سلسبيل
02-28-2006, 09:46 AM
غزة-دنيا الوطن
أبشع ما يمكن تخيله هو أن تري طفلا لا يتعدي عمره 3 سنوات يصرخ من شدة العذاب والألم.. يتعالي صراخه كلما ازداد العذاب عنفا وفتكا بجسده الضئيل. يستمر لساعات طويلة يصرخ ويصرخ دون مجير.. يعجز الجسد الضئيل عن الاحتمال ويعجز عقله عن الاستيعاب.. يفقد عقله كما فقد أباه وأمه وأشقاءه.. يبدأ مرحلة جديدة من التعبير عن شدة الألم والعذاب.. يهذي.. قبل الموت وينادي أمه وكأنه يراها.. لعل روحها التي فاضت قبل ساعات ترفرف حوله.. تحاول أن تخفف عذابه وآلامه تداعبه.. يناديها ويسألها: وجسده وصوته يرتعشان: 'ماما.. أنا حلو يا ماما؟!
.. خلاص يا ماما أنا شبعت يا ماما.. أنا أكلت كتير.. أنا حلو يا ماما.. أنا باسمع الكلام ياماما' يرتعش جسده بشدة وتختفي حرارته ويتحول إلي ما يشبه لوح الثلج.. ثم يموت.
لم يكن هذا المشهد أحد مشاهد العذاب في سجن أبوغريب أو السجون الصهيونية ولكنه كان أحد تفاصيل الموت التي عاشها ضحايا العبارة 'السلام 98'.. التي لا يمكن لمن شاهدها أن يعيش حياة طبيعية بعد ذلك.. شاهد هذا المشهد وعاش ساعاته ودقائقه ولحظاته التي مرت أثقل من الجبال ومن أمواج البحر العالية 'علي محمد صالح' أحد الناجين من العبارة.. صوته الخافت المرتعش الذي لا يكف عن ذكر الله وحمده يزداد وارتعاشا حين يتذكر هذه اللحظات ويستحضرها وكأنه يراها الآن يهتز جسده.. وترتعش كل تقاسيم وجهه ويختنق صوته بالبكاء حين يتذكر كلمات هذا الطفل وهو يموت.. هان عليه شقاء السنين الذي ابتلعه البحر وهانت عليه ساعات العذاب حتي تم انتشاله بعد '21' ساعة.. ولكن يظل صوت هذا الصغير يؤرقه ويحرمه النوم.
يحكي تفاصيل ما حدث ويقول: 'كنت من أوائل الركاب الذين صعدوا إلي العبٌارة بعد أن فتشتنا السلطات السعودية تفتيشا دقيقا وكنت أشعر بسعادة فائقة كالعشرات من ركاب العبارة بعد رحلة شقاء وعمل يحلمون برؤية الأبناء والزوجة والأهل والأحباب كنت أعد الدقائق كي أصل إلي أبنائي عمر 4 سنوات ورفيدة سنتين.. حملت شقاء السنين شنطة 'هاندباج' بها 15 ألف ريال وألف دولار وأمانة لصديق طلب مني توصيلها لزوجته وهي مبلغ 8500 ريال وجهاز كمبيوتر شخص 'لاب توب' أحلم بأن آخذ شقة مستقلة لأنني أعيش حتي الآن في منزل أبي.. كنت باشتغل قبل سفري في مؤسسة 'IBM' وهي مؤسسة هولندية لمكافحة الآفات والأمراض الزراعية، حيث إنني خريج معهد التعاون الزراعي وكان مرتبي لا يتجاوز 150 جنيها.. سافرت وعملت مقاولا في السعودية منذ أربع سنوات والحمد لله كنت باكسب خاصة في موسم الحج'.
ويستمر قائلا: 'طلب طاقم العبارة مساعدة الناس اللي خطوطها كويسة لكتابة بيانات أوراق الجوازات وطلعت أنا ومجموعة من الشباب والرجال في الكافتيريا.. كان عدد الأطفال والنساء كبيرا جدا.. كل واحد في المجموعة فضل يحكي عن أهله وأولاده وأحلامه والظروف اللي اضطرته للسفر.. كلهم ناس بسطاء'.
واحد منهم شاف صورة طفل في أحد الجوازات وقال ده شبه ابني بالضبط وطلع صور ولاده وفضل يبوس فيها وكأنه بيشوفها لآخر مرة وفضل يتكلم عن أحلامه لهم وكانت دي آخر كلماته لأنه كان من أوائل الناس اللي ماتت في العبارة قبل ما تغرق.. فبعد أن ازداد الدخان بدأ زجاج العبارة وأجزاؤها تتناثر وتنفجر وتسقط علي الناس.. وقع عليه سياج من العبارة ومات في الحال'.
مشاهد لا تنسي
ويكمل علي محمد صالح قائلا: 'مشاهد ومناظر وكلمات كثيرة لن أنساها لازالت تتردد في أذني.. وسط الارتباك والرعب شاهدت والد محمد الطفل الوحيد الذي نجا من العبارة.. كان معاه زوجته وأطفاله الثلاثة وانهار عندما شاهد زوجته تبكي فزعا.. قلت له 'اجمد يا راجل وادعي ربنا إن شاء الله هينجينا' فبكي وقال لي: 'دحنا أسرة كاملة يعني لو متنا كلنا هينقطع أثري من الدنيا'. ويكمل 'اتقلبت المركب ورأيت مركبين مطاط نزلوا من السفينة واتجهوا ناحية باخرة كبيرة كانت علي بعد كيلو واحد مننا بعد أن اطلقوا أربع طلقات..' الناس كلها سقطت في البحر وصراخ الأطفال والنساء كان رهيبا.. كل واحد عاوز يمسك في أي شيء.. الناس كانوا بيمسكوا في بعض ويغرقوا جماعات' ويزداد ارتعاش صوته وهو يقول: 'كان فيه أربعة أطفال بالقرب مني وكانوا بيصرخوا بشدة وحاولوا يمسكوا فيا لكن جت موجة عالية قلبتهم ناحية سيدة كبيرة في السن كانت بتحاول تمسك في أي شيء مسكوا فيها وغرقوا كلهم'.
بنت سعودية أيضا ظلت تصرخ بجواري وتقول 'بالله عليك انقذني'.. قلت لها حاولي تمسكي فيا لكن اختفت مع الأمواج'.
ويتذكر علي محمد صالح أصعب ما يمكن أن يراه إنسان في حياته ويقول 'بعد ساعة ونصف الساعة سمعت صوت طفل قريب مني بيصرخ بشدة وكان لابس سترة نجاة شديته معايا كان عمره حوالي 3 سنوات وكان بيرتعش حاولت ادعك جسمه وأضمه إلي صدري ولكنه ظل يرتعد ويصرخ.
فضل معايا أربع ساعات'. ويتوقف علي عن الحديث ويشرد وكأنه يري الطفل أمامه يرتعش صوته وجسده وهو يستحضر هذا المشهد ويقول: 'أول مرة أشوف طفل يفقد عقله ويوصل لمرحلة الجنون من شدة الألم والعذاب كان بيقولي وصوته وجسده يرتعشان وبعد أن عجز حتي علي الصراخ 'أنا بردان قوي يا عمو عاوز اطلع من الميه'.. قلت له خلاص يا حبيب ماتخافش هنطلع دلوقتي' وبعدين بدأ يهذي ويقول 'أنا حلو يا ماما.. أنا باسمع الكلام.. خالو جاي يا عمو.. خلاص ياماما أنا شبعت وكلت كتير'.. ثم يعود ويقول 'أنا بردان قوي يا ماما.. بردان' كان بينادي أيضا ويقول 'يا مني تعالي العبي معايا.. تعالي جنبي يا مني'.. ويصمت علي ثم ينفجر في البكاء ويقول: 'لو كان فيه حد حس بينا واهتم بأنه ينقذنا كان ممكن الطفل ده يعيش ومكانش شاف العذاب ده كله.. الموت مش صعب الأصعب منه العذاب اللي الناس شافوه.. أغلب الأطفال والنساء ماتوا في وقت قصير لكن اللي كان لابس سترة نجاة ازداد عذابه حتي مات خلال ساعات.. أنا حاولت أضم الولد كنت شايف فيه صورة ابني عمره لكن جسمي كان أبرد من جسمه ارتعش بشدة بين يدي وبدأ يتجمد زي لوح الثلج ومات صرخت وأجهشت في البكاء وفضلت رابطة معايا فترة بعد ما مات لكن الموج أخذه'.
ويستمر علي في البكاء ويقول: 'الأصوات اللي كنت باسمعها حولي في البحر ومناظر الجثث وصراخ الأطفال والنساء بيطاردني.. الجثث كانت تحيط بنا من كل اتجاه كان الأحياء بيحاولوا يصبروا بعض.. الناس من التعب كانت بتريح جسمها وتسند علي الجثث'.
ويكمل علي حكايته مع الموت فيقول: 'علي بعد مسافة قريبة مني رأيت رجل أوشك علي الموت يستند إلي حقيبة كان بيقول 'إن للموت لسكرات.. حاولت أساعده وأصبره قلت له يمكن دلوقتي حد يجي ينقذنا لكنه ظل يردد إن للموت لسكرات ثلاث مرات ثم مات.. كلماته مع صوت البحر كانت مرعبة وفظيعة' ويكمل: 'كانت شدة النجاة بتاعتي متهالكة وكان بيساعدني أني باعرف أعوم.. لكن تعبت وحاولت أبحث عن سترة أخري.. الناس كانوا بيخلعوا السترات من بعض الجثث الطافية.. وشفت علي مسافة قريبة مني سيدة منكفية علي وجهها وشعرها مفرود علي الميه اتجهت نحوها ورفعت رأسها.. فوجدتها ميتة وعينها مفتوحة كانت محتضنة طفل عمره شهور ماسكة فيه بشدة زي المقبض.. مشهد مؤلم وفظيع صرخت وبكيت لما شفته ولم تطاوعني نفسي علي أن آخذ منها سترة النجاة.. أغمضت عينيها ونطقت الشهادة وتركتها وأنا أشعر أن الموت يقترب مني بعدها شفت شاب يقف منتصبا علي المياه وكأنه زجاجة وعيناه مفتوحة في البداية ظننت أنه حي لكن بعد أن اقتربت منه وجدت نصفه الأسفل ممزق تماما وأمعاءه تتدلي منه بعد أن أكل السمك نصفه السفلي'.
بعد ساعات طويلة ظهرت طائرة هليكوبتر ورمت قمع ناحيتي وظننت أنهم هياخذوني لكن تركتني وبعد ساعتين جت سفينة مصرية رمت لي حبل وكانت بعيدة علي فضلت أعوام 3 ساعات لحد ما وصلت لها.. آثار الحبل لازالت علي يدي، السفينة كانت واقفة بعيد اللي بيقدر يوصلها هو اللي بتاخده واللي ما يقدرش بتسيبه يموت.. طلعت السفينة وأنا مش مصدق نفسي وخلوني في غرفة كأنها مصرف السفينة وكان فيه ناس تانية من الناجين كان فيهم ناس عريانة.. لم يعطونا ملابس أو حتي بطانية أو أكل.. المكان كان بيصرف منه علينا وكان بيشبه ثلاجة الموتي حتي أنني اعتقدت أنني ميت.. وبعدها نقلوني المستشفي وأنا في حالة إعياء شديد.. وهناك جه الهلال الأحمر وأعطوني جلابية قصيرة جدا لم أستطع أن ألبسها وظللت بملابسي ولم يسمحوا لأحد من أهلي بزيارتي.. لكن أحد الأطباء أعطاني تليفونه علشان اطمن أهلي وبعدها طلبوا مني الخروج.
وأكدوا أنهم لن يسمحوا لأهلي بزيارتي أعطوني ظرف به مبلغ من المال عرفت بعدها أنه مبلغ 500 جنيه ولكني نسيته في المستشفي وتركتها وأنا حافي ورجعت بلدي الفيوم وكان أبي قد أصيب بصدمة وفقد الوعي حتي الآن ولا يدرك ما حوله' ويعلق علي قائلا: 'مش ممكن يكون صاحب العبارة والمسئولين اللي ساعدوه وسابونا دون انقاذ مصريين'.
أنا كنت في البحر أناجي ربي وأقول يارب هتكون دي نهايتي بعد بعدي وغربتي عن ولادي وأهلي.. احنا بنحب البلد ومعملناش حاجة وحشة.. كنا بندخل عملة صعبة وبندور علي رزقنا بره.. ليه يعملوا فينا كده'
ويضيف: 'وأنا في المستشفي جاني واحد من الموظفين من شركة السلام وقاللي خذ اللي تقدر تاخذه من الشركة واحمد ربنا احسن مش هتطول حاجة لأن أصحابها ناس واصلين'.. وفعلا بعد ما رجعت وذهبت للشركة عرفت أنهم عايزين يعطوا لكل واحد من الناجين 15 ألف جنيه علي أن يوقع لهم علي أوراق بأنه ليس له أي مستحقات أخري لدي الشركة حتي الناس اللي ماتت أو فقدت وضعوا شروطا تعجيزية علشان يصرفوا التعويضات ناس كتير غلابة بعدما فقدوا كل ما يملكونه فكروا في أخذ هذا المبلغ الذي لا يساوي لحظة من اللحظات التي عشناها نصارع الموت لأنهم خايفين وبيقولوا إن أصحاب الشركة واصلين ومش هنقدر ناخذ منهم حاجة'.
علي جاءنا بعد أن ذهب إلي مقر الشركة في مصر الجديدة وعرف هذه المعلومات.. جاءنا حائرا ماذا يفعل هل يقبل هذا المبلغ ويتنازل عن كل حقوقه كما سيفعل الكثيرون الذين أخذوا بمبدأ 'عصفور في اليد خير من عشرة علي الشجرة' أم يتمسك بحقوقه التي لا يعوضها أي مبلغ من المال وكيف يحصل عليها؟!.. سؤال نوجهه إلي الحكومة ومسئوليها وأصحاب العذاب التي عاشها هؤلاء الضحايا وبكم يقدرون شقاء سنوات عمر ضاعت في الغربة ومشاهد موت لا يمكن أن يعود من رأها إلي حياته الطبيعية بعدها وكم تساوي كل لحظة عذاب وفزع وألم عاشها طفل بريء حتي فاضت روحه إلي بارئها دون مجير؟
من أي مادة صنعت قلوبكم حتي تساومون هؤلاء الضحايا وأياديكم ملوثة بدمائهم؟ ومن الذي منحكم كل هذا الجبروت والتبجح؟.. ولا نملك في النهاية إلا أن نقول: 'حسبنا وحسبهم الله ونعم الوكيل'.
أبشع ما يمكن تخيله هو أن تري طفلا لا يتعدي عمره 3 سنوات يصرخ من شدة العذاب والألم.. يتعالي صراخه كلما ازداد العذاب عنفا وفتكا بجسده الضئيل. يستمر لساعات طويلة يصرخ ويصرخ دون مجير.. يعجز الجسد الضئيل عن الاحتمال ويعجز عقله عن الاستيعاب.. يفقد عقله كما فقد أباه وأمه وأشقاءه.. يبدأ مرحلة جديدة من التعبير عن شدة الألم والعذاب.. يهذي.. قبل الموت وينادي أمه وكأنه يراها.. لعل روحها التي فاضت قبل ساعات ترفرف حوله.. تحاول أن تخفف عذابه وآلامه تداعبه.. يناديها ويسألها: وجسده وصوته يرتعشان: 'ماما.. أنا حلو يا ماما؟!
.. خلاص يا ماما أنا شبعت يا ماما.. أنا أكلت كتير.. أنا حلو يا ماما.. أنا باسمع الكلام ياماما' يرتعش جسده بشدة وتختفي حرارته ويتحول إلي ما يشبه لوح الثلج.. ثم يموت.
لم يكن هذا المشهد أحد مشاهد العذاب في سجن أبوغريب أو السجون الصهيونية ولكنه كان أحد تفاصيل الموت التي عاشها ضحايا العبارة 'السلام 98'.. التي لا يمكن لمن شاهدها أن يعيش حياة طبيعية بعد ذلك.. شاهد هذا المشهد وعاش ساعاته ودقائقه ولحظاته التي مرت أثقل من الجبال ومن أمواج البحر العالية 'علي محمد صالح' أحد الناجين من العبارة.. صوته الخافت المرتعش الذي لا يكف عن ذكر الله وحمده يزداد وارتعاشا حين يتذكر هذه اللحظات ويستحضرها وكأنه يراها الآن يهتز جسده.. وترتعش كل تقاسيم وجهه ويختنق صوته بالبكاء حين يتذكر كلمات هذا الطفل وهو يموت.. هان عليه شقاء السنين الذي ابتلعه البحر وهانت عليه ساعات العذاب حتي تم انتشاله بعد '21' ساعة.. ولكن يظل صوت هذا الصغير يؤرقه ويحرمه النوم.
يحكي تفاصيل ما حدث ويقول: 'كنت من أوائل الركاب الذين صعدوا إلي العبٌارة بعد أن فتشتنا السلطات السعودية تفتيشا دقيقا وكنت أشعر بسعادة فائقة كالعشرات من ركاب العبارة بعد رحلة شقاء وعمل يحلمون برؤية الأبناء والزوجة والأهل والأحباب كنت أعد الدقائق كي أصل إلي أبنائي عمر 4 سنوات ورفيدة سنتين.. حملت شقاء السنين شنطة 'هاندباج' بها 15 ألف ريال وألف دولار وأمانة لصديق طلب مني توصيلها لزوجته وهي مبلغ 8500 ريال وجهاز كمبيوتر شخص 'لاب توب' أحلم بأن آخذ شقة مستقلة لأنني أعيش حتي الآن في منزل أبي.. كنت باشتغل قبل سفري في مؤسسة 'IBM' وهي مؤسسة هولندية لمكافحة الآفات والأمراض الزراعية، حيث إنني خريج معهد التعاون الزراعي وكان مرتبي لا يتجاوز 150 جنيها.. سافرت وعملت مقاولا في السعودية منذ أربع سنوات والحمد لله كنت باكسب خاصة في موسم الحج'.
ويستمر قائلا: 'طلب طاقم العبارة مساعدة الناس اللي خطوطها كويسة لكتابة بيانات أوراق الجوازات وطلعت أنا ومجموعة من الشباب والرجال في الكافتيريا.. كان عدد الأطفال والنساء كبيرا جدا.. كل واحد في المجموعة فضل يحكي عن أهله وأولاده وأحلامه والظروف اللي اضطرته للسفر.. كلهم ناس بسطاء'.
واحد منهم شاف صورة طفل في أحد الجوازات وقال ده شبه ابني بالضبط وطلع صور ولاده وفضل يبوس فيها وكأنه بيشوفها لآخر مرة وفضل يتكلم عن أحلامه لهم وكانت دي آخر كلماته لأنه كان من أوائل الناس اللي ماتت في العبارة قبل ما تغرق.. فبعد أن ازداد الدخان بدأ زجاج العبارة وأجزاؤها تتناثر وتنفجر وتسقط علي الناس.. وقع عليه سياج من العبارة ومات في الحال'.
مشاهد لا تنسي
ويكمل علي محمد صالح قائلا: 'مشاهد ومناظر وكلمات كثيرة لن أنساها لازالت تتردد في أذني.. وسط الارتباك والرعب شاهدت والد محمد الطفل الوحيد الذي نجا من العبارة.. كان معاه زوجته وأطفاله الثلاثة وانهار عندما شاهد زوجته تبكي فزعا.. قلت له 'اجمد يا راجل وادعي ربنا إن شاء الله هينجينا' فبكي وقال لي: 'دحنا أسرة كاملة يعني لو متنا كلنا هينقطع أثري من الدنيا'. ويكمل 'اتقلبت المركب ورأيت مركبين مطاط نزلوا من السفينة واتجهوا ناحية باخرة كبيرة كانت علي بعد كيلو واحد مننا بعد أن اطلقوا أربع طلقات..' الناس كلها سقطت في البحر وصراخ الأطفال والنساء كان رهيبا.. كل واحد عاوز يمسك في أي شيء.. الناس كانوا بيمسكوا في بعض ويغرقوا جماعات' ويزداد ارتعاش صوته وهو يقول: 'كان فيه أربعة أطفال بالقرب مني وكانوا بيصرخوا بشدة وحاولوا يمسكوا فيا لكن جت موجة عالية قلبتهم ناحية سيدة كبيرة في السن كانت بتحاول تمسك في أي شيء مسكوا فيها وغرقوا كلهم'.
بنت سعودية أيضا ظلت تصرخ بجواري وتقول 'بالله عليك انقذني'.. قلت لها حاولي تمسكي فيا لكن اختفت مع الأمواج'.
ويتذكر علي محمد صالح أصعب ما يمكن أن يراه إنسان في حياته ويقول 'بعد ساعة ونصف الساعة سمعت صوت طفل قريب مني بيصرخ بشدة وكان لابس سترة نجاة شديته معايا كان عمره حوالي 3 سنوات وكان بيرتعش حاولت ادعك جسمه وأضمه إلي صدري ولكنه ظل يرتعد ويصرخ.
فضل معايا أربع ساعات'. ويتوقف علي عن الحديث ويشرد وكأنه يري الطفل أمامه يرتعش صوته وجسده وهو يستحضر هذا المشهد ويقول: 'أول مرة أشوف طفل يفقد عقله ويوصل لمرحلة الجنون من شدة الألم والعذاب كان بيقولي وصوته وجسده يرتعشان وبعد أن عجز حتي علي الصراخ 'أنا بردان قوي يا عمو عاوز اطلع من الميه'.. قلت له خلاص يا حبيب ماتخافش هنطلع دلوقتي' وبعدين بدأ يهذي ويقول 'أنا حلو يا ماما.. أنا باسمع الكلام.. خالو جاي يا عمو.. خلاص ياماما أنا شبعت وكلت كتير'.. ثم يعود ويقول 'أنا بردان قوي يا ماما.. بردان' كان بينادي أيضا ويقول 'يا مني تعالي العبي معايا.. تعالي جنبي يا مني'.. ويصمت علي ثم ينفجر في البكاء ويقول: 'لو كان فيه حد حس بينا واهتم بأنه ينقذنا كان ممكن الطفل ده يعيش ومكانش شاف العذاب ده كله.. الموت مش صعب الأصعب منه العذاب اللي الناس شافوه.. أغلب الأطفال والنساء ماتوا في وقت قصير لكن اللي كان لابس سترة نجاة ازداد عذابه حتي مات خلال ساعات.. أنا حاولت أضم الولد كنت شايف فيه صورة ابني عمره لكن جسمي كان أبرد من جسمه ارتعش بشدة بين يدي وبدأ يتجمد زي لوح الثلج ومات صرخت وأجهشت في البكاء وفضلت رابطة معايا فترة بعد ما مات لكن الموج أخذه'.
ويستمر علي في البكاء ويقول: 'الأصوات اللي كنت باسمعها حولي في البحر ومناظر الجثث وصراخ الأطفال والنساء بيطاردني.. الجثث كانت تحيط بنا من كل اتجاه كان الأحياء بيحاولوا يصبروا بعض.. الناس من التعب كانت بتريح جسمها وتسند علي الجثث'.
ويكمل علي حكايته مع الموت فيقول: 'علي بعد مسافة قريبة مني رأيت رجل أوشك علي الموت يستند إلي حقيبة كان بيقول 'إن للموت لسكرات.. حاولت أساعده وأصبره قلت له يمكن دلوقتي حد يجي ينقذنا لكنه ظل يردد إن للموت لسكرات ثلاث مرات ثم مات.. كلماته مع صوت البحر كانت مرعبة وفظيعة' ويكمل: 'كانت شدة النجاة بتاعتي متهالكة وكان بيساعدني أني باعرف أعوم.. لكن تعبت وحاولت أبحث عن سترة أخري.. الناس كانوا بيخلعوا السترات من بعض الجثث الطافية.. وشفت علي مسافة قريبة مني سيدة منكفية علي وجهها وشعرها مفرود علي الميه اتجهت نحوها ورفعت رأسها.. فوجدتها ميتة وعينها مفتوحة كانت محتضنة طفل عمره شهور ماسكة فيه بشدة زي المقبض.. مشهد مؤلم وفظيع صرخت وبكيت لما شفته ولم تطاوعني نفسي علي أن آخذ منها سترة النجاة.. أغمضت عينيها ونطقت الشهادة وتركتها وأنا أشعر أن الموت يقترب مني بعدها شفت شاب يقف منتصبا علي المياه وكأنه زجاجة وعيناه مفتوحة في البداية ظننت أنه حي لكن بعد أن اقتربت منه وجدت نصفه الأسفل ممزق تماما وأمعاءه تتدلي منه بعد أن أكل السمك نصفه السفلي'.
بعد ساعات طويلة ظهرت طائرة هليكوبتر ورمت قمع ناحيتي وظننت أنهم هياخذوني لكن تركتني وبعد ساعتين جت سفينة مصرية رمت لي حبل وكانت بعيدة علي فضلت أعوام 3 ساعات لحد ما وصلت لها.. آثار الحبل لازالت علي يدي، السفينة كانت واقفة بعيد اللي بيقدر يوصلها هو اللي بتاخده واللي ما يقدرش بتسيبه يموت.. طلعت السفينة وأنا مش مصدق نفسي وخلوني في غرفة كأنها مصرف السفينة وكان فيه ناس تانية من الناجين كان فيهم ناس عريانة.. لم يعطونا ملابس أو حتي بطانية أو أكل.. المكان كان بيصرف منه علينا وكان بيشبه ثلاجة الموتي حتي أنني اعتقدت أنني ميت.. وبعدها نقلوني المستشفي وأنا في حالة إعياء شديد.. وهناك جه الهلال الأحمر وأعطوني جلابية قصيرة جدا لم أستطع أن ألبسها وظللت بملابسي ولم يسمحوا لأحد من أهلي بزيارتي.. لكن أحد الأطباء أعطاني تليفونه علشان اطمن أهلي وبعدها طلبوا مني الخروج.
وأكدوا أنهم لن يسمحوا لأهلي بزيارتي أعطوني ظرف به مبلغ من المال عرفت بعدها أنه مبلغ 500 جنيه ولكني نسيته في المستشفي وتركتها وأنا حافي ورجعت بلدي الفيوم وكان أبي قد أصيب بصدمة وفقد الوعي حتي الآن ولا يدرك ما حوله' ويعلق علي قائلا: 'مش ممكن يكون صاحب العبارة والمسئولين اللي ساعدوه وسابونا دون انقاذ مصريين'.
أنا كنت في البحر أناجي ربي وأقول يارب هتكون دي نهايتي بعد بعدي وغربتي عن ولادي وأهلي.. احنا بنحب البلد ومعملناش حاجة وحشة.. كنا بندخل عملة صعبة وبندور علي رزقنا بره.. ليه يعملوا فينا كده'
ويضيف: 'وأنا في المستشفي جاني واحد من الموظفين من شركة السلام وقاللي خذ اللي تقدر تاخذه من الشركة واحمد ربنا احسن مش هتطول حاجة لأن أصحابها ناس واصلين'.. وفعلا بعد ما رجعت وذهبت للشركة عرفت أنهم عايزين يعطوا لكل واحد من الناجين 15 ألف جنيه علي أن يوقع لهم علي أوراق بأنه ليس له أي مستحقات أخري لدي الشركة حتي الناس اللي ماتت أو فقدت وضعوا شروطا تعجيزية علشان يصرفوا التعويضات ناس كتير غلابة بعدما فقدوا كل ما يملكونه فكروا في أخذ هذا المبلغ الذي لا يساوي لحظة من اللحظات التي عشناها نصارع الموت لأنهم خايفين وبيقولوا إن أصحاب الشركة واصلين ومش هنقدر ناخذ منهم حاجة'.
علي جاءنا بعد أن ذهب إلي مقر الشركة في مصر الجديدة وعرف هذه المعلومات.. جاءنا حائرا ماذا يفعل هل يقبل هذا المبلغ ويتنازل عن كل حقوقه كما سيفعل الكثيرون الذين أخذوا بمبدأ 'عصفور في اليد خير من عشرة علي الشجرة' أم يتمسك بحقوقه التي لا يعوضها أي مبلغ من المال وكيف يحصل عليها؟!.. سؤال نوجهه إلي الحكومة ومسئوليها وأصحاب العذاب التي عاشها هؤلاء الضحايا وبكم يقدرون شقاء سنوات عمر ضاعت في الغربة ومشاهد موت لا يمكن أن يعود من رأها إلي حياته الطبيعية بعدها وكم تساوي كل لحظة عذاب وفزع وألم عاشها طفل بريء حتي فاضت روحه إلي بارئها دون مجير؟
من أي مادة صنعت قلوبكم حتي تساومون هؤلاء الضحايا وأياديكم ملوثة بدمائهم؟ ومن الذي منحكم كل هذا الجبروت والتبجح؟.. ولا نملك في النهاية إلا أن نقول: 'حسبنا وحسبهم الله ونعم الوكيل'.