العائدون من الجحيم العراقي يروون لـ «الرأي العام» حكايا الوقوف على حافة السكين و ... الموت

نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


اللبنانيون الذين نجوا من جحيم الحرب التي افترست بلادهم لنحو عقد ونصف عقد من الزمن لم يفلتوا من الجحيم العراقي، فبعدما تنفسوا الصعداء لأفول الحرب في لبنان كادت ان تصعقهم حرب العراق و «طقوسها».
فيكاد لا يمر اسبوع من دون ان تتناقل وكالات الانباء العالمية خبر خطف لبناني في العراق، او من دون ان تروي تفاصيل عن المفاوضات الصعبة لاطلاق محتجز او الاعلان عن افراج رهينة لبنانية.

وبيروت التي اختبرت جيداً عمليات خطف الرهائن يوم استباحتها الحرب و«ابطالها» تدرك حجم اخطار هذا النوع من القرصنة واكلافها السياسية والانسانية على المخطوف والخاطف في آن.
وكما روى العائدون من الجحيم اللبناني في يوم من الايام حكاياتهم بالكتب والافلام وفضحوا خفايا تلك التجربة المريرة، يروي اللبنانيون العائدون من الجحيم العراقي حكايا الوقوف على حافة السكين و,,,الموت.

بعضهم اطلق، اما بوساطة واما بفدية، والبعض منهم ما زال في غياهب الخطف واسيره، منهم من كان مقيماً في بلاد الرافدين بعدما غدرت به الايام في بلاده، ومنهم من كان يقوم بزيارة عمل خاطفة فخطف، ومنهم طبعاً من ذهب ولم يعد.

العائدون الذين نجوا بحياتهم تحدثوا الى «الرأي العام» عن «الموت مع وقف التنفيذ» الذي عاشوه «وجهاً لوجه» منذ لحظة اعتراضهم فـ «اسرهم» والتهديد بقتلــهم، ومن ثم اطلاقهم وعودتهم، اضافة الى ما تيسر من معلومات عن التفاوض للافراج عنهم.
حكايا فيها الكثير من المأسوية رواها بعض الذين اقتادهم الحظ الى كهوف المقاومة العراقية، قبل ان يقودهم الى الحياة من جديد، وهي نماذج ليست حكراً على اللبنانيين بعدما طاولت عمليات الخطف «مروحة» واسعة من الجنسيات.



قاسم المرقباوي «سجنه» خاطفوه في الصحراء ستة ايام وأكلوا من زاده وشربوا من مياهه: اتهموني بالعمالة لـ «الاميركان» لكنني لم أخف وقارعتهم بالحجة رغم التهديد والوعيد والرصاص

طرابلس (شمال لبنان) ـ من مرسال الترس: احد العائدين من جحيم الخطف في العراق هو السائق قاسم محمد المرقباوي (مواليد 1954 من بلدة المحمرة في قضاء عكار في شمال لبنان) الذي خطف مطلع اغسطس الماضي لنحو ستة ايام توفي خلالها والده في لبنان عن 69 عاماً لانه لم يتحمل غياب ابنه بعدما عملا جنباً الى جنب لأعوام, وأكد قاسم لـ «الرأي العام» ان الخوف لم يتسرب الى قلبه لانه مؤمن بأن «قدر الانسان مكتوب على جبينه»، ولذلك واجه الخاطفين في اصعب الظروف بالحجة والاقناع رغم التهديد بالقتل.

«الرأي العام» التقته في منزله في احد الاحياء الفقيرة داخل مدينة طرابلس, ووسط والدته وزوجته وبعض اولاده تحدث باسهاب عن تلك الفترة العصيبة من حياته، مشيراً الى انه ابصر النور على عمله كسائق شاحنة لان والده مارس هذه المهنة وثلاثة من اشقائه الثمانية والعديد من اقربائه, ويشمل نشاطهم مختلف الدول العربية من سورية الى بلدان الخليج.
وقال: «بدأت بالسفر الى العراق العام 1973 ناقلاً الاخشاب والبضائع المختلفة من مرفأ طرابلس, ولم نتوقف عن السفر في احلك ظروف الحرب لكنني في صيف العام 2002 لم اعد اغادر الى العراق وظللت منقطعاً حتى أواخر صيف 2003، اي بعد اربعة او خمسة اشهر على سقوط بغداد, يومها استفسرت من بعض السائقين عن الاوضاع هناك، فأبلغوني انها عادية ولا تواجههم اي مشاكل، فاستأنفت رحلاتي وكنت انقل بضائع مختلفة لمصلحة شركات عراقية محددة».

وعن المحنة التي تعرّض لها قال: «غادرت لبنان يوم الاحد الاول من اغسطس بعدما حمّلت شاحنتي صناديق عصير الليمون من منطقة الفنار شرق بيروت لمصلحة شركة «طيبا» في بغداد, وصباح الاثنين كنت على الحدود السورية ـ العراقية حيث صادفت ثلاث شاحنات لبنانية تنقل مولدات كهرباء من شركة «الجبيلي» في لبنان، ويقودها اللبنانيان خلدون عثمان وطه الجندي والسوري اسامة عيسى (والدته لبنانية) يرافقهم اللبناني ناصر الجندي كسائق مساعد, وبعدما شربنا الشاي انطلقنا في اتجاه بغداد وسرنا نحو مئتي كيلو متر عندما تعطلت عجلة احدى الشاحنات فاضطررنا الى التوقف لاصلاحها».

واضاف: «تناولنا طعام الفطور خلال اصلاح العجلة، وانطلقنا مجدداً، وكنت اسير في مؤخر الرتل, ووصلنا الى محطة الـ 160 على مشارف مدينة الرمادي، وبعد نحو ثلاثة كيلومترات، وعلى فتحة خط جسر النخيل، أوقفنا الشاحنات لاصلاح مرآة احداها وكانت الساعة قرابة الحادية عشرة قبل الظهر, وفجأة سمعت «تلقيم» سلاح اوتوماتيكي، ورأيت ستة مسلحين بثياب مدنية غير ملتحين مع سيارة من طراز «سوبر كراون» مقودها الى جهة اليمين, وعندما هممت بالصعود الى شاحنتي وجدت خلدون عثمان يقودها وطلب مني ان اقود شاحنته, وهنا تدخل المسلحون طالبين مني التوجه بسرعة الى الشاحنة ففعلت، وصعد الى جانبي ناصر الجندي الذي انتابه الخوف, وعلى الفور خرجنا من الخط العام ودخلنا الصحراء, وبعد نحو ثلاثة كيلومترات انضم الى داخل الشاحنة احد المسلحين وهو في العقد الثالث ولهجته عراقية, في بادئ الامر لم يتحدث الينا ثم قال:

زميلكم الذي يسير في آخر المجموعة (اي عثمان) هسّه نطشره (سوف نقطع رقبته قريباً)، وعندما سألته عن السبب، قال: هو مو خوش ولد (شخص غير صالح) ولا يسير بالسرعة المطلوبة ويتأخر عن القافلة, فحاولت افهامه ان زميلي لم يتعود قيادة شاحنتي كما ان حمولتها ثقيلة، ولكنه ظل يكرر عبارة: هسه نطشره, وبقينا على هذا المنوال قرابة 85 كيلومتراً في الصحراء من دون ان نعرف وجهتنا, وعندما سعيت لمعرفة اسباب خطفنا قال: انتم تنقلون بضائع لمصلحة الجيش الاميركي, فحاولت اقناعه بعكس ذلك فنهرني»,
واضاف قاسم المرقباوي:

«طلبوا منا التوقف لاجراء تحقيق، وبعدما نزلنا، قال لي احد المسلحين: ألا تستحي من نفسك؟ فأجبته: ولماذا أستحي؟ فقال: انك تشيل بضائع للاميركان, فأجبته: وما الذي يثبت لك ذلك؟ انا انقل بضائع لمصلحة شركة عراقية اتعامل معها منذ اعوام, فقال: زملاؤك ينقلون البضائع للاميركان, فأجبت: انهم ينقلون البضائع لمصلحة شركة عربية، وكيف لهم ان يعرفوا الى من ستؤول؟ انتم تلفقون لنا تهمة ليست في محلها، فلماذا تتصرفون معنا هكذا ونحن نعلم ان الشركة التي ينقل زملائي البضائع اليها فيها مساهمون عراقيون؟ فقال لي بحدة: كلهم خونة وكلهم بخس».

رصاص وصفعة

وعن الوضع الذي كان فيه اثناء الحديث قال المرقباوي: «كنت واقفاً ولكن كانوا يطلبون مني من وقت لآخر ان اضع يدي فوق رأسي، او ان انطق بالشهادتين فيما يطلقون بضع رصاصات بقربي, وبعد نحو ساعة من ذلك اقترب احد المسلحين مني وحاول ان يصفعني, فأمسكت بيده فقال لي: عوفها (اتركها)، فأجبته: لماذا اتركها؟ هل اهانة الناس لديكم امر مباح؟ عندها اقترب احد المسلحين، وهو في العقد الثاني، شاهراً مسدسه ووضع فوهته قرب صدغي فقلت لأحد زملائه: اخرجه انه من عمر ابني الرابع ويحاول ان يهددني بالموت، فيما نأتي الى العراق منذ أعوام ولم نقم بأي عمل غير شرعي، بل نعمل من اجل كسب قوتنا، فهل هكذا يأمر دينكم وضميركم؟ فأعطى المسؤول عن المجموعة اشارة لحامل المسدس بأن يبتعد عني وقال لي: قلت انك تحمل عصيراً في شاحنتك، ولكن معلوماتنا تقول بأن الشاحنة محملة بالخمور,

فأجبته: الشاحنة والبضاعة امامكم وباستطاعتكم التأكد منها, فطلب مني فتح الشادر ممسكاً بطرف شعري وقال: هذه الشيبة نحترمها، فأجبته: الاحترام الزائد واضح جداً، طلبتم منا الخروج عن الطريق فخرجنا، وطلبتم التوقف فتوقفنا, ونحن لم نأت من عند شارون (رئيس وزراء اسرائيل) بل نحن عرب ومسلمون وليس هكذا يعامل الاسير لدى المسلمين».

وتابع قاسم روايته: «رافقني احد المسلحين الى متن شاحنتي ليتأكد من نوعية العصير وقال لي: ربما هذا خمر، فقلت: ما عليك سوى ان تتذوقه، فأجاب: ربما خمرت (سكرت) فأجبت: اذا سكرت احملك وأرميك من الشاحنة, وأكدت له مجدداً ان المحتويات هي عصير الفواكه فطلب مني ان احمل صندوقاً وأتوجه به حيث زملائي والمسلحون, وبالفعل قدمنا اليهم عبوات العصير وبعدما تذوقوه قال لي احدهم: هذا خوش (جيد) وتدارك: لكن هذا لا يصل الى عامة الشعب وموجه للاميركان,

وعندها بدأ الحديث يأخذ منحى حوارياً، الامر الذي أراحنا بعض الشيء, ثم طلبوا منا التحرك في الشاحنات فسرنا حوالى ستين كيلومتراً اضافية في الصحراء حتى اصبحنا في احد الاودية، من دون ان ندري اين نحن, وبقينا هناك خمسة ايام يأكلون من طعامنا ويشربون من مياهنا، فيما ننام في الشاحنات او قربها، من دون ان يكون لديهم اي وسيلة اتصال، وكانوا يتناوبون على حراستنا ويتداولون اسماءهم في شكل حركي مثل الملاّ او الشيخ، من دون ان تصدر عنهم اي زلّة لسان».

وهل تطورت علاقتهم مع الخاطفين ايجاباً عندما علموا بأنهم لبنانيون مسلمون؟ اجاب المرقباوي «على العكس تماماً فاللبناني بالنسبة اليهم متعامل مع الاميركيين, اما زميلنا السابق السوري فقد تعرض للضرب على وجهه عندما حاول عدم تلبية مطالبهم».

قرار الإفراج

وواصل قاسم سرد الايام الصعبة: «بعد تسعة ايام على احتجازنا في تلك المنطقة النائية بدأ الطعام والمياه والدخان تنفد واخذت صحة ناصر تتردى، فاتخذ المسلحون قراراً بالافراج عني وعنه في حين أصرّوا على الاحتفاظ بخلدون وطه واسامة بذريعة انهم عملاء, ورافقنا احد المسلحين قرابة الخامسة والنصف مساء الى المكان الذي تم خطفنا فيه، وكانت الساعة تقارب العاشرة ليلاً, ثم عدنا الى محطة الـ 160 حيث بتنا ليلتنا وتشاورنا في امكان الاتصال بالشرطة، ولكننا صرفنا النظر عن ذلك خوفاً من تصفية زملائنا, وفيما نحن نائمان في الشاحنة قرابة الثالثة فجراً فاجأنا مسلحان ملثمان وطلبا منا التأكد من نوعية الحمولة واستوليا على كميات من العصير وغادرا،.

واضاف: «صبيحة اليوم نفسه سرنا في اتجاه الفلوجة، فبغداد، ورافقتنا شاحنتان لبنانيتان, وبعد نحو ثلاث ساعات وصلنا الى منطقة المعارض في آخر الفلوجة لجهة بغداد وفوجئنا بثلاث سيارات تواكبنا وتشير علينا بالتوقف, وما ان توقفنا حتى شهر ركابها السلاح، فأبلغناهم اننا كنا مخطوفين وتم الافراج عنا في الليلة السابقة, فأصرّوا علينا ان ندخل احياء الفلوجة حيث وجدنا انفسنا وسط تظاهرة من المسلحين والمواطنين وصرت خائفاً على زميلي ناصر,

وبعد اخذ ورد طلبت من قائد المجموعة المسلحة التي اصطحبتنا الى الفلوجة ان اتصل بسائق من المنطقة كنت قد تعرفت اليه، فوافق وحاول زميلي العراقي عبر الهاتف ان يجري مفاوضات لاطلاقنا, وبعد نحو ست ساعات قرروا الافراج عنا، وكانت الساعة قد قاربت الخامسة عصراً, وعندما وصلنا الى بغداد اجريت اتصالاً هاتفياً بعائلتي وأخبرتهم انني بخير وسأتأخر لأيام لاستكمال الاتصالات من اجل الافراج عن زملائي، كما اتصلت بعم ناصر وأخبرته بما حصل,

وفي صباح اليوم التالي رافقت ناصر الى كاراج في بغداد سافر منه الى مدينة حمص في سورية, وأقمت في فرع شركة «الجبيلي» في بغداد ستة ايام حتى تم الافراج عن زملائنا».
وهل ينوي العودة الى العراق؟ يقول: «ما دام الوضع الامني هناك غير مطمئن فلست مستعداً للتضحية بحياتي».

http://www.alraialaam.com/27-11-2004...iaamforyou.htm