المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الرقابة الذاتية" خلقت مجتمعا متجانسا في أمريكا وأغنت عن الرقابة



لمياء
03-03-2006, 08:36 AM
الجدل حول الرسوم الكاريكاتيرية المسيئة للنبي صلى الله عليه وسلم ما زال مستمرا..


· كيف يطالب الغرب المسلمين باحترام حساسية اليهود تجاه الهولوكوست ثم يسيئ الى رموزهم الدينية؟!

· السلم الأهلي لم يستتب في الولايات المتحدة إلا بعد توقف حملات الازدراء للسود في الإعلام

· أزمة الرسوم الدانماركية عززت الشعور لدى المسلمين بأن الغرب لا يعاملهم باحترام

· العنف لم يكن احتجاجا على الرسوم الكاريكاتيرية فحسب بل تعبير عن مظالم أخرى كما في فلسطين وإيران وباكستان

· الصحيفة المتهمة ذاتها رفضت قبل فترة قصيرة نشر رسم كاريكاتيري مسيئ للسيد المسيح عليه السلام

· الصحف تمارس الرقابة حرصا على الإعلان والاشتراكات ولكنها لا تفعل ذلك حرصا على حياة البشر!



بقلم: روبرت رايت*

قليلا ما يتفق اليسار واليمين في الولايات المتحدة على شيء، لكن أسابيع من مظاهرات الاحتجاج وعمليات إحراق سفارات غربية، دفعتهما الى الاتفاق حول نقطة واحدة هي أن هناك فجوة كبيرة جدا - إن لم يكن صدام حضارات - بين "العالم الغربي" و"العالم الإسلامي"·

وحين نتجاوز هذا الإجماع بينهما حول وجود فجوة ثقافية، فإننا عندما نطرح السؤال: ما العمل للتعاطي مع هذه المشكلة، لا نجد كثيرا من الاتفاق· ففي النهاية أليس من السهل ردم هذه الفجوة·

ولحسن الحظ أن هناك مبالغة في حجم الهوة الثقافية، فالغضب الإسلامي حول الرسوم الكاريكاتورية التي نشرتها إحدى الصحف الدنماركية (ثم صحف أوروبية وغير أوروبية أخرى)، ليس غريبا على الثقافة الأمريكية، كما يحلو لنا أن نعتقد·

فالكثير من الأمريكيين حتى من الذين ينددون بنشر الرسوم الكاريكاتورية المذكورة يقبلون بالقاعدة التي استند إليها رئيس تحرير الصحيفة الدنماركية بأننا نحن في الغرب لا نسمح عموما لمجموعات الضغط بأن تخيفنا من أجل دفعنا نحو ممارسة الرقابة الذاتية·

يا له من هراء فرؤساء تحرير كبريات وسائل الإعلام الأمريكية يحذفون الكثير من الكلمات والعبارات لتفادي الإساءة لمجموعات الضغط ولاسيما الدينية والأثنية منها، ومن الصعب الإتيان بأمثلة على ذلك، لأن هذه الأشياء لا تبدو للعامة، ولكن عليك إطلاق العنان لمخيلتك·



فجوة حضارية



لقد نشر أحد المواقع الأمريكية على شبكة الإنترنت رسما كاريكاتيريا مشابها عن السيد المسيح يصور تاجه وكأنه يتألف من أصابع ديناميت في أعقاب تفجير استهدف عيادة تجري عمليات الإجهاض وهو الأمر الذي يعارضه المحافظون من الكنيسة الإينانجليكانية، وقد اعتبر هذا الرسم الكاريكاتوري مسيئا للكثير من المسيحيين الأمريكيين، ولهذا السبب لم تنشر أي من الصحف الأمريكية الرئيسية هذا الكاريكاتور أو ما يشابهه·

وكذلك لم يحدث ذلك في أي من الصحف الرئيسية في الدنمارك، على ما يبدو، وتبين في ما بعد أن الصحيفة التي نشرت الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للنبي صلى الله عليه وسلم سبق لها أن رفضت رسوما كاريكاتورية عن السيد المسيح عليه السلام وشرح رئيس تحرير الصحيفة لرسام الكاريكاتور الذي رسمها بأنها سوف تثير ضجة·

وقد يرد المدافعون عن نظرية "الفجوة الحضارية" بأن رؤساء تحرير الصحف الأوروبيين يمارسون الرقابة الذاتية تفاديا لاحتمال إلغاء بعض القراء اشتراكاتهم أو مرابطة بعض المحتجين على أبواب الصحيفة أو المقاطعة الإعلانية للصحيفة، ولكن ليس حرصا على حياة البشر، وفي الواقع فإن ما فرض هذا الإجماع على وجود الفجوة الثقافية، وأقنع الكثير من الأمريكيين بأن "العالم الإسلامي" ربما يمثل كوكبا آخر، هو صور العنف الرهيب الذي استهدف بعض السفارات الغربية من أجل مجموعة صور كاريكاتورية غير لائقة·

ولكن كلما تعمقنا في البحث عما يجري، يبدو لنا أن أحداث العنف هذه ليست عفوية، فردود فعل المسلمين الأولية لم تكن عنيفة، بل مظاهرات صغيرة في الدنمارك مع حملة قام بها مسلمو الدنمارك على مدى أشهر عدة دون أن تظهر للفضاء العالمي·

ولم يحدث ذلك، إلا بعد أن قوبل هؤلاء النشطاء بالازدراء من السياسيين الدنماركيين وبعد أن لقوا الدعم من سياسيين أقوياء في العالم الإسلامي، فأصبحت المظاهرات تخرج بأعداد هائلة، وتحولت بعض المظاهرات الى أعمال عنف، ولكن يبدو أن معظم العنف كان من تخطيط حكومات ومجموعات إرهابية وبعض السياسيين الذين يشككون دائما في نوايا البشر·

وفضلا عن ذلك، فمن قال إنه ليس هناك تقليد أمريكي باستخدام العنف من أجل قضية ما؟ تذكروا أحداث الشغب الحضرية في الستينات والتي ابتدأت بأحداث واتس عام 1965 والتي قتل فيها 34 شخصا·

وفي خضم تلك الأحداث، وسع السود هامش تحركهم، وكانت "الجمعية القومية لتقدم الملونين" تحتج على إذاعة برنامج Amos.N. Andy المسيئ للسود منذ الخمسينات، ولم يحدث سوى عام 1966 أن توقفت شبكة CBS عن عرض البرنامج·

وربما لا يكون هناك تشابه بين الحالتين، لكن ما من شك في أن أحداث الشغب في الستينات رفعت درجة الحساسية تجاه الشكاوى من الصورة السلبية التي كان يعرضها الإعلام عن السود، وهذا يعني - بكلمات أخرى - زيادة الرقابة الذاتية لدى وسائل الإعلام تلك·

وفي خضم مظاهرات الاحتجاج في العالم الإسلامي على الرسوم الكاريكاتورية، حذرت بعض المواقع المحافظة على شبكة الإنترنت من أن الاستجابة للاحتجاجات العنيفة هو شكل من أشكال "الاسترضاء"، الذي لن يؤدي إلا الى المزيد من العنف ويضعف القيم الغربية، ولكن "الاسترضاء" لم يؤد الى هذه النتيجة في الستينات·

فقد أوصت لجنة كيرنر التي شكلها الرئيس ليندون جونسون عام 1967 لدراسة أحداث الشغب، بزيادة الاهتمام بمشكلات الفقر وفرص العمل والإسكان، أو بالأحرى، التمييز في تخصيص المساكن، وعدم التكافؤ في التعليم، وهو الاهتمام الذي نجح بالفعل في إنهاء عقود من أعمال الشغب العرقية·



الوقود الحقيقي



فقد اعترفت اللجنة بالفارق بين ما يثير الغضب مثل كيفية تعامل رجال الشرطة مع السود في واتس، وما يغذيه، مثل التمييز والفقر·· إلخ·

ولكن مثل هذا الاعتراف كان مختلفا في حالة الغضب بسبب الرسوم الكاريكاتورية الأخيرة، في وقت أخذ الأمريكيون يتساءلون فيه كيف لرسم كاريكاتوري أن يلهب مشاعر الملايين·

الجواب هو أن الأمر يعتمد على السؤال: عن أي ملايين تتحدث؟

ففي غزة، كان الوقود الحقيقي الذي غذى الاحتجاجات هو التوتر مع الإسرائيليين، وفي إيران المشاعر المناهضة للأمريكيين التي يؤججها الملالي، وفي باكستان، المعارضة لنظام برويز مشرف الموالي للغرب··· وهكذا·

هذا التنوع في دوافع الغضب والمظالم الكامنة تحت السطح هو ما يعقد التحدي، فمن الواضح أن الامتناع عن المس بالحساسيات الدينية لن يكون كافيا·

ومع ذلك، فإن الإساءة التي عبرت عنها تلك الرسوم الكاريكاتورية تمثل رمزا واضحا للتحدي الكلي، لأن الكثير من المظالم تتضافر لتشكل إحساسا لدى المسلمين بأنهم لا يلقون الاحترام من الغرب الغني والقوي (تماما كما شعر المحتجون من السود الأمريكيين لشعورهم بأنهم لا يعاملون باحترام من البيض الأقوياء والأثرياء)· إن الرسم الكاريكاتوري الذي يزدري الإسلام من خلال السخرية من النبي محمد صلى الله عليه وسلم يمثل شرارة ووقودا سريع الاشتعال في آن·

ولا يعني ذلك القول إنه لا فروق كبيرة بين الثقافة الأمريكية والثقافة في الكثير من أجزاء العالم الإسلامي، وهنا مربط الفرس، فبعض الاختلافات كبيرة ومحاولة تقليصها هي عملية مضنية، لدرجة لا يمكن التعامل معها، دون وضوح كامل·

ومن الفروق غير الكبيرة بيننا، مطالبة المسلمين لكبريات وسائل الإعلام بممارسة الرقابة الذاتية، ومثل هذه الرقابة ليست تقليدا أمريكيا فحسب، بل إنها ساعدت في جعل أمريكا واحدا من أكثر المجتمعات المتعددة الأثنيات والأديان، تجانسا على مر العصور·

إذاً، لماذا لا نأخذ النموذج الذي نجح في أمريكا، وتطبيقه عالميا؟ فمن الناحية الاسمية، نعم، أنت حر، وفق القانون، أن تنشر كل شيء، ولكن إذا نشرت أشياء تسيئ الى مجموعات أثنية أو دينية، فسوف تقابل بالازدراء من الناس المستنيرين في كل مكان، فالحرية لا بد أن تقترن بالمسؤولية·

بالطبع، إنه طريق ذو اتجاهين، ففي حين يحاول الغربيون احترام حساسيات المسلمين، فإن المسلمين أيضا، بحاجة الى احترام حساسيات الآخرين، كاليهود، على سبيل المثال·

ولكن سيكون من الصعب على الغربيين مطالبة المسلمين بمبدأ ينتهكونه بشكل سافر هم أنفسهم، فهذه الصحيفة الدنماركية ورئيس تحريرها مع أنصارهما أو المدافعين عنهما في الولايات المتحدة يعقدون الكفاح ضد معاداة السامية·

يقول بعض الغربيين إنه لا تماثل بين الحالتين هنا، أي أن الرسوم الكاريكاتورية حول الهولوكوست أكثر إساءة من الرسوم حول النبي محمد صلى الله عليه وسلم وفي الواقع، فبالنسبة لنا معشر العلمانيين، فإن السخرية من المجازر بحق ملايين البشر أسوأ منها بحق الرموز الدينية·



شياطين بعيون زرقاء



ولكن أحد مفاتيح الصيغة الأمريكية للتعايش السلمي هو تفادي الدخول في مثل هذه الجدلية أصلا، وترك الأمر لكل مجموعة (عرقية أو دينية) أن تقرر الأشياء التي أكثر ما تشكل إساءة لها، طالما أن ذلك لا يلزم الآخرين بتبعات كثيرة وشاقة· ونطلب من المجموعة التي تتعرض لإساءة أن تحترم حساسيات المجموعات الأخرى·

ومن الواضح أن معاداة السامية والرسوم الكاريكاتورية الأخرى التي تدعو الى الكراهية لن تنتهي بين عشية وضحاها· (ففي عصر الإنترنت، لا يمكن القضاء على أي شكل من أشكال نشر الكراهية، والحديث هنا يقتصر على وسائل الإعلام الرئيسية التي منحتها الدول والشعوب، شكلا من أشكال الشرعية)·

ولكن التجربة الأمريكية تشير الى أن الالتزام بضبط النفس يمكن أن يجلب التقدم، ففي الستينات، كانت منظمة "أمة الإسلام" تكتسب زخما في وقت وصف زعيمها اليجا محمد البيض بـ "الشياطين ذوي العيون الزرقاء" الذين سيهلكون قريبا وفقا لإرادة الله·

ومنذ ذلك الحين، واصلت منظمة "أمة الإسلام" تراجعها وأسقطت هذه المقولات من خطابها، وساد أمريكا السلام، والشيء الوحيد الذي أبقى على هذا السلم هو الممارسة الصارمة للرقابة الذاتية·

ولم تكن وسائل الإعلام وحدها من مارس هذه الرقابة، بل إن معظم الأمريكيين يتناولون المسائل العرقية والدينية بحساسية شديدة، بل أصبح الأمريكيون يمارسون ذلك بشكل عفوي وبلا وعي·

وقد يصف البعض ذلك بأنه عدم صدق، وقد يكون كذلك، لكنه ينطوي أيضا على مصداقية أخلاقية، فما لم تضع نفسك في موقع الشعوب الأخرى، لا يمكنك أن تفهم إحباطاتهم وشعورهم بالاستياء، ولا تعرف ماذا يسيئ أو لا يسيئ إليك لو كنت واحدا منهم·

وربما كان الاضطراب الذي وقع فيه رئيس تحرير الصحيفة الدنماركية عائدا الى خلطه بين الرقابة والرقابة الذاتية، فهما ليسا شيئان مختلفان فحسب، بل إن الثاني هو ما يجعلنا نعيش في تعددية مجتمعية منتعشة دون الحاجة للأول، أي أننا نبعد الرقابة عن عالمها القانوني ونمارسها في عالم أخلاقي·

وأحيانا يبدو هذا الأمر غير مريح، ولكن أشياء أكثر سوء بكثير يمكن أن تحدث بدونه·



* مؤلف كتاب "الحيوان المعنوي" The Maral Animal ويعمل الآن كبيرا للباحثين في مؤسسة أمريكا الجديدة New America Foundation