الأزمة الأمنية تلقي ظلالها على صحة الجزائريين

المراكز المتخصصة بالقلب تعاني من قلة الامكانات

تحقيق: سليمة لبال


رغم استتباب الأمن وعودة السلم ثانية إلى الجزائر بعد عشرية سوداء اندثرت فيها كل معالم الحياة واصبح أثناءها العديد من المحافظات جحيما ومناطق محررة للإرهابيين، فان العديد من الجزائريين لا يزالون يعانون من فرط ما خلفه الإرهاب الأعمى و يعايشون بألم كبير أمراضا تفشت بسبب صور الموت التي تكررت فجثمت على قلوب الكثيرين، مما أثر سلبا على النفسيات ورفع بشكل رهيب نسب المصابين بأمراض القلب وارتفاع الضغط الشرياني في أوساط الفئات التي كانت
هدفا للاعتداءات الإرهابية خصوصا في المناطق النائية في كل من ولايات البليدة والشلف وعين الدفلى والمدية إلى جانب العاصمة التي تسجل لوحدها أكبر نسب الإصابات متجاوزة الأربعين في بالمائة.
ليست وحدها الأزمة الأمنية، التي عصفت بالجزائر، هي من ساعد على انتشار هذه الأمراض المزمنة ولكن حالات القلق الناتجة عن تدني مستوى الأجور وارتفاع أسعار المواد الاستهلاكية وأزمة السكن الخانقة، كلها تدفع، في عيون الذين حدثونا، إلى الموت بسكتة قلبية أو اتخاذ قرار الانتحار ملاذا أخيرا. وفي لحظة ضعف ويأس يكون السعي إلى الموت أسهل الطرق للتخلص من الألم الإنساني الذي يحاصر شبابا كثيرين لا يستطيعون حتى إكمال نصف دينهم وسط هذه الظروف العصيبة.



الخوف و القلق والإحساس بالفشل أسباب رئيسية
اسمها عائشة التقيتها في عيادة مرضى القلب الأطفال في منطقة بوسماعيل غرب العاصمة الجزائر، كانت ترافق ابنتها البالغة من العمر 12 سنة لزيارة الأستاذ المختص بعد أن أصيبت بإعياء في أحد صمامات القلب نتيجة حالة الخوف التي انتابتها عندما هاجمت مجموعة إرهابية الحي الذي تسكنه قبل سبع سنوات من الآن.عائشة أكدت أن أولادها الثلاثة مصابون بداء القلب بعد أن أجبرت عائلتها على تغيير سكنها والابتعاد عن الأجواء المتوترة أمنيا وهو ما يرهق كاهلها ويجعلها تعيش حالة من الإحباط واليأس هي الأخرى بسبب ارتفاع تكاليف الاستطباب من جهة وعدم قدرتها على رؤية فلذات أبنائها وهم يعانون بسبب الأزمة التي تعيشها البلاد.
وغير بعيد عن بوسماعيل، في بلدية حمر العين، وهي منطقة عرفت الكثير من العمليات الإرهابية، قال عمي أحمد لما سألته عن صحته 'لم أعد أقدر حتى على التحكم في رجلي، أصبت بارتفاع الضغط الشرياني منذ أن اغتيل جاري، لقد سمعت صيحاته وهو يقتل ذبحا ومنذ ذلك الحين تجدينني مسمرا إذا ما بلغني أي خبر كان سارا أم غير ذلك '.
لم يكن في الثمانينات من القرن الماضي أمرا عاديا أن تسجل المؤسسات الاستشفائية الجزائرية وفاة بسبب سكتة قلبية، لكن الأمر أصبح عاديا وبالنسبة لكل الفئات العمرية التي ما عادت قلوب أفرادها تتحمل فتسرع إلى إسلام الروح مباشرة بعد تلقي أي خبر، وفي رواية سعيدة وهي شابة في العشرين كثير من المرارة والأسى تقول :'كان خبر اختطاف أخي الشرطي بولاية المدية جنوب العاصمة، بمثابة آخر يوم جميل في حياة عائلتنا، بعدها مباشرة وفي يوم ممطر توفي أخي الثاني الذي يعيلنا منذ وفاة والدنا بعد أن جرفت مياه الوادي سيارته، ومن شدة حزن أمي لما سمعت الخبر توقف قلبها نهائيا عن النبض وماتت لنعيش بعدها أسوأ أيامنا '.
قصة مثل هذه تكررت مئات المرات وخلفت مئات من الذين يعانون من مشاكل على مستوى القلب والشرايين وإن نجا البعض منهم بسبب التدخل الطبي، فإن أعدادا معتبرة ماتت قبل أن تلحقها العناية الطبية مثلما هي حال سعيد ذي الأربعين، الذي توفي بسكتة قلبية بعد أن تلقى نبأ اقتحام إرهابيين لمنزل أسرته ومن دون أن يتأكد من وقوع أي شيء مريب أو أن ينتقل إلى المكان عينه، سكت قلبه ليرحل وسط أجواء رهيبة جدا، لا يزال أفراد قريته يتذكرون تفاصيلها وإن نجا من سكين الإرهاب فإن الموت لحق به حيث كان.
رشيد شاب في الخامسة والثلاثين مهندس في البيولوجيا ويشتغل بمستشفى جامعي في العاصمة، ولكن بصيغة عمل جديدة طبقتها وزارة التشغيل والتضامن الوطني لصالح خريجي الجامعات ولكن مقابلها لا يكفي لسد كل المصاريف والاحتياجات، حيث لا يتعدى المدخول 100 دولار شهريا، بينما يشتغل الوقت كله ويبذل مجهودا إضافيا خصوصا أنه كان من أوائل دفعة تحاليل مخبرية.
رشيد، وبصوت خافت، قال لي أجدني في سن متقدمة دون منصب عمل ودون مسكن ودون زوجة وأولاد وهذا ما ينغص حياتي ويجعلني عرضة لأحاديث القاصي والداني خصوصا أني واظبت على الدراسة وأكملت بتفوق دراساتي الجامعية، أنا أعاني من قلق رهيب حتى أن الطبيب نصحني بالابتعاد عن الجو المشحون والمكهرب في العاصمة، بعد أن تبين بأني مصاب بارتفاع ضغط الدم وهو أمر لم ألحظه إلا بعد التحاقي بالعمل والذي تحصلت عليه بعد انتظار دام قرابة العامين قضيتهما في التحسر على ما ضاع مني بعد أن فشلت في إحراز تأشيرة للرحيل إلى أوروبا ومواصلة دراساتي العليا.



تداعيات مرحلة الارهاب والاضطرابات
يقول الدكتور بن ناجي وهو أحد المختصين بأمراض القلب ان أمراض القلب متنوعة بين الوراثية والمكتسبة، فالوراثية يولد بها الطفل كأن تكون الأم مصابة بداء الحميراء نتيجة انعدام الوقاية خلال فترة الحمل، وهو ما ينعكس على صحة الجنين الذي يولد بعاهة ممثلة بإصابة في القلب، كما أن داء التهاب اللوزتين وإن لم يعالج أوعولج بطريقة غير سليمة يؤدي إلى الإصابة بروماتيزم المفاصل الذي يتسبب في ضيق شرايين القلب. هذا عن التصنيف، أما عن أسباب الإصابات، فنجدها ممثلة في عوامل متعددة يتصدرها التدخين والقلق والضغط الشرياني والسمنة وارتفاع نسبة الكولسترول في الدم وعدم ممارسة الرياضة.
كانت الجمعية الوطنية لداء ارتفاع الضغط الشرياني قد قامت قبل فترة قصيرة بدراسة مسح لهذا الداء شملت مختلف ولايات الجزائر البالغ عددها 48 ولاية، وقد بينت النتائج أن 35 بالمائة من الجزائريين يعانون من ارتفاع الضغط الشرياني، وبما أن ارتفاع الضغط الشرياني من الأسباب الأساسية لإصابات القلب، فإن 35 في المائة من الجزائريين معرضون لأمراض القلب. مع الإشارة الى أن الجزائر العاصمة استحوذت في الدراسة ذاتها على أكبر نسب الإصابات، بلغت نسبة 40 في المائة، وذلك راجع طبعا إلى عوامل انفردت بها الجزائر العاصمة دون سواها من الولايات، منها معايشة سكانها لفترة الإرهاب التي كان لها أثر سلبي في حياتهم اليومية مع القلق الذي يميز الحياة اليومية للعاصمي مثله مثل سكان المدن الكبرى ودون غيره من سكان المناطق الصغيرة، إضافة إلى ذلك عدم اعتماد العاصمي على المشي مقارنة بسكان ولايات أخرى من داخل الوطن. 30 في المائة من اسباب الوفيات
وحسب الدكتور ذاته فليس غريبا على الجزائر أن تشهد زيادة ملحوظة في عدد المصابين بداء القلب في أوساط الشباب، حيث سجل انتشار الداء بين من تراوحت أعمارهم بين 25 و30 سنة وهو الأمر الذي يحتاج بنظره إلى حملة تحسيسية لتوعية الجزائريين بضرورة الوقاية من أمراض القلب باعتماد وسائل الإعلام الثقيلة مثل التلفزيون، و ذلك ببث نشرات إشهارية مع برمجة ندوات داخل المدارس ومختلف المؤسسات الوطنية يتدخل فيها مختصون في المجال يعرفون بخطورة الداء وأسبابه، خصوصا أن الجزائر تفتقر لمراكز متخصصة في التكفل بمرضى داء القلب، ففي الوقت الذي تحصي فيه دول مجاورة عددا كبيرا من هذا النوع من المراكز مثل تونس التي تحوي 25 مركزا، يبقى عددها في الجزائر 12 مركزا، تجمع بين المراكز العمومية التي تمثلها ستة مراكز، واحد منها معطل، وهي المركز الوطني لأمراض القلب بشوفالي الجزائر العاصمة، مركز مستشفى مصطفى باشا، مركز مستشفى بارني، مركز عين النعجة العسكري، مركز قسنطينة ومركز وهران المعطل عن الخدمة حاليا، إضافة إلى المراكز الستة التابعة للقطاع الخاص، مع الإشارة الى أنه إضافة إلى قلتها تشكو المراكز المتوفرة من قلة الإمكانات والعتاد اللازمين للتكفل بمرضى داء القلب.
من جهته يقول البروفيسور تهمي، اختصاصي في أمراض القلب ورئيس مصلحة أمراض القلب في مستشفى تيزي وزو، إن أمراض القلب تشكل نسبة 30 في المائة من الوفيات في الجزائر.
سنويا، وأن السكتة القلبية وحدها تمثل نسبة 5.12 بالمائة من وفيات الجزائريين سنويا، والتي تبلغ حوالي 200 ألف وفاة، مضيفا بان هذه الأمراض تفشت منذ سنوات وسط الجزائريين بشكل مثير، خاصة السكتة القلبية التي سجلت تزايدا وسط الشباب، وهي الحالة الصحية التي لم تكن منتشرة بكثرة في السنوات الماضية. وأشار البروفيسور تهمي إلى أن السكتة القلبية والموت المفاجئ لا يمكن أن تكون اعتباطية، وأنها تحصل دوما بسبب عارض صحي لم يتم تشخيصه من قبل، وأنه عادة ما يكون السبب ناتجا عن القلب وبنسبة أكثر من 90 بالمائة، كما أضاف أن الموت المفاجئ يأتي عادة بعد ساعة من ظهور الأعراض الأولى وقد يمتد ظهور أعراضه إلى 24 ساعة حسب معطيات المنظمة العالمية للصحة ليضيف 'يكفي أن 5,12 بالمائة من وفيات الجزائريين ناتجة عن السكتة القلبية'. وللتأكيد على 'حداثة' هذه الحالة الصحية تحدث الدكتور عن تجربته كاختصاصي في أمراض القلب بمستشفى مصطفى باشا الجامعي خلال فترة الثمانينات حيث قال: 'كان من النادر جدا تسجيل حالة وفاة بسبب السكتة القلبية، وأن الطاقم الطبي آنذاك كان يهرع إذا ما حدث ذلك لتقصي المعلومات عن حالة وفاة بسبب سكتة قلبية'، ليضيف قائلا: 'لقد أضحت هذه الظاهرة المرضية عادية جدا في السنوات الأخيرة وقد تحدث في العديد من المستشفيات والمراكز الصحية المنتشرة عبر كامل التراب الوطني'.
أما عن أسباب الإصابة بمختلف أمراض القلب، فأشار البروفيسور إلى أن السبب الذي يحتل الصدارة هو عامل التدخين مثلما أشرنا من قبل، يأتي بعده ارتفاع ضغط الدم وارتفاع نسبة السكر في الدم، إلى جانب تواجد نسبة معينة من الكوليسترول في الدم يضاف إليه عاملا القلق والسمنة. كل هذه العوامل من شأنها أن تتسبب في الإصابة بمرض القلب مع الإشارة الى أنه يكفي توفر عاملين فقط لتكون الإصابة حسب ذات المختص الذي أكد أن هناك عاملا آخر لا يقل أهمية عن البقية وتمثله قلة النشاط اليومي للشخص أو انعدامه، فالجزائري حسبه 'لا يمشي' ولا يمارس عادة نشاطا رياضيا وعليه تتأكد أهمية الحركة والنشاط الرياضي لتفادي أمراض القلب، كما لم يفوت البروفسور هذه الفرصة للإشارة إلى ما يحدثه القلق في نفسية الشخص، سواء في المدرسة أو البيت والعمل، إذ بإمكان هذه الظاهرة النفسية أن تعقد من عمل القلب وتجعله عرضة للسكتة القلبية في أي لحظة.



ارقام مذهلة
كانت منظمة الصحة العالمية قد صنفت عشرة أمراض ستشكل أسباب الوفيات في العالم خلال الفترة الممتدة إلى غاية 2020 من بينها أمراض القلب وذلك في آخر توصية من بين التوصيات التي أصدرتها مؤخرا بشأن الوضع الصحي الذي سيعرفه العالم خلال السنوات المقبلة، وهو ما يجعل من مواجهة هذه الأمراض أكثر من ضرورة تفاديا لمثل هذه النتائج التي دقت لأجلها الدوائر الصحية الجزائرية ناقوس الخطر،وإن كان الأمر صعبا ويتطلب الكثير من الإجراءات.
واخر وثيقة صدرت عن وزارة الصحة الجزائرية نهاية أبريل الماضي حول واقع سوق الدواء في الجزائر تشير إلى أن أمراض القلب تشكل القسم العلاجي الأكثر انتشارا بعد الإصابة بالإنتانات وهو ما تطلب خلال السنة المنصرمة ما قيمته 163.78 مليون يورو أدوية،تنتج الجزائر محليا ما قيمته 48.32 مليون يورو فقط وتضطر إلى استيراد 115.46 مليون يورو من مختلف المواد الصيدلانية المتضمنة للأدوية وملحقات العلاج من الأمصال وغيرها، حيث تحتل المخابر الفرنسية وعلى رأسها مخبر أفنتيس الصدارة في قائمة المخابر التي تزود الجزائر بالأدوية.

55 عاما لدى الرجل و65 عاما لدى المرأة
وعن سن التعرض للإصابة بأمراض القلب، أوضح البروفيسور تهمي إنها عادة ما تصيب الأشخاص الذين تجاوزوا سن ال 35 سنة، مضيفا أن إمكانية الإصابة تكثر بداية من سن ال 55 سنة عند الرجل و65 سنة عند المرأة، لكن هذا لا يعني أن الإصابات تقتصر على هذه الفئة العمرية، بل هناك جزائريون تعرضوا لمثل هذه الإصابات في سن العشرين بسبب التدخين والقلق وهما من العوامل المساعدة على حدوث الظاهرة.
البرفيسور تهمي تحدث أيضا عن الجنس المعرض أكثر للإصابة، حيث قال إن أمراض القلب عامة والسكتة القلبية خاصة تصيب الرجال أكثر من النساء بسبب عوامل مختلفة يأتي في مقدمتها التدخين، لكن السنوات الماضية أثبتت العكس، إذ أضحت نسبة الإصابات عند النساء مثلها عند الرجال.