، بعد احدى الخطب، في التاسع أو العاشر من المحرم، اعتُقلتُ في أحد متاجر أصفهان، ونُقلتُ الى المخفر.
نقلونا بعد يومين الى «فيشر اباد», هناك أجبرونا على أن نرتدي الزيّ العسكري الرسمي, عند ذلك صدّقنا أننا مجنّدون.
بابا: أصبحت شرطياً؟
طُرِحت مسألة الثياب في الاجازات، فقد كان يُحظر على الجنود استخدام لباسهم الشرعي، وكان بعض الطلبة يخرجون باللباس العسكري، أما أنا فقد كنت أحتفظ بملابسي معي، وكنت أبدّلها في مكتب أخ زوجتي الذي كان قريباً من ثكنة «باغ شاه».في البال خاطرة جميلة بشأن اللباس تتعلق بابنتي الكبرى «فاطمة»، وقد كانت في الثالثة من عمرها، جاءت بصحبة أمها للزيارة، وكان قد حضر أيضاً بعض العلماء من بينهم السيد علوي بروجردي, لم تكن فاطمة تتوقّع أن تراني بلباس الجيش، فما أن نظرت اليّ وعرفتني حتى قالت: بابا، صرت شرطيّاً؟ هذا المشهد أبكى الحاضرين.
الفرار من الثكنة
أُعلنت حالة التأهب وأُلغيت الاجازات كليّاً، ولم يُسمح لأحدٍ بالخروج,,, قصدت ضابطا، وقلت له انّ طفلتي مريضة، كانت قد أصيبت بمرض الشلل، كنت قد عرفت هذا الخبر في احدى الزيارات السابقة، وقد كان هو على علم بالأمر، تذرّعت بمرض الطفلة، وقلت له ان عائلتي قلقة، وكيفما كان الأمر أريد تصريحاً بالخروج، فأخذ لي تصريحاً.تهيّأت للخروج، ولم أخبر الطلبة أنني قد صممت أن لا أعود، أظن أن ذلك كان في الواحد والعشرين من شهر خرداد، بعد خمسة أو ستة أيام من حادثة 15 خرداد، لا أتذكر التاريخ بدقة، ولكن اذا حسبت مدة التجنيد التي بلغت ستين أو واحداً وستين يوماً، يكون تاريخ المغادرة في العشرين أو الواحد والعشرين من خرداد.
اسم مستعار
بعد هذه الحادثة، وقد تأكدت أنني ملاحق، احتطت للأمر، ولم يكن وضعنا المادي في تلك الأيام مرضياً منذ بدأ التجنيد، فقررت أن أسافر للتبليغ الى مكان بعيد، تحت اسم مستعار، فسافرت في الأيام العشرة الأواخر من صفر الى بيرجند، وقضيت هنالك عشرة أيام، كنت أقيم في المدرسة، وأذهب الى المنبر، لم يكن الوضع سيئاً، كنت قلقاً الى حد ما، ولكن الشعور بالواجب من ناحية، والحاجة المادية من ناحية أخرى، اضافةً الى التّعب النفسي من حالة الفرار والاختفاء، أمدّتني مجتمعة بالجرأة والشجاعة.
كتاب القضية الفلسطينية
قرّرت أن أنجز عملاً، على الرغم من الحياة السرية، وقد كنت قد كتبت في العدد الأخير من نشرة «مكتب تشيع» مقالة عن فلسطين، كان لها وقع كبير في تلك الأيام، فقد كانت القضية الفلسطينية مسألة غير مطروحة في ايران، استعنت لكتابة هذه المقالة، بكتاب أعطانيه المرحوم آية الله الحاج ميرزا خليل كمره اى، بعنوان «القضية الفلسطينية» لأكرم زعيتر, وقد تأثرت بهذا الكتاب الى حدّ أنني بكيت أكثر من مرّة وأنا أطالعه.
تحقير وتعذيب
هذه المرة حضر عَضُدي، قال لي: «أريد أن أقدم لك عيديّة وأريد منك مثلها، عيديّتي لك هي حريتك، وعيديتنا منك أن تساعدنا في اجتثاث جذور الارهاب، فزوِّدْنا بما تعرف من معلومات!».
بما أنني كنت قد سمعت أن السيد الحكيم قد تدخّل، وبناءً على ذلك تمّ الافراج عن المعتقلين، كنت أشعر بالدّعم، فوقفت بثبات، وقلت محتدّاً: «أنتم جلادون، ما هذه المعاملة التي عاملتموني بها؟» توجه نحوي قليلاً: «أتظن أننا نخاف من السيّد الحكيم أو من غيره؟» ثم شرع من جديد بتطبيق برنامج مشدّد لتعذيبي.
سجن القصر: القسم 4
دخلنا سجن القصر، وكانت هذه هي المرة الأولى التي أدخل فيها الحبس العمومي، لم أجرب في الماضي سوى الحبس الانفرادي فقط، ففي اعتقالي الأول قضيت المدة كلها (عدا بضع ساعات) في الحبس الانفرادي، وهذه المرة أيضاً قبل اكتمال الملف كنت في الانفرادي.
حسناً، الحبس العمومي كانت له بالنسبة الينا جاذبية خاصة، وجميع الذين يسجنون لدوافع سياسية يحبون رؤية السجن العمومي، في تلك الأيام كان نزلاء الجناح رقم/4 في سجن القصر خليطاً من بقايا المقاومة الحرة، مثل الدكتور شيباني وعلي بابايي والسيد محمد جواد حجّتي، الذي اعتقل لعلاقته بحزب الملة الاسلامي, الذين كانوا في الجناح رقم/3 - ومجموعة من معتقلي 15 خرداد مثل السادة خاقان ومحمد أقاي باقري وشهاب ومجموعة من القوى الاسلامية المتحالفة ومجموعة من الشيوعيين وكان هنالك أيضاً الشهيد محمد منتظري.
كان معنا في القسم أيضاً منصوري وكامراني اللذان سجنا بعد حادثة قصر المرمر ومحاولة اغتيال الشاه، وكذلك آية الله طالقاني والمهندس بازرگان كانا هنا، وقد أفرج عنهما قبل بضعة أسابيع بمناسبة احتفالات التتويج.
كان تحت تصرفنا غرفتان باسم مقر المتدينين، ومقر لقدامى الشيوعيين المسجونين مؤبداً، باسم مقرّ الشيوعيين.
تأمين سبل العيش
مُنع في هذا الحين عدد من الأصدقاء من الوعظ والكتابة، فأحسسنا بثقل أعبائهم: كانوا بحاجة الى مصروف جيب، والى تأمين أسباب الحياة,,, كان يجب أن نفكر بحلّ هذه المشكلات على نحو يشغل أوقاتهم، ويساعدهم في تدبير شؤون حياتهم؛ كنا في الوقت نفسه بحاجة الى ستار كي لا ينكشف نشاطنا, فقد كنا تحت المراقبة.
أنا كنت أعمد أحياناً - كي يكون الستار محكماً - الى شراء قطعة أرض أبني عليها منزلاً، أسكن فيه سنة أو سنتين، ثم أبيعه بربح معقول يساعدني في حل مشاكلي الحياتية، وفي مساعدة من يحتاج من رفاق المعركة.
مع المجموعات المسلّحة
كان في الحبس العمومي عدد كبير من المعتقلين، فنحو ست عشرة مجموعة مسلحة، وبأسماء مُختلفةٍ، كانت قد كُشفت، وكان هنالك أيضاً السيد ربّاني شيرازي، كما أن معظم أعضاء منظمة مجاهدي خلق ـ عدا المجموعة المركزية ـ كانوا هنالك, من الأشخاص الذين أتذكرهم المهندس سحابي والسيد محمد توسلي، اللذين كانا يشاركانني التهمة نفسها تقريباً, مجموعة المجاهدين كانوا ينتهجون أسلوب (التأطير)، وكانوا قد وضعوا السجن تحت تصرفهم, كان لنا هنالك برنامجٌ خطابي، وهم كانوا ينشدون الأناشيد الحماسية، وكان بينهم واحد يدعى سحر خيز ـ من مجموعة فدائيي خلق - كان يردد نشيداً، أعجبني كثيراً وقد حفظته:
«قم وناضل، أيها الشعب المناضل، حطّم الأغلال، كسّر الأقفاص».
احدى ذكريات «قزل قلعة»
احدى ذكريات هذا السجن الطيبة، التي لا تزال في خاطري، هي تلك المرة التي اشترى فيها السيد مرواريد صندوق فاكهة، وأعطاه لعائلتي لتقدّمه اليّ في السجن, في «قزل قلعة» لكنهم رفضوا السماح لهم بادخال الصندوق، وبما أن اعادته صعبة ومتعبة والعائلة بحاجة الى المال، قررت بيعه الى تاجر فاكهة قريب من السجن، وهنالك التقت العائلة وجهاً لوجه بالسيد مرواريد، فكان الموقف محرجاً ومخجلاً، وحُلّ الاشكال بعد التوضيح.
اللقاء بعرفاتكان للقائي بياسر عرفات قيمة كبيرة، وأهمية تاريخية، لا أتذكر تفاصيل المحادثات التي دارت في ذلك اللقاء، الذي تبين لي فيه أن ياسر عرفات والفلسطينيين المشاركين، كانوا يعرفونني من خلال ترجمتي لكتاب أكرم زعيتر «القضية الفلسطينية»، أما ياسر عرفات فقد كان بالنسبة لي ولجميع المناضلين شخصية معروفة.كان النقاش حول أساليب الثورة هو محور اللقاء، وقد كنا نحن في تلك الأيام، متأثرين جداً بتجاربهم في أساليب النضال، واقامة التنظيمات، وشبكات الارتباط السريّة والواسعة، التي كانوا يمتلكونها، وقد أنشأوا لهم قواعد في عدد كبير من البلدان.
العباءة والتشادر
حكمت عليّ المحكمة البدائية بالسجن لمدة ست سنوات، ففكرت أن أكمل العمل في السجن، ولكن في الاستئناف، بعد توصية من العلامة الخوانساري، اختُصِرت المدة الى ثلاث سنوات، فأدركتُ أنني لن أتمكّن من اتمام العمل في السجن، لذلك قررت أن أهرّب الدفاتر من السجن، خوفاً من مصادرة السافاك لحصيلة التعب، وكنا قد رأينا الكثير من أفعاله المؤذية والدنيئة هذه، كما أن الأصدقاء نبّهوني الى هذا الأمر.يسّر الله لنا طريق الخلاص حين صار يُسمح للزوار بالدخول، بعد أن كانت اللقاءات تتم من وراء الزجاج، كنت في أثناء كل زيارة من الزيارات أسلّم وأنا خائف مضطرب، دفتراً أو أكثر الى زوجتي من تحت العباءة الى تحت التشادر، وكانت هي تعرض نفسها بهذا العمل للخطر، بشجاعة مميزة_ فقد كانت زوجتي تعرف أن حصاد عملي هذا، قيمته عالية، لي وللمجتمع الاسلامي، لذلك قامت بتهريب الدفاتر من السجن، ولم تواجه أيّ خطر بحمد الله ومنّته.
برنامج المطارحات الشعرية
من تسلياتنا، أننا كنا نتحلّق حول بعضنا، وقد تقرر أن يُنشد كلٌّ منا بيتاً أو بيتين من الشعر بصوت عالٍ، كان بعض الأصدقاء يستصعبون الانشاد، ولكننا كنا نصر على مشاركة الجميع، وكانت فرصة للتسلية؛ تخيلوا مشهد السيد طالقاني والسيد منتظري وهما ينشدان! أنا أيضاً لا أملك صوتاً جميلاً، وقد قال السيد طالقاني بعد أن أنشدت بيتين ممازحاً: «فهمنا الآن، ما هي الفلسفة الكامنة من وراء تحريم الغناء!».تتداعى الآن الى ذهني خاطرة تعود الى الزمن الذي كنت أذهب فيه الى أصفهان للتبليغ، أنشدت مرة مجلس العزاء بصوت عالٍ، بعد أن غادرت، صعد أحد معارفي الى جانبي في السيارة وقال لي: «لي عندك رجاء، أن لا تنشد بعد اليوم».
المفضلات