خالص جلبي

جاءت امرأة إلى القاضي تطلب تقاعد زوجها، فقالت له أريد أن يكون المعاش الشهري على الشكل التالي: «ثلاثين كيلو خبز وخمسة كيلوات لحمة، وستين بيضة وخمسة كيلو غرامات سكر، وعشرة كيلو رز وتنكة زيت، وخمس قطع من الصابون..!»
نطقت المرأة الطلب بعفوية، ولكنها كانت تملك أفضل الأدمغة الاقتصادية على الأرض، فما قيمة الدولار إذا كان يوما 360 بفنكا ألمانيا، ليصبح بعد فترة 135 بفنكا (الوحدة النقدية الألمانية السابقة)، أي بخسارة ثلثي قيمته؟؟ أما المواد الغذائية فبها تعيش مهما اضطربت العملة النقدية.

ومع نهاية نوفمبر 2004، كان الدولار قد خسف به من جديد فخسر 40% من قيمته أمام اليورو، وحولت أنا شخصيا مبلغا إلى كندا بسعر 323.79 هللة للدولار الكندي، وكان عام 2003 حوالي 260 هللة سعودية. وهذا يعني أن كل من ارتبط بالدولار الأمريكي خسر 40% من دخله الشهري، بدون أن يشعر بالنكبة.

وينقل لنا التاريخ قصصاً مرعبة عن كارثة (التضخم النقدي Inflation). ففي عهد الأباطرة الرومان الثلاثة (كاليجولا وكلاوديوس ونيرون)، «نضبت الأموال في الخزينة بسبب قيام هؤلاء الحكام بصرفها على إقامة الأعياد والاحتفالات، وبناء البيوت الفخمة ورشوة الجيش والحرس الخاص، من أجل ضمان ولائهم. ولما جفت الأموال، قاموا بفرض الضرائب المرتفعة، والاستيلاء على أموال الميسورين، وضرب عملة جديدة».

ونتيجة لهذه الممارسات الخاطئة، مرت البلاد بأزمة حادة من التضخم، فارتفع سعر القمح بمقدار 100000% (مائة ألف في المائة). وقبل انهيار روما «كان الاقتصاد الروماني قد دُمر تماماً». وسرى نفس الشيء على الامبراطورية الاسبانية، فلم تعد الواردات تغطي سوى نصف النفقات الحكومية، وفقدت العملة قيمتها وبدأ التضخم، ودمرت الضرائب المرتفعة اقتصاد الدولة ومواردها الزراعية، وأدى فقر البلاد إلى فقدان نفوذها، فانكمشت رقعة الامبراطورية إلى حدودها الأصلية، فماتت بحمى الذهب. كذلك الحال بعد الحرب العالمية الأولى، مع كل من النمسا وألمانيا، حيث كانت عربة كاملة من النقد لا تساوي كيلو الخبز.

وأمريكا تعالج وضعاً مريضا بدواء فاسد، فهي تدفع بالدولار إلى الحضيض، فتسدد ديونها بورق من بضاعة مزجاة، ومن كان له دين على أمريكا مائة دولار، فهو سيأخذها ورقا مائة دولار، ولكنها في الحقيقة 60 دولارا، فمرحى لأمريكا! ومن أراد أن يشتري سيارة تويوتا يابانية أو مرسيدس ألمانية، فعليه أن يدفع 40 % أكثر، ولذا لجأ بعض التجار إلى حسابات معقدة، لتسوية هذه الفوضى الدولارية العارمة بحسابات يعجز عنها شاخت الألماني.
ولكن أمريكا بدورها ليست صادرات فقط، بل واردات ايضا، وهذا يعني أنها تدفع المزيد من الدولارات للاستيراد، والأمريكيون ليسوا ذلك الشعب الاقتصادي، بل تعود على الرفاهية على حساب الآخرين منذ أمد بعيد.

وقبل عشرين عاما بيع المارك الألماني بـ 103 هللة، واشتريت أنا يومها ماركات رخيصة بسعر 107,8 هللة نفعتني في شراء عفش للبيت من شركة (أيكيا IKEA) من ألمانيا، فاستفدت مرتين من استرجاع الضريبة ورخص المارك. قال الكابلي يومها عن تحليق الدولار المجنون، إنه ما طار طير وارتفع إلا كما طار وقع. وفعلا فإن رحلة الدولار الموجعة أوصلته إلى الحضيض، فوقع من علياء كما تقع المعزة من سفح جبل، وتوقع بعض الاقتصاديين الألمان وقتها، أن يصل سعر صرف الدولار إلى 120 بفنك، ولم ينزل تماما إلى هذا الرقم ولكنه قاربه فوصل إلى 135 بفنك.

والمشكلة ليست جديدة في مرض الدولار، فهذه قصة قديمة تنبأ لها (هيري فيجيHarry E.Figgie) و(جيرالد سوانسون Gerald j.Swanson) في كتابهما (الإفلاس Bankruptcy) منذ عام 1995، وبأنها ستقود إلى انكماش اقتصادي لا رجعة منه، كما يحدث في المريض المصاب بالصدمة غير القابلة للتصحيح (Irreversible Shock)، وكان التحليل الذي تقدم به الرجلان، أن العجز الأمريكي سيصل إلى شكل عصا الهوكي بمقدار 13 تريليون دولار (13 ألف مليار). عندها ستدخل أمريكا مرحلة انكسار لا قيام منها، ودعيا إلى خطط اقتصادية لوقف هذا الانهيار. وعندما جاء (كلينتون) إلى الحكم، استطاع أن يوقف هذا النزيف، ويخرج من الحكم بميزانية إيجابية، فترك بضع مئات من المليارات فائضة، حتى جاء بوش فأدخلها في مرحلة العجز من جديد، والكسر يزداد بدون توقف.

وأمريكا ذات دخل فلكي، فميزانيتها السنوية تدخل من خمسين ولاية بمقدار 1100 مليار دولار سنويا، ولكنها كانت تنفق 1500 مليار بتحقيق عجز 400 مليار دولار سنوياً، ما يعادل ميزانية أكثر من عشرة دول نامية من خط الفقر.

وحسب القاعدة الاقتصادية، أن ما عندكم ينفد وما عند الله باق، ومع التدبير ينفع المال ولو كان قليلا، ومع التبذير لا يبقى مال مهما كان كثيرا. ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء. وأمريكا عندها 65 قاعدة في أرجاء الأرض تنفق عليها، وتكلفة حاملة الطائرات الواحدة أربعة مليارات دولار.

وينقل عن (فيم دويزنبيرجWim Duisenberg) رئيس البنك المركزي الأوربي قوله: إن الرفاهية في أمريكا في قسمها الأعظم هي محصلة نفخ اقتصادي، وأنها تتغذى على قصور مضاعف Double deficitaوعندما يشرح هذا القصور المزدوج يقول: لقد كانت المؤشرات تتوهج احمرارا في هبوط الميزانية الأمريكية وتوازن التحمل. وهكذا حول بوش الميزانية المعافاة التي خلفها له (كلينتون) خلال سنتين إلى قصور هائل.

فمن جهة مد يده إلى أموال المودعين ليستدين 380 مليار دولار من أجل تخفيف الضرائب وتمويل الحرب، وهو يعني سلبا 4% من الإنتاج الوطني. ومن الخارج ارتفعت كمية الواردات ما اضطر أمريكا لضخها بـ 500 مليار يورو من أموال خارجية، كي تغطي حمى الاستهلاك الأمريكي. إن هذا الشرخ في (توازن التحمل) لم تطق عليه نمور آسيا في الشرق الأقصى. ففي الوقت الذي بلغ المخطط ذروته، وفقد الناس ثقتهم بالأداء الاقتصادي، انهارت أندونيسيا وتايلاند بين ليلة وضحاها. ويقول رئيس قسم الاقتصاد الوطني في البنك الألماني (نوربرت فالترNorbert Walter :«أننا قد نكون شهود انفجار فقاعة الدولار بعد فقاعة الأسهم» واليوم من يملك الدولار ليست أمريكا، بل الاحتياطي من الدولار هو في الشرق الأقصى (اليابان 462.3 مليار، الصين 270.6 ،تايوان 162.3، كوريا الجنوبية 121، وهونج كونج 111.9، مقابل ألمانيا 56.4، وأمريكا 80.4 مليار دولار).

وتخزن دول مهمة مستودعاتها باليورو مثل روسيا وكندا. وهكذا فإن الدول الأسيوية بيدها نصف الأموال العالمية ويشجعون رخاء شريكهم أمريكا، ولكن إلى متى؟ وهذه الدول تسعى إلى رفع احتياطياتها من اليورو، فتايوان مثلا رفعت احتياطيها من اليورو من 20 إلى 35% وسنغافورة إلى 30%. هذه الأرقام تقول أن أمريكا قابلة للإصابة، وأن رفاهيتها تقوم على أن العالم يشتري الدولار لأن البترول يباع بالدولار، وبهذه الكيفية فإن الثقوب في التوازن الاقتصادي الأمريكي تسد، طالما كان البترول يباع بالدولار وبالدولار فقط. مما يبقى الطلب على العملة الأمريكية في مستواها الحالي. ولكن السؤال الكبير هو في ربط عملاتنا إلى دولار مترنح لا يكاد يقف على قدميه.