أخصائي: دخلت مع الوافدين والأفلام وأغلب المنتحرين فتيات

الدمام: فارس بن حزام

لم تتردد «ن . ع» في شرب كوب من مادة كيميائية خصصت لتنظيف دورات المياه، بعد أن أحكمت إغلاق باب دورة المياه كي لا ينقذها والدها أو أحد من أفراد أسرتها.
الفتاة ذات الـ19 ربيعاً، وتسكن محافظة القطيف (شرق السعودية)، لم تجد من سبيل مع والدها لشرح وجهة نظرها تجاه الزوج المتقدم، فلم تملك فرصة الرفض لفكرة الزواج وهي تستعد للتقدم لكلية الطب إلا بتلك الجرعة الحارقة، لتنقل على أثرها للمستشفى وتمضي فيه بضعة أيام في سبيل إنقاذها وتنظيف معدتها.

وفي مكان آخر كان معلم في إحدى مدارس المنطقة الشرقية قد ألقى بنفسه منتحراً من أعلى جسر الملك فهد المؤدي للبحرين، وقيل انه أقدم على ذلك بسبب اصابته بالايدز اثر سياحة خارجية. وفي جدة لجأ مواطن أربعيني إلى الانتحار بعد أن تكالبت عليه الديون. هذه نماذج لحالات انتحار نجح أصحابها في تنفيذها وأنقذت العناية الإلهية البقية، وكلها تمثل ظاهرة جديدة في السعودية التي لم تكن في السابق تعرف مثل هذه الحالات إلا نادراً لدى بعض العمالة الوافدة من الجنسيات الآسيوية.
وحسب إحصائيات رسمية صادرة من جهاز الأمن العام تحصلت الصحيفة على نسخ منها، ففي عام 1997 لم تسجل السعودية سوى 276 حالة انتحار وفي عام 2000، 596 حالة، لكن في العام الذي تلاه 2001 انخفضت النسبة والرقم إلى 454 حالة.

وكانت المنطقة الشرقية في عام 2000 تعد أكثر المناطق في حالات الانتحار، بعد أن سجلت 239 حالة ومن بعدها منطقة الرياض 102 حالة، مكة المكرمة 77 حالة، القصيم 50 حالة، عسير 47 حالة، المدينة المنورة 16حالة، جازان 14، الجوف 13، تبوك 11 حالة، نجران 10، حائل 9، الحدود الشمالية 5 وأخيرا الباحة 3 حالات.
إلا أن العام الذي تلاه (2001) شهد تبدلاً في الأرقام والترتيب، بحيث أصبحت الرياض أكثر المناطق بـ108 حالات، ومن ثم الشرقية 94 حالة، مكة المكرمة 93، تبوك 23، عسير 22، حائل21، المدينة المنورة 20، القصيم 19، الجوف 16، نجران 14، جازان 9، الحدود الشمالية 8، الباحة 7 حالات.

وفي عام 2001 سجلت الشرقية أول حالة انتحار على النمط الإرهابي، حين أقدم طبيب الأسنان الفلسطيني أيمن أبوزناد، 33 عاما، على تفجير نفسه في السادس من شهر أكتوبر (تشرين الأول) في شارع الملك خالد في الخبر، فاعتبرت أول حالة انتحار إرهابية، لتأتي أحداث 12 مايو (أيار) حاملة معها انتحار 12 على أسوار مجمعات الرياض كثاني العمليات الانتحارية الإرهابية، ومن بعدها بشهرين كان لمنطقة الجوف أن سجلت انتحار 4 مطلوبين أمنياً بعد أن رفضوا الاستسلام لرجال الأمن، فكان لهم أن فجروا أجسادهم على سجادة وبجانب مصاحف المسلمين، في وسط مسجد. محمد خليص الغامدي الباحث الاجتماعي تحدث لـ«الشرق الأوسط» حول دخول ظاهرة الانتحار الى المجتمع السعودي معتبراً إياها، حسب الدراسات الاجتماعية المحدودة في السعودية، «ثقافة وافدة» جاءت مع العمالة الآسيوية التي تشكل ما يزيد عن 22 في المائة من سكان السعودية.

موضحاً بأنها هي «أول من عـُرف عنها اللجوء إلى الانتحار بحالات عديدة في السعودية»، ومن قبلها وتحديداً قبل أكثر من عقد لم تتجاوز حالات انتحار بين المواطنين 15 حالة جلها كان في مشاكل تتعلق بالمخدرات. إلا أنه يذهب أيضاً في قراءته لحالات الانتحار بين المواطنين بكونها، إضافة إلى أنها ثقافة وافدة مع العمالة الآسيوية، عبارة عن طرق اختارها أصحابها تأثراً بما يشاهدونه من مسلسلات أو أفلام سينمائية، وما تتناقله الأخبار عبر الوسائل الإعلامية من انتحار فتاة بعد خيانة زوجها، أو لرجل ضاقت به الأرض من الديون وقضاياه الشخصية الأخرى فلم يجد لها الحل إلا بالخلاص من الدنيا.

ويوضح في هذا الشأن بأن هذه الفئة المتأثرة بتلك الثقافة تكون في أغلبها من الفئات العمرية المتوسطة أي ما دون الثلاثين أو من منتصف الأربعين، فهي التي عاشت هذه الثقافة منذ نشأتها، فتشكلت قناعاتها بجدوى هذا الاختيار أمام أي مأزق. في الجانب النفسي يشير أولاً الدكتور محمد المناصرة استشاري الأمراض النفسية إلى أن المجتمع السعودي جزء من التركيبة العالمية، فلا يمكن أن تشهد جميع دول العالم حالات انتحار متزايدة وتبقى السعودية بلا حالات أو أن يتوقف معدل النمو فيها إلى حد معين.
إلا أن الدكتور المناصرة يعود ويقول «ومع ذلك، فلا ينبغي إهمال أي حالة سلبية تشهد نمواً سريعاً في معدلاتها حتى لا تصل إلى ما يعرف بالظاهرة، فحينها تستعصي الحلول بشكل أكبر».

ويرى الدكتور المناصرة أن عوامل اجتماعية، اقتصادية، ساعدت على خلق حالة نفسية لدى الشخص فبلغت فيه إلى مستوى التأزم النفسي ومن ثم التجرؤ لخطو خطوة خطيرة كهذه، في وقت أشار فيه إلى أن الدراسات العلمية المعتمدة عالمياً تؤكد على أن المرأة اكثر من الرجل في تعريض نفسها لمحاولات الانتحار، بينما الرجل هو الأكثر في التنفيذ، ولذا نجد فتيات في السعودية قد فشلن في محاولة الانتحار وتم السيطرة عليهن وعلاجهن.

وبالاطلاع على الإحصائيات الرسمية، فإن نسبة الإناث تفوق كثيراً الذكور من بين المواطنين، وجاءت محافظة القطيف بحالات متقدمة من بين الإناث المسجلات في حالات الانتحار، ومعظم الحالات لفتيات عشرينيات أو أقل من ذلك، وهنا يشير أحد العاملين في استقبال مستشفى القطيف العام (فضل عدم نشر اسمه) إلى أن المستشفى «يستقبل بين فترة وأخرى حالات لفتيات عشرينيات، وقد التهمن كمية كبيرة من الأدوية أو شربن بعض المواد الكيماوية المطهرة لدورات المياه، ولا يترددن في كشف إشكالهن مع ذويهن وإحباطهن أمام ضابط الشرطة الذي يحضر على الفور بعد وصول كل حالة».

وفي طرح سريع للمسببات التي دعت إلى تنامي هذا الرقم وطبيعة الحالات في السعودية يوضح الدكتور المناصرة بأن لها عدة نواحي فمنها في الدرجة الأولى الاكتئاب النفسي الذي ينتج عن وجود أمراض جسمية مزمنة يصعب علاجها كالإيدز، أو لضغوط الحياة من مشاكل أسرية إلى ديون مالية، بالإضافة إلى الفشل وعدم الوصول إلى الغاية والطموح ومثلها إقدام بعض الفتيات على الانتحار بعد الفشل في القبول في كليات هامة كالطب، ومنها حالات سجلت في المنطقة، والخيانة الزوجية، كما أن هناك حالات انتحار سجلت أسبابها بأن المرأة تعرضت للطلاق فأحبطت وانتحرت، وفي حالات نادرة جداً كانت هناك نتائج لمشكلة الإفلاس، وهذه تحدث عادة لدى رجال الأعمال، وفي الدرجة الثانية من مسببات الحالات يأتي الإفراط في شرب الكحول والمخدرات، فمعظم الحالات التي كانت تسجل قبل عقد من الزمن في السعودية كانت أسبابها الكحول والمخدرات، الا أن نسبتها انخفضت.

وقياساً على ما أشار إليه الدكتور المناصرة، فقد سجلت المنطقة الشرقية خلال الأعوام الأخيرة، انتحار شاب عشريني نتيجة لتعاطيه الحشيش، فأقدم على رمي نفسه من شرفة شقة كان يستخدمها لسهراته الخاصة، وفي حالة أخرى أقدم استشاري ويحمل أعلى درجة علمية وعملية في الطب على الانتحار نتيجة لكثرة تعاطيه الكحول، وفي حالة ثالثة أنقذت العناية الإلهية فتاة عشرينية من الانتحار بعد أن اكتشفت خيانة زوجها لها وهي في رابع شهر من زواجهما، وفي حالة رابعة أقدم مواطن أربعيني على الانتحار بعد أن تعذر عليه الحصول على مبلغ بسيط يوفر له كمية بسيطة من الهيروين المخدر، ولم يبادر إلى اللجوء إلى مستشفى الأمل لعلاجه ففضل الانتحار.

وتبقى مسألة هاجس الأسرة في التعرف على حالة أحد أبنائها إن كانت هناك لديه نوازع وتوجه نحو الانتحار، الذي يعتبر مرضا نفسيا، فيشير الدكتور المناصرة، أن التعرف على الحالات ومثل هذه الدوافع، يكون سهلاً متى ما كانت الأسرة قريبة من مشاعر ابنها، وتراقبه دون أن يشعر ويأتي ذلك في حالات كثيرة مثل أن يلحظ عليه العزلة مع البكاء، وكثرة الحديث عن الموت، والإفصاح عن كرهه للحياة، وفقدان الأمل والأرق والإقلال من المعاشرة الجنسية (بالنسبة للمتزوجين)، والشك في الذات، مؤكداً على أن توافر مثل هذه الأوضاع أو بعضها لدى الشخص، فهو يعطي مؤشرا بنسبة تتجاوز المتوسط في خطورة تفكيره بالانتحار والإقدام عليه.

وجاءت إشارة الدكتور المناصرة إلى واقع بعض الحالات المسجلة بين المواطنين في السعودية، إلا أن أحاديث متفرقة لمختصين في الاجتماع تجمع على أن مثل هذه الملامح التي تعلن عن مشروع الانتحار لدى الشخص، تجد إهمالاً واضحاً لدى معظم الأسر التي شهد أفرادها حالات انتحار، ولم تتبين لهم إلا بعد نقاش المختصين والتحقيق الذي تجريه مراكز الشرطة في كل حالة.
في جانب آخر يجمع الدكتور محمد المناصرة والباحث محمد الغامدي على أمر الوازع الديني، ومدى علاقة ضعفه في حدوث مثل هذه الحالات، فيشير الغامدي إلى أن حالات عدة تمت دراستها واتضح منها ضعف الوازع الديني لدى أصحابها، مما عزز فرص لجوئهم إلى ذلك الخيار، مؤكداً بأن «عامل الوازع الديني متى ما توافر بشكل قوي وكان صاحب المشكلة متمسكا بدينه فلن يختار الانتحار كحلاً لمشكلته».

في حين تمثل منطقة القصيم حالة غريبة في تقدمها على مناطق أخرى في عدد الحالات المسجلة، على الرغم من أنها تعتبر أكثر المناطق محافظة، إلا أن الرقم انخفض من 50 حالة في عام 2000 إلى 19 حالة في عام 2001 لترتفع في العام الماضي إلى 23 حالة، ومع ذلك كانت الحالات فيها مرتفعة قياساً مع المناطق الأخرى، وهنا يعود الباحث الغامدي ليشير إلى أنه قد تكون هناك «أسباب أخرى في هذه المنطقة». ومع أن الباحث محمد الغامدي يرى أن المنتحرين من السعوديين قد لجأوا إلى هذا الاختيار تأثراً بتلك الثقافة من وافدين ووسائل إعلام، وحدد المتأثرين بالفئة العمرية المتوسطة، إلا أنه لم يجد تفسيرات محددة للجوء من هم فوق الستين سنة للانتحار، وهم من الفئة العمرية التي يفترض بها تجاوز مثل تلك المشكلات، فلم يتبق من العمر متسع.