عدنان حسين

ليس الأمن وحده يحتل مكان الصدارة بين ما يهتم به العراقيون ويقلقهم هذه الأيام. بل ان الهمّ الأمني تراجع كثيرا في مناطق واسعة من العراق، في الشمال والجنوب ومعظم مناطق الوسط، مع استقرار الأوضاع في هذه المناطق وتحسن مستوى المعيشة كثيرا (الرواتب والأجور تضاعفت مرات عدة، وحجم البطالة تقلص كثيرا، والنشاط الاقتصادي ارتفع مستواه، والدينار الجديد تحسنت قيمته واستقرت بالمقارنة مع دينار صدام).

لكن همّا عراقيا آخر، ربما كان هو الاكبر والاثقل، لم يزل على حاله. بل لا مبالغة في القول انه يزداد حدّة يوما بعد آخر. انه همّ استشراء الفساد المالي والاداري في جهاز الدولة (بما فيه الفرع الكردستاني الذي تديره حكومتا اربيل والسليمانية). فمن المساوئ التي خلفها صدام حسين في العراق (وهل ترك أي أثر حسن؟) هذا المستوى الصارخ من الفساد المالي والاداري. فالرشوة والاختلاس والتزوير والغش والتدليس والمحسوبية والمنسوبية واستغلال النفوذ كانت من الممارسات الشائعة على أوسع نطاق في دولة صدام.

ومن الطبيعي ان تنتقل هذه الأمراض الى الدولة العراقية الجديدة مع الجهاز الاداري الموروث الذي ليس من المعقول ولا من المقبول تغييره بالكامل. لكن ما يصدم النفس والشعور ويطعن الروح والضمير ان يخوض مسؤولون جدد ممن كانوا من معارضي نظام صدام في هذا المستنقع الآسن الذي خلّفه صدام، وان ينخرطوا في هذه الممارسات المقيتة المخلّة بالشرف، فيما كان منتظرا من كل واحد منهم ان يكون مثالا يحتذى في النزاهة والأمانة ونموذجا يقتدى به في الاخلاص، خصوصا في هذه المرحلة العصيبة.

لا أتوهم، فلديّ وقائع عن ممارسات مالية وادارية مشينة ومخزية للغاية لمسؤولين عراقيين جدد، كانوا وما زالوا يتحدثون بشعارات الطهر الوطني والديني والتسامي على الصغائر والمطامع الشخصية والنوازع الانانية.. وهذه الوقائع مستقاة من مصادر لا أشك في صدقيتها ونزاهتها ووطنيتها، وهي وقائع تطاول مسؤولين من شتى المستويات: وكلاء وزارات، رؤساء مؤسسات، مديرون عامون، مديرون محافظون، معاونو محافظين. ولن أنسى مسؤولين في السلك الدبلوماسي. واستطيع ان اضيف ايضا الى هذه القائمة وزراء، فلا أفترض ان اعضاء الحكومة العراقية الحالية هم باجمعهم انصاف ملائكة. كما لن أتردد في اضافة اعضاء في المجلس الوطني (البرلمان).

في ذروة الانتقادات الموجهة الى السلطة الفلسطينية عن الفساد المالي والاداري المستشري في اوساطها، دعا أحد كتاب «الشرق الأوسط» المتميزين، هو الزميل الدكتور مأمون فندي، مسؤولي هذه السلطة الى «فساد اقل»، باعتبار ان شعار وقف الفساد المالي والاداري هو غير عملي حتى بالنسبة للسلطة الفلسطينية، حتى وهي في وضع عدم النجاح في انجاز وعدها الرئيسي، بل مبرر وجودها، بتحقيق الاستقلال التام للشعب الفلسطيني. واستعير من الدكتور فندي فكرته الذكية، لكن لا لأدعو مسؤولي السلطة العراقية الجديدة الى فساد أقل، فالوضع في العراق لا يتحمل أي مستوى من الفساد، خصوصا ان المانحين هنا ما زالوا بخلاء الى أبعد الحدود بخلاف مانحي السلطة الفلسطينية الكرماء.

أدعو حرامية بغداد، الجدد منهم والقدامى، الى تأجيل فسادهم بعض الوقت. فهم الآن كمن يحلب بقرة لم تلد بعد، واقول لهم: دعوا هذه البقرة تلد، واتركوا ضرعها يمتلئ بالحليب (وبالمناسبة فان ضرع البقرة العراقية سيكون مدرارا بعد الولادة: انطلاق عملية الاعمار)، ثم اسرقوا من هذا الحليب ما تشاؤون. اما الآن فانكم تجففون منابع الثروات الطائلة التي يمكنكم ان تنهبوها في المستقبل وأن تتركوا للشعب العراقي بعضا منها يعيش معه ببعض الكرامة.
اللهم أشهد انني بلّغت.