فاتن
03-02-2006, 08:06 AM
رشيد الخيون
الشرق الاوسط اللندنية
استيقظت حاضنة التاريخ سامراء (فجر الأربعاء 22 شباط الجاري) على دوي انفجار هائل، أحالَ القبة المتلألئة إلى كهف دامس. كانت الكراهية زائدة أن لا تُترك ذات الألف عام، وما يحيطها من قدسية لدى الملايين وما أظلت من أثر نفيس، إلا حطاماً. يعرف ما لقبة سامراء وملويتها، التي قطع رأسها تفجير سابق (أبريل 2005)، من شهادة على تاريخ تعايش المدينة وتسامحها، فهي منذ ارتفاع ملويتها والأديرة المسيحية حولها، وأن والدة المهدي، الغائب من سردابها، هي السيدة نرجس المسيحية. وكانت الدار، التي عاش فيها الإمام الهادي وشُيد عليها المرقد، لدُليل بن يعقوب النصراني (تاريخ بغداد)، كاتب القائد بغا الشرابي، والمشرف على إعمار أبنية سامراء زمن المتوكل (ت247هـ). ولم يهجرها يهودها إلا بضغط من خارجها، وظلت محتفظة لهم بحارة «سوق اليهود». بعدا هذا مَنْ أراد تحويل سامراء إلى إمارة معتمة لمحو ذاكرتها، وتغيير طباع أهليها!
ونقرأ في سيرة قبة مرقد الإمامين علي الهادي (ت254هـ)، وولده الحسن العسكري (ت260هـ): شيدها حاكم الموصل ابن أبي الهيجاء الحمداني (944 ميلادية)، ومرت بأدوار توسعة عديدة منذ العهد البويهي، مروراً بما أضافه الخلفاء العباسيون المتأخرون: الناصر، والمستنصر. وخصها آخرهم المستعصم بطيور الحمام العسكريات (نسبة لاسمها)، التي طارت إليها من دار الخلافة ببغداد. واستقرار طرازها المعماري (1785) على يد سلطان منطقة خوي الأذربيجانية. وكسوتها بالذهب من قبل ناصر الدين شاه القاجاري (عام 1868). تعرض مرقدها إلى حريق بسبب استعمال الشموع (سنة 1242) ميلادية، ومثله في سنة 1694، وإلى سرقة كبرى 1937.
ظلت سامراء عاصمةً للشرق (221 ـ 276هـ)، حتى أعاد المعتمد بالله بلاط أجداده إلى بغداد. ولم يجد فيها ابن بطوطة، وهو في الطريق إلى الموصل (728هـ)، سوى خرائب. ثم دبت الحياة فيها بفضل دجلة والمرقد والاهتمام الآثاري بتركتها العباسية، حتى غدت قبلة للزائرين. جعلها مدحت باشا قضاءً (وحدة إدارية) ملحقاً ببغداد، تتبعها تكريت إدارياً. ولما ارتبطت الأخيرة بالعاصمة مباشرة، قال التكارتة: «تكريت صارت قضاء على عناد (رغماً) سامراء». ومن 8 شباط 1976 أصبحت تكريت المحافظة تتبعها سامراء، وسبحان مغير الأحوال.
ظهر الوجود الشيعي بسامراء بعد انتقال مرجعية الميرزا محمد حسن الشيرازي، وإقامته بجوار مرقدها (1875 ـ 1895)، وتأسيس المدرسة «الجعفرية» فيها. وأثناء تلك الفترة سُيرت في شوارعها المواكب بمناسبة عاشوراء من قبل زائرين وطلبة المدرسة. وخشية على هويتها المذهبية سعى الشيخ سعيد النقشبندي (ت 1920) إلى السلطان عبد الحميد الثاني، فأمر الأخير بتأسيس مدرسة سُنّية (تاريخ علماء بغداد)، موازية. لكن بعد وفاة الشيرازي انحسر عنها وجود العلماء والطلبة الشيعة. بعدها حاول المرجع أبو الحسن الأصفهاني (ت 1946)، المقيم بالنجف، شراء الأراضي المحيطة بها، ونقل الفلاحين إليها من المناطق الشيعية، مع السماح لأصحابها السامرائيين بفلاحتها إذا أرادوا. ومراعاة للأمر الواقع لم يمض الأصفهاني في مشروعه (شعراء الغري). فسامراء وسدانة مرقدها سُنيَّة منذ مئات السنين.
وجدت التكايا الصوفية حول قبتها، حتى ورد في المديح الصوفي لصاحب المرقد: «هلَ بتاج المشايخ يا علي الهادي.. أبو جعفر علي يا قطب سامراء». إلا أن جعفراً هذا يكذبه الشيعة، بدعوى أنه ادعى الإمامة وهي لأخيه العسكري، ونعتوه بالكذاب (كتاب الغيبة). وأكد المجلسي: «كنيته أبو الحسن لاغيرها» (بحار الأنوار). ولم يمنع هذا التكذيب وجيه سامرائي شافعي، ينتسب إلى آل البيت، من تسمية المهدي المنتظر بالمرتجى: «وإلى الإمام العسكري ونجله.. المرتجى ذاك الإمام المنصف» (عرب، السراء في أحوال سامراء).
لقد أحزن الحادث الجميع: خرجت المواكب السُنِّية تهتف وترفع الأيادي، وتضرب على الرق الصوفي. بينما جابت المواكب الشيعية الشوارع لاطمة الصدور. وظهر رئيس الوقف السُنِّي باكياً، وهو يقلب ناظره في سماء سامراء، ولم يرَ بريق قبتها! وحمل سامرائي عمامة علي الهادي الخضراء مصدوماً. وهتف أعظمي سُنِّي: «اعتدوا على إمامنا وسيدنا علي الهادي». واحتج بابا الكلدان، وأمير الأيزيدية، والصابئة المندائيون، والكُرد أكدوا أكثر قرباً من قبل. أما ما حدث لمساجد السُنَّة ببغداد فلا يقل كراهية من تفجير القبة نفسها، ويد الخراب لا مذهب لها.
بعد هذا التعاطف يطالب الوقف الشيعي حالياً بكليدارية أو سدانة مرقد سامراء، وهي وظيفة أنيطت بالسادة السوامرة منذ قرون، بمدينة شافعية. وبعيداً من محاولات متشنجين في هيئة علماء المسلمين لتسميم الأجواء وتقدمهم بالمدافعين عن سامراء، التي لا تقر لهم تشنجهم الديني والطائفي والسياسي، أن تترك سدانة المرقد للسادة السوامرة، مثلما هو من غابر الزمان، ما زال هو في أرض العراق، وأرواح السامرائيين قريبة منه، ناهيك من أهميته في معاشهم. لا لشيء سوى تقدير لهذا التاريخ، وأن لا يتحول المرقد إلى مسجد (بابري) آخر. شيده المسلمون شمال الهند، في القرن السادس عشر الميلادي، ثم ادعى الهندوس أنه مكان معبد قديم، حتى التحمت الجموع في فتنة راح ضحيتها ثلاثة آلاف هندي من الديانتين، وما زال أوَارها. ولا أقصد هنا الإشارة إلى الشيعة أو السُنَّة بالهندوس، كما ليس من حقي التقليل من ديانة اعتقدها مئات الملايين، وعظيم مثل المهاتما غاندي. بل أن الفتنة حُطَمة تلتهم البشر، أياً كانوا: هندوساً ومسلمين، سُنَّة وشيعة، كاثوليكاً وبروتستاناً.. إلخ.
أجد لدى صاحب فتوى ثورة العشرين، المرجع محمد تقي الشيرازي (ت 1920)، الأسباب نفسها، عندما اعترض على فكرة استبدال سادن مرقد سامراء السُنِّي بآخر شيعي: «لا فرق عندي بين السُنِّي والشيعي، وأن الكليدار الموجود رجل طيب، ولا أوافق على عزله» (لمحات اجتماعية). أليس من العقل والإيمان أن تؤخذ حصافة مرجع من أكابر المراجع الشيعية بنظر الاعتبار؟ وأن لا تهمل مخاطر أهواء العوام ومآرب مؤججي الفتن، وما سيتولد من تصادم عفوي بين سلطة السدانة الشيعية والمحيط السُنِّي؟ لأن الأمر لن يبقى أداء طقوس فحسب، إنما ستلعب المصالح دورها في تخبيث النفوس. وبهذا لا بد من التذكير بفتنة 1893 بين السامرائيين وبين حاشية صاحب فتوى التنباك الميرزا محمد حسن الشيرازي من طلبة وأتباع، وكان ضحيتها ابن الشيرازي وآخرون، وخلفت جرحاً في الذاكرة.
الشرق الاوسط اللندنية
استيقظت حاضنة التاريخ سامراء (فجر الأربعاء 22 شباط الجاري) على دوي انفجار هائل، أحالَ القبة المتلألئة إلى كهف دامس. كانت الكراهية زائدة أن لا تُترك ذات الألف عام، وما يحيطها من قدسية لدى الملايين وما أظلت من أثر نفيس، إلا حطاماً. يعرف ما لقبة سامراء وملويتها، التي قطع رأسها تفجير سابق (أبريل 2005)، من شهادة على تاريخ تعايش المدينة وتسامحها، فهي منذ ارتفاع ملويتها والأديرة المسيحية حولها، وأن والدة المهدي، الغائب من سردابها، هي السيدة نرجس المسيحية. وكانت الدار، التي عاش فيها الإمام الهادي وشُيد عليها المرقد، لدُليل بن يعقوب النصراني (تاريخ بغداد)، كاتب القائد بغا الشرابي، والمشرف على إعمار أبنية سامراء زمن المتوكل (ت247هـ). ولم يهجرها يهودها إلا بضغط من خارجها، وظلت محتفظة لهم بحارة «سوق اليهود». بعدا هذا مَنْ أراد تحويل سامراء إلى إمارة معتمة لمحو ذاكرتها، وتغيير طباع أهليها!
ونقرأ في سيرة قبة مرقد الإمامين علي الهادي (ت254هـ)، وولده الحسن العسكري (ت260هـ): شيدها حاكم الموصل ابن أبي الهيجاء الحمداني (944 ميلادية)، ومرت بأدوار توسعة عديدة منذ العهد البويهي، مروراً بما أضافه الخلفاء العباسيون المتأخرون: الناصر، والمستنصر. وخصها آخرهم المستعصم بطيور الحمام العسكريات (نسبة لاسمها)، التي طارت إليها من دار الخلافة ببغداد. واستقرار طرازها المعماري (1785) على يد سلطان منطقة خوي الأذربيجانية. وكسوتها بالذهب من قبل ناصر الدين شاه القاجاري (عام 1868). تعرض مرقدها إلى حريق بسبب استعمال الشموع (سنة 1242) ميلادية، ومثله في سنة 1694، وإلى سرقة كبرى 1937.
ظلت سامراء عاصمةً للشرق (221 ـ 276هـ)، حتى أعاد المعتمد بالله بلاط أجداده إلى بغداد. ولم يجد فيها ابن بطوطة، وهو في الطريق إلى الموصل (728هـ)، سوى خرائب. ثم دبت الحياة فيها بفضل دجلة والمرقد والاهتمام الآثاري بتركتها العباسية، حتى غدت قبلة للزائرين. جعلها مدحت باشا قضاءً (وحدة إدارية) ملحقاً ببغداد، تتبعها تكريت إدارياً. ولما ارتبطت الأخيرة بالعاصمة مباشرة، قال التكارتة: «تكريت صارت قضاء على عناد (رغماً) سامراء». ومن 8 شباط 1976 أصبحت تكريت المحافظة تتبعها سامراء، وسبحان مغير الأحوال.
ظهر الوجود الشيعي بسامراء بعد انتقال مرجعية الميرزا محمد حسن الشيرازي، وإقامته بجوار مرقدها (1875 ـ 1895)، وتأسيس المدرسة «الجعفرية» فيها. وأثناء تلك الفترة سُيرت في شوارعها المواكب بمناسبة عاشوراء من قبل زائرين وطلبة المدرسة. وخشية على هويتها المذهبية سعى الشيخ سعيد النقشبندي (ت 1920) إلى السلطان عبد الحميد الثاني، فأمر الأخير بتأسيس مدرسة سُنّية (تاريخ علماء بغداد)، موازية. لكن بعد وفاة الشيرازي انحسر عنها وجود العلماء والطلبة الشيعة. بعدها حاول المرجع أبو الحسن الأصفهاني (ت 1946)، المقيم بالنجف، شراء الأراضي المحيطة بها، ونقل الفلاحين إليها من المناطق الشيعية، مع السماح لأصحابها السامرائيين بفلاحتها إذا أرادوا. ومراعاة للأمر الواقع لم يمض الأصفهاني في مشروعه (شعراء الغري). فسامراء وسدانة مرقدها سُنيَّة منذ مئات السنين.
وجدت التكايا الصوفية حول قبتها، حتى ورد في المديح الصوفي لصاحب المرقد: «هلَ بتاج المشايخ يا علي الهادي.. أبو جعفر علي يا قطب سامراء». إلا أن جعفراً هذا يكذبه الشيعة، بدعوى أنه ادعى الإمامة وهي لأخيه العسكري، ونعتوه بالكذاب (كتاب الغيبة). وأكد المجلسي: «كنيته أبو الحسن لاغيرها» (بحار الأنوار). ولم يمنع هذا التكذيب وجيه سامرائي شافعي، ينتسب إلى آل البيت، من تسمية المهدي المنتظر بالمرتجى: «وإلى الإمام العسكري ونجله.. المرتجى ذاك الإمام المنصف» (عرب، السراء في أحوال سامراء).
لقد أحزن الحادث الجميع: خرجت المواكب السُنِّية تهتف وترفع الأيادي، وتضرب على الرق الصوفي. بينما جابت المواكب الشيعية الشوارع لاطمة الصدور. وظهر رئيس الوقف السُنِّي باكياً، وهو يقلب ناظره في سماء سامراء، ولم يرَ بريق قبتها! وحمل سامرائي عمامة علي الهادي الخضراء مصدوماً. وهتف أعظمي سُنِّي: «اعتدوا على إمامنا وسيدنا علي الهادي». واحتج بابا الكلدان، وأمير الأيزيدية، والصابئة المندائيون، والكُرد أكدوا أكثر قرباً من قبل. أما ما حدث لمساجد السُنَّة ببغداد فلا يقل كراهية من تفجير القبة نفسها، ويد الخراب لا مذهب لها.
بعد هذا التعاطف يطالب الوقف الشيعي حالياً بكليدارية أو سدانة مرقد سامراء، وهي وظيفة أنيطت بالسادة السوامرة منذ قرون، بمدينة شافعية. وبعيداً من محاولات متشنجين في هيئة علماء المسلمين لتسميم الأجواء وتقدمهم بالمدافعين عن سامراء، التي لا تقر لهم تشنجهم الديني والطائفي والسياسي، أن تترك سدانة المرقد للسادة السوامرة، مثلما هو من غابر الزمان، ما زال هو في أرض العراق، وأرواح السامرائيين قريبة منه، ناهيك من أهميته في معاشهم. لا لشيء سوى تقدير لهذا التاريخ، وأن لا يتحول المرقد إلى مسجد (بابري) آخر. شيده المسلمون شمال الهند، في القرن السادس عشر الميلادي، ثم ادعى الهندوس أنه مكان معبد قديم، حتى التحمت الجموع في فتنة راح ضحيتها ثلاثة آلاف هندي من الديانتين، وما زال أوَارها. ولا أقصد هنا الإشارة إلى الشيعة أو السُنَّة بالهندوس، كما ليس من حقي التقليل من ديانة اعتقدها مئات الملايين، وعظيم مثل المهاتما غاندي. بل أن الفتنة حُطَمة تلتهم البشر، أياً كانوا: هندوساً ومسلمين، سُنَّة وشيعة، كاثوليكاً وبروتستاناً.. إلخ.
أجد لدى صاحب فتوى ثورة العشرين، المرجع محمد تقي الشيرازي (ت 1920)، الأسباب نفسها، عندما اعترض على فكرة استبدال سادن مرقد سامراء السُنِّي بآخر شيعي: «لا فرق عندي بين السُنِّي والشيعي، وأن الكليدار الموجود رجل طيب، ولا أوافق على عزله» (لمحات اجتماعية). أليس من العقل والإيمان أن تؤخذ حصافة مرجع من أكابر المراجع الشيعية بنظر الاعتبار؟ وأن لا تهمل مخاطر أهواء العوام ومآرب مؤججي الفتن، وما سيتولد من تصادم عفوي بين سلطة السدانة الشيعية والمحيط السُنِّي؟ لأن الأمر لن يبقى أداء طقوس فحسب، إنما ستلعب المصالح دورها في تخبيث النفوس. وبهذا لا بد من التذكير بفتنة 1893 بين السامرائيين وبين حاشية صاحب فتوى التنباك الميرزا محمد حسن الشيرازي من طلبة وأتباع، وكان ضحيتها ابن الشيرازي وآخرون، وخلفت جرحاً في الذاكرة.