الشرق الاوسط اللندنية
سوسن الأبطح
هل بات كل اللبنانيين على «الفايس بوك» هذه الأيام؟ فهذه جارتي الملتزمة مع أولادها، في لقطة فوتوغرافية، تقدم نفسها مع عائلتها الصغيرة، على صفحة خاصة وتعرّف جماهير الموقع بأصدقائها وأقاربها عارضة صوراً بعضها حميمة وغريبة. وذاك طالب أعرفه جيداً، يطلع من صورته عاري الجذع يضحك بهستيريا مقززة، وعلى صفحته الخاصة رفاقه الذين تصوروا هم أيضا بوضعيات لا يبدو أنها تشبه شخصياتهم التي أراهم عليها في حياتهم اليومية. وثمة صبايا زرت صفحاتهن أعرف كم هن من عائلات محافظة، لكن العبارات والرسائل التي تبادلنها مع أصدقائهن وصديقاتهن، والتي يمكن ان يطلع عليها زوار صفحاتهن، لا تمت إلى المحافظة بصلة، بقدر ما تقترب من الوقاحة والفجاجة.
هذا الموقع الذي انطلق منذ ثلاث سنوات فقط وبات السابع عالمياً، هو الأول في لبنان اليوم والثالث في كل من مصر والأردن، ويزحف إلى دول عربية أخرى، بسرعة قياسية. ولا غرابة في ان يغرم العرب بجديد يصلهم، لكن المثير ان تقليعة إنترنتية، من هذا النوع بدأت لتسهيل التواصل بين طلاب جامعة «هارفرد»، ثم فتحت للعموم، بمقدورها أن تفعل، في أشهر محدودات، ما كنا نحتاج سنوات طويلة، لقبول إخراجه إلى العلن.
ويشرح مبتكر الموقع الشاب الصغير ماك زوغربرج فكرته، على أنها قائمة على عملية رياضية، الهدف منها إعادة تشكيل خارطة العلاقات البشرية على شبكة الانترنت، كما هي على الأرض. فكل مشترك هو نواة مرتبطة بشبكة من الناس. وحين يدعو هذا المشترك معارفه للحاق به إلى «فايس بوك»، فإنما هو يأتي مع أصدقائه وعائلته ومعارفه الأقربين والأبعدين. وحين يتبادل هؤلاء الرسائل والصور والأخبار والمشاعر وهدايا المناسبات، فإن مجموع هذه المبادلات اليومية يصبح وكأنه صورة للواقع الأرضي.
لكن هل صورنا ورسائلنا وصفحاتنا المتحررة الجريئة على «الفايس بوك» هي مرآة لحياتنا أم انعكاس لما في لا وعينا. وفي هذه الحالة، ما هو المزيف تحديدا، الصورة أم الأصل؟ وهل حياؤنا الاجتماعي مجرد ماكياج نمسحه حين نتخفى وراء الأجهزة الإلكترونية. يقول الفيلسوف الألماني المتخصص في علم التواصل بلوز نوبير، أنه يعرف زملاء، كانوا لا ينبسون ببنت شفة في حياتهم اليومية، لكنهم حين يتعاطون مع الآخرين إلكترونياً، فإنهم يتحولون إلى مخلوقات أخرى مختلفة.
يتوقع مبتكر «فايس بوك»، ذو الثالثة والعشرين ربيعاً، انه في غضون خمس سنوات سيكون العالم كله على موقعه. فالأمر لم يعد مقصوراً على الشباب، وإنما الخمسون مليون مشترك حاليا، يزداد عددهم كل يوم مئة ألف، والعدد التصاعدي هذا يضم الكثيرين ممن تعدوا ثلاثيناتهم وصولاً إلى الخمسينات وما فوق.
«الفايس بوك» قد ينطفئ غداً، لصالح تقليعة أخرى تجتاحنا من دون ان نفهم سبباً لهوسنا بها. لكن الصرعات المتتالية، التي باتت أشبه بالطوفان، تأتي معها بعواصف تغيرية تضرب الملايين، ومع ذلك لا يريد أن يلحظها أحد.
والذين يتحدثون عن الغزو الثقافي ويؤلفون الكتب، ويدبجون المقالات، ربما لم يتنبهوا إلى ان المعرفة النظرية باتت أضعف من أن تخوض حربها مع المعرفة العملية والتطبيقية. هذه المعرفة التي استخدمها ماك زوغربرج، ليأتينا بـ«الفايس بوك» أو جيمي وايلس مبتكر موسوعة «ويكيبيديا» التي يدبجها الهواة وصارت رغم أخطائها وعللها قادرة على أن تصرع موسوعة «بريتانيكا» العريقة بالضربة القاضية. ومثل هذين المبتكرين كريس دوولف مؤسس موقع «ماي فايس» الذي جعل التفاعل بين الناس وتبادل الآراء في ما بينهم، أسهل من شرب الكوكاكولا. هؤلاء الذين لا نعرف أسماءهم، ولم نسمع لهم خطبة، أو نقرأ لهم مقالة أو قصيدة، بمقدورهم اليوم أن يغيروا بكبسات أزرارهم المعرفية وجه الدنيا، وينقلبوا ببرامجهم الذكية على عاداتنا وتقاليدنا، التي نتغنى بها، مع أنها غادرتنا، ونسينا حتى أن نودعها، لشدة فرحنا ببدائلها.
هل زرت مرة موقع «ساتشي أون لاين»، الذي يجلس أصحابه في مبنى تحت الأرض في لندن، ويعملون بصمت. هؤلاء يحضرون لانقلاب في عالم الفنون. فلقد ابتكروا معرضاً تشكيلياً على الشبكة، بمقدورك ان تزوره وتشتري، وتدلي برأيك في الأعمال التي تراها. هذا كله ليس بجديد، لكن الجديد أن الفضاء الافتراضي لا يعترف بالمساحات، وفي هذا المعرض 35 ألف فنان دفعة واحدة، وثمة ملحق إضافي سيضم أعمالاً لحوالي 19 ألف طالب فنون. إضافة إلى ان هذا الموقع الذي لا يضاهي عدد مقتنياته أي معرض في الواقع، مجاني ويؤمن التواصل بين الفنانين والمشترين بدون واسطة أو سمسرة.
هناك اليوم المواقع التي بمقدورها أن تبيعك قصوراً وهمية، ومفروشات افتراضية، وورداً ليس له على الأرض من وجود. ولهذه البضائع مشترون يبيعونها لآخرين، ويربحون الكثير. قد يبدو هذا ضرباً من الجنون، لكن العقليات تتبدل، ولها ليونة العجين. وهو ما يعتمد عليه أصحاب مشروع «يو مينج» الذين يضعون كل الكتب التي ينشرونها على الموقع، ويعلنون انها متاحة للطباعة والقراءة والاستخدام الشخصي، وان حقوق المؤلف والناشر، كذبة كبيرة ما عادت تنطلي على أحد. وأنهم مقابل كل كتاب يصور عن موقعهم ثمة كتاب يباع على الأقل، وأنهم أكثر ربحاً من دور نشر تتمسك بنظرية الحقوق التي أكل الدهر عليها وشرب، حسب رأيهم.
كل هذا لنقول إن الكلام والتنظير، أمور باتت ضئيلة التأثير، ومن يريد ان يكون فاعلاً اليوم عليه ان يشمر عن سواعده، ويحك رأسه، ويأتي بفكرة تفتن وتسرق الأمزجة. ففي الوقت الذي يضيع فيه العرب الوقت بتبادل الاتهامات، ومناقشة بائد الأفكار، والاختلاف حول أمور لم يتمكنوا من حلها طوال مئة وخمسين سنة، ثمة من يأتينا بغتة من قلب جهاز صغير ليرسم لنا مستقبلنا، ويقولب أولادنا، وربما أزواجنا، دون أن نحرك ساكناً.
sawsan_abtah@hotmail.com
المفضلات