أجــــــــل.. هكـــــذا كــــــان يـــــا أخــــــــــي


بقلم - علي شريعتي:

أنني انتمي من جهة الى فئة المثقفين الملتزمين بالناس وبمبادئ الدين، ومن جهة نشأت في منطقة عانت جفاف الحياة وصعابها وفقرها فلا رفاه فيها ولا ترف.. ثم انني انتمي الى عائلة لا يجري في عروقها ما يسمى الدم النبيل، أي النبل والشرف القائمان عادة على المال والنفوذ والقوة.


لهذا كله، فأنا احس من اعماقي بأن اجدادي في التاريخ، هم اولئك الذين خاضوا اصعب معاركه، وعانوا الفقر والحرمان من اجل صنع مآثره، وبما ان الحضارات كانت تقع في دائرة اختصاصي، وقد كنت احاول الاطلاع على آثار الحضارات القديمة اينما سافرت وحللت، معتبرا تلك الحضارات وآثارها من اعظم امجاد الانسان. كنت اتمعن في الآثار أحاول ان استشف ما يفيدني في دراسة علم الاجتماع..احاول ان ارى الناس وكيف كانوا، من خلال الآثار التي بقيت منهم.


في اليونان، زرت معبد دلفي فانبهرت ببناءه العجيب، كما اعجبت في اوروبا كلها - خصوصا في روما - بالكنائس الضخمة والقصور والتماثيل التي ابدع الانسان في نحتها.في الشرق الاقصى - الصين وفيتنام وكمبوديا - ترى جبالا باكملها وقد نحتتها يد الانسان الجبارة. ذلك الانسان الذي استخدم يديه وعيونه واعصابه كلها، لكي يبني معالم ومآثر للآلهة ولضلال الآلهة وممثليهم الرسميين (الكهنة).


في صيف احد السنيين، قصدت افريقيا لارى الاهرام التي تعتبر من عجائب الدنيا السبع، وقد سررت لوجودي هناك، وانا استمع بكل جوارحي للشرح الذي قدمه الدليل عن تاريخ الاهرام وكيفية بنائها.


لقد حمل العبيد ما بلغ ثمانمئة مليون من الواح الحجر من اسوان الى مكان الاهرام قرب القاهرة، ليشيدوا هناك تسعة اهرام، ستة منها صغيرة وثلاثة هي الاهرام الاكبر والاكثر صيتا في العالم، وقد سار العبيد بهذه الحجارة الضخمة، مسافة تصل الى اكثر من تسعمئة كيلومتر، ليبنى بها ذلك البناء الضخم الشاهق، حيث استقرت اجساد الفراعنة المحنطة.


رأيت على مقربة من الاهرام اكواما من الحجارة، وقد وضعت من غير ترتيب. سألت عنها، فأجابني الدليل، انها قبور جماعية عميقة، حفرت ليدفن فيها من هلك من العبيد اثناء العمل الشاق في بناء الاهرام. فقد نقل ثلاثون الف رقيق حجارة الاهرام في ثلاثين عاما وكان مئات منهم يسقطون كل يوم من الاعياء ويلفظون انفاسهم الاخيرة، فيأمر الفرعون بدفنهم في حفر تحيط بالاهرام، ليظلوا يحيطون به في موته، لتخدمه ارواحهم في الموت كما خدمته اجسادهم في الحياة.


رغم الحاح دليلي بأن تلك الحفر ليس لها قيمة اثرية تذكر، فقد تركته وجلست الى جانبها، احاول ان اتذكر آلاف البشر الذين ماتوا كي يصنعوا قبرا لفرعون من فراعنة التاريخ. لقد احسست بعلاقة متينة تربطني وهؤلاء الذين اندثرت عظامهم في الحفر.. شعرت بأننا من اصل واحد، رغم انني من بلاد غير بلادهم، ورغم ان مسافات وحدود وازمان تفصل ما بيننا، ولكن الفواصل كلها مكروهة وظالمة، وقد فرضت على العالم لتفكك صلات البشر ببعضهم، شعرت برابطة حميمة مع هؤلاء وسرى في جسدي شيء من معاناتهم وآلامهم، ثم نظرت الى الاهرام مرة أخرى فشعرت بالغربة عنها، بل شعرت بنوع من الحقد عليها فهي.. وكل الآثار والقصور الشاهقة التي بقيت من التاريخ، انما قامت على دماء واشلاء اجدادي واسلافي، فهذا هو سور الصين العظيم مثلا، بناه آلاف من اجدادي المستعبدين، ومن سقط في العمل تحت عبئ الاحجار..دفن في شقوق الحائط واستمر العمل بعده.


هكذا كدت ارى منجزات الحضارات.. وكأنها تراكم للمظالم عبر آلاف السنين، طوت في ثناياها اجساد اجدادي.. لذلك بقيت بين هذه القبور لحظات تأمل عميقة وانا احس وكأنني جالس بين اخوة لي.


عندما عدت الى منزلي، بدأت بكتابة رسالة الى احد اولئك الاخوة، الى مجهول من هؤلاء الرقيق، اسرد له فيها ما جرى لاخوته من البشر في الخمسة آلاف سنة التي انقضت على غيابه عن الارض، في هذه الفترة الطويلة.. لم يكن هو موجودا، ولكن الرق والرقيق كانوا موجودين باستمرار بأشكال وصور مختلفة على مر المراحل.


قلت في رسالتي:


لقد رحلت عنا، ونحن لم نزل نبني الحضارات العريقة ونعد العدة من أجل فتوحات ومآثر جديدة. كانوا يأتون الى قرانا وضياعنا فيجروننا وراءهم كالبهائم الى حيث نصنع قبورهم، وعندما كنا ننتهي من بناء الصرح كان المجد لهم وحدهم، أما نحن.. فعندما كانت تخور قوانا، بعد ذلك الجهد الجهيد كنا ندفن هناك بين صخور المقبرة.


كانوا يسوقوننا احيانا الى الحرب، لحرب اناس لم نعرفهم ولم نكرههم من قبل، بل وربما لحرب اناس من مواطنينا ورفاقنا وأقرب الناس الينا، كنا نحن نساق للحرب، بينما ينتظر آباؤنا وامهاتنا المسنون عودتنا بفارغ الصبر، انتظارا من دون جدوى ولا نتيجة.
هذه الحروب - على حد قول احد المفكرين - كانت حربا بين فريقين، لا يعرف احدهما الآخر، لحساب فريقين يعرف احدهما الآخر، ولكنهما لا يتقاتلان بأنفسهما.


كنا نبيد بعضنا بعضا، اذا كنا مضطرين اما لنفتل ونقييم المذابح للآخرين، او نواجه الهزيمة، وعند الهزائم كان الخراب والمدن المهدمة والمزارع المحروقة الجرداء تبقى لنا ولآبائنا وامهاتنا. أما عند النصر، فقد كان المجد والعز يسجلان لغيرنا. هكذا كنا نحن ادوات فقط.. مهزومين في النصر كما في الهزيمة، لكن يا أخي حدث بعدك تحول كبير فقد بدأ الفراعنة والقياصرة وطواغيت العالم يتغيرون في تفكيرهم، فتركوا عقائدهم عن الموت وبناء القبور كي تبقى الارواح فيها حية، وقد فرحنا لذلك التحول كثيرا، اذ لاحت لنا نهاية المسيرات المرهقة والمهلكة التي جلبنا بها ملايين الاحجار من مسافة ألف كيلومتر، ورصفناها على بعض كي نصنع قبرا خالدا.


لكن الفرحة لم تعمر طويلا، فقد اغاروا على قرانا وضياعنا مرة أخرى، وساقونا عبيدا ليحملونا الصخور مرة أخرى، لا لبناء القبور وانما لبناء قصورهم واسوارهم، تلك القصور والاسوار التي قامت بدمائنا وعلى اشلائنا.


غرقنا مرة أخرى في لجة اليأس، وكدنا نفقد آخر بصيص من نور الأمل، الى ان جاء بشير الخلاص، عندما بدأت نهضة الانبياء العظام، زرادشت، ماني، بوذا، كنفوشيوس الحكيم، لاوتسو.. فقد كانوا أملنا في الخلاص من العبودية والهوان والظلم، وقد اعتقدنا ان الله بعث هؤلاء رسلا من اجل انقاذنا نحن المحرومين والمستضعفين، ومن اجل احلال الحق والعبادة محل الظلم والرق.


لكن هؤلاء الرسل قصدوا القصور من دون ان يمروا بنا ويأبهوا لما نحن فيه.فذلك الحكيم كنفوشيوس مثلا، كان ينشر تعاليمه عن الانسان والانسانية والمجتمع، وقد صدقنا قوله، الا اننا رأيناه يصبح وزيرا في دولة (لو) ونديما للامراء والحكام.



أما بوذا الذي كان من امراء (بنارس) فقد انقطع عنا واعتزل العالم ليخلوا الى نفسه في محاولة لبلوغ النيرفانا، وقد اعتكف ليخرج للجياع بمنظومة افكار فلسفية ورياضية حول ذاك.. وزرادشت الذي بعث في اذربيجان، لم يتجه نحونا نحن المحرومين والمعذبين، بل توجه نحو مدينة (بلخ) حيث استقر في بلاط الملك كشتاسب، كذلك ماني الذي ركز على مسألة النور والظلام وهو يجمعنا حوله نحن المعذبين واسرى الظلام، فتوسمنا فيه خيرا ونورا واعتبرناه المنقذ المنتظر. لكنه ما لبث ان لملم وعوده العريضة وعبر عن حقيقة توجهه في كتاب اهداه الى الملك الساساني شاهبور، ثم بارك حفل تتويجه، وكان له شرف مرافقته الموكب الملكي الى سرنديب، والهند وبلخ، وبعد ذلك كله بدأ يبرز هزيمتنا بهذه الانشودة: (كل من يهزم ويندحر فهو من طينة الظلام، وكل من ينتصر ويتفوق فهو من ذات النور)


لقد كان هذا هو كل ما انشده لنا.. نحن المهزومين عبر التاريخ.


لقد ذهبت انت يا أخي ضحية بناء قبور الفراعنة، بينما جعلت انا فداء لقصور الحكام وقلاعهم الشاهقة. ووجدت نفسي مكبلا بقيود خلفاء فرعون وقارون الذين استرقونا وسخرونا لخدمتهم. لقد شكل هؤلاء الخلفاء طبقة رجال الدين الرسميين (الكهنة)، التي اصبحت طبقة فوقية متنفذة ومستكبرة، وقد كتب علي ان اخدم هؤلاء وابني لهم القصور والمعابد الفخمة، في ايران وفلسطين ومصر والصين، وفي كل مكان يوجد فيه محروم مغلوب على امره ومستعبد. ان هؤلاء القيمين الرسميين على الدين الذين ادعوا تمثيل الله وخلافة انبيائه نهبونا الزكاة وساقونا للقتال باسم الجهاد، بل انهم اجبرونا على تقديم فلذات اكبادنا على مذبح الاصنام قربانا للآلهة، حتى اصبحت المعابد تسقى باستمرار من دماء ابنائنا وبناتنا الابرياء.



لقد اصبحنا نعاني اسوء انواع الاستغلال باسم الآلهة،وذلك على ايدي فرعون وقارون وخلفائهما والقيمين الرسميين على دينهما.لقد اغتصب مؤيدوا الاهواز (كهنة المجوس) ثلاثة اخماس اراضينا، وجعلونا اشباه عبيد. كذلك فعل كهنة المسيحية، حيث استولوا باسم الكنيسة على اموال واراضي الناس.


في آلاف السنين، بنينا المعابد والقصور في روما والتماثيل الضخمة في الصين، كنا نحن نهلك بصمت اما المجد فكان يبقى نصيب الكهنة والقساوسة والمقيمين والمتاجرين به، وارثي قارون وفرعون.


انا الذي عشت بعدك بالآلف السنين، وتتبعت ما جرى في هذه السنين، وصلت الى نتيجة هي ان الآلهة ايضا تكره العبيد وان هذه الاديان ما هي الا قيود جديدة ارسلت الينا وان الكهنة والقائمين على امر الدين انما استخدموا تلك القيود لاسترقاقنا ولتبرير سيطرة اصحاب القصور.
ثم عرف عالمنا فلاسفة وحكماء، كان فهمهم عميقا وعلمهم غزيرا، ولكن حتى هؤلاء لم يجدونا نفعا، فارسطو مثلا، اعتقد بأن من الناس من ولد ليكون عبدا، ومنهم من ولد نبيلا وسيدا، لذلك رأى من الطبيعي ان نبقى في الطبقة الدنيا من المجتمع نُسام العناء ونعامل بالسوط، فلذلك كان قدرنا حسب رأي اولئك الفلاسفة.


لكن العالم شهد مفاجأة جديدة،عندما ظهر نبي جديد، وقد نزل من الجبل متجها للناس، قائلا لهم (اني رسول الله اليكم جميعا). كتمت انفاسي وانا بين الدهشة والشك، فلعل في الامر خدعة جديدة لكنه استمر في الكلام (اني بعثت من قبل الله القائل: ونريد ان نمن على الذين استضعفوا في الارض ونجعلهم ائمة ونجعلهم الوارثين). عجبا، كيف يحدث الله العبيد والمستضعفين فيبشرهم بالنجاة ويجعلهم وارثي الارض وسادة العالم، كدت لا اصدق، اذ اعتقدته كأنبياء آخرين، جاءونا من ايران والهند والصين، او ربما كان اميرا ادعى النبوة، كي يعب الناس ضد أمير آخر، فيبلغ مناله من خلال الدين.



قالوا: لا.. انه يتيم، شاهده الناس جميعا وهو يرعى الغنم في سفح الجبل فتعجبت اكثر: كيف يصطفي الله رسولا بين الرعاة.فقالوا لي بل انه آخر واحد من سلسلة الانبياء - الرعاة -، وقد كان اجداده الانبياء أيضاً هم من الرعاة والفقراء، فارتجفت اوصالي، وشعرت برعشة امتزج فيها الارتباك والخوف والرجاء.. فهذا نبي يبعث منا وفينا، وزال ترددي عندما رأيت حولي اخواني من الفقراء والعبيد: بلال.. ذلك العبد الحبشي.. سلمان.. أسير حرب ايران ثم مستعبد، ابوذر.. اعرابي معدم من الصحراء.. سالم.. مولى زوجة ابي حذيفة وآخرون غيرهم هم من العبيد والفقراء، التفوا حول النبي ثم اصبحوا سادة قومهم.


آمنت بذلك النبي، لان (قصره) كان بضع غرف من الطين بناها، بعد الحاح الناس وقد ساهم هو في بنائها، و(بلاطه) كان خشبة ثبتت على سعف النخيل، هكذا كان كل متاعه في الدنيا.. وقد رحل عنها وهو لا يملك أكثر.


فهربت من ايران، ناجيا بجلدي من ظلم المؤبدين (الكهنة المجوس) الذين استرقونا وساقونا الى حروبهم التافهة.هربت الى مدينة النبي واعتصمت بها الى جانب رفاقي من العبيد والمظلومين والمستضعفين في الارض، وبقيت الى جانبه الى ان وافاه الاجل وتركنا، ولازالت قضية رسالته محفوفة بالمخاطر والاحتمالات المختلفة.



يئست من جديد وشعرت اني مغلوب على امري، فها هي سلطة جديدة تستتر برداء التوحيد، وهي تنشر الكذب في المساجد وتحارب الله باسم الله.. وعرفنا مرة أخرى وجوها فرعونية وقارونية تحكم بصوت الدين، وتستغلنا من اجل بناء معابد وقصور في دمشق، وهكذا بدأنا ببناء الصروح الضخمة، جامع دمشق الكبير، القصر الأخضر، دار الخلافة ببغداد حيث حياة الف ليلة وليلة.



ولقد بني كل ذلك على اكتافنا، واعطينا لها دما وحياة.. فقد كان يفرض علينا كل ذلك باسم الله وخلافة رسول الله. وكدت اعتقد بأن الخلاص مستحيل وان العبودية انما كتبت علينا. من كان ذلك النبي، هل جاءنا برسالة مزيفة، هل خدعنا ونظم صفوفنا لكني نسخر في ما بعد لخدمة فئة من الناس، هل انه عرف بأننا سنسبى ونضطهد باسمه؟ كلا.. فقد كان هو مثلنا ضحية لما حدث بعده. والآن.. اين المفر، أي طريق اسلك للنجاة؟ هل ارجع الى الجاهلية الى كهنة مجوس، ام الى معابد قامت على اساس الظلم والتزييف؟


ام تراني ارجع الى قادة شعبي الذين يعملون من اجل تحررها، أي الى الذين خسروا سلطانهم في ثورة الاسلام فيحاولون العودة اليوم الى تراثهم البالي وجاهليتهم الاولى بعد ان جاءتهم البينات، أم التج للمساجد.. ولكن ما الفرق بين المساجد الجديدة والمعابد القديمة؟.. وقد رأيت المتلبسين لباس الخلافة والمدعين السير على نهج الرسول، وسيوفا كتب على حدها (الجهاد)، ومآذن ارتفعت باسم التوحيد.. رأيت ذلك كله يستخدم مرة أخرى لاستغلالي وجري الى ساحات الحروب والدمار والتكفير.


ثم ان اخا آخر من اخواننا، اصبح ضحية ذلك التراجع، وهو (علي) الذي قتل في محراب الله، وظلم هو وآل بيته واصحابه، وقد ظلم وقتل باسم الاسلام.. اما ذلك الكتاب الذي لا ريب فيه، فقد رفع على اسنة الحراب واستخدم في دحر (علي) قبل ان يستخدم وسيلة لاستلابي وقهري وتسخيري.


بعد خمسة آلاف سنة وجدنا من يتحدث لنا عن الله، لكن يتوجه الينا نحن المستضعفين لا الى الامراء والنبلاء، فلم يكن كبوذا ساعيا وراء النيرفانا، ولا كالرهبان الذين يخدعون الناس ولا كالصوفيين الذين ينشدون الاتحاد مع الذات الالهية وهم في عزلة. لقد كان رجل عدالة وجهاد، وقد اصبح اخوه (عقيل) الضحية الاولى لتلك العدالة الصارمة الخشنة، أما زوجته التي كانت بنت ذلك الرسول العظيم، فقد كانت تنشط وتعمل وتعاني كبقية الناس أما اولاده وذريته فقد حملوا رايته الحمراء على امتداد التاريخ.


لقد التجأت الى كوخه البسيط هربا من الصروح التي شيدت،ومن الفراعنة الجدد الذين استقروا على العروش. أما هو فقد بقي وحيدا، بعد ان فارقه اصحاب الرسول، ورحلت زوجته، وقد بكى كثيرا وهو في نخيل بني النجار، كان يبكي عذابنا ومعاناتنا ويناجي بنحيبه الله.
لقد كان هو واصحابه منا نحن المحرومين، وقد استخدم فصاحته وبلاغته لا من اجل تبرير الوضع القائم وتزوير وعينا، بل من اجل انقاذنا واستنهاضنا وتوعيتنا. كان كلامه ابلغ من كلام (ديموس تنس) من دون ان ذلك الكلام هدفا شخصيا. كان خطابه اكثر تأثيرا من (بوسويه) ولكن ليس للتملق في بلاط (لوي)، انما لاستنهاض المعذبين في الارض.. مثل بلاغته، لقد اشهر سيفه ايضا دفاعا عن الحق وعنا، لا للدفاع عن اهله ومصالحه، او للدفاع عن الدول والسلاطين. لقد كان في تفانيه من اجلنا خيرا من اسبارتاكوس، وفي تفكيره افضل وامضى من سقراط، وقد استخدم فكره لا للحديث عن فضائل السادة ومشروعية امتيازاتهم وانما لتثبيت قيم الانسان الاصيلة. لم يكن وريثا لفرعون وقارون او للكهنة، ولم يكن له محراب ولا مسجد، بل انه كان نفسه شهيد المحراب.


انه رمز للحق والعدالة وللفكر، ولكنه لم يكن كرموز الفكر الموجودة في زوايا المكتبات ودور العلم، ولا من العلماء الذين يشغلهم التفكير (العميق) عن المعاناة مع بؤس الناس وجوعهم.
ان يتلقى بهدوء وسماحة طعنة الخنجر لكن ينتفض غضبا وألما عندما يسمع ان امرأة يهودية لحقها الظلم يقول (فلو ان امرا مسلما مات من بعد هذا اسفا ما كان به ملوما). انه سيد البلاغة والكلام العذب، لكن حديثه الرائع لا يشبه (الشاهنامة) تلك الملحمة التي بلغت ستين الف بيت، وكرست لسير الملوك، والقادة، ولم تذكر اخا مستضعفا لنا الا مرة وذلك عندما سرد قصة كاوه الحداد، ولكن حتى بطلنا كاوه، اكتفى بذكر بضعة ابيات عنه، ثم انه رغم كفاحه المجيد من اجل تحررنا فإن مصيره اصابه التشويه في الشاهنامة اذ ان شخصية (فريدون) النبيلة ونسبه العريق، طغت على شخصية بطلنا الكادح.


ولازلنا يا أخي نعيش زمنا هو في امس الحاجة الى رجل مثله فهو ليس كالحكماء والعلماء الذين كانوا رجال علم لا عمل، او كانوا رجال عمل من دون علم، وكان من القادة من هو رجل علم وعمل، الا انه لم يكن قائد الجهاد وميادين الحروب، ومنهم من اجتمعت فيهم الصفات الثلاثة - العلم والعمل وقيادة الحروب - لكنهم لم يكونوا ثقاة وعادلين، وحتى لو توفرت الخصال الاربع في بعضهم فلم يكونوا كالعاشقين في لطفهم ورقة احاسيسهم وخلوص حبهم لله وللناس.



*** من هو علي شريعتي؟
* مفكر إيراني ولد 1933
* رسل في بعثة إلى فرنسا العام 1959م ودرس الأديان وعلم اجتماع الأدب.
* حصل على شهادتين للدكتوراه في تاريخ الإسلام وعلم الاجتماع.
* كان ناشطا سياسيا ضد نظام الشاه.
* قتل في لندن العام 1977م.
* من مؤلفاته المنقولة إلى العربية :
- العودة إلى الذات.
- الإنسان والإسلام.
- النباهة والاستحمار