مجاهدون
02-28-2006, 12:07 AM
الدكتور خالص جلبي
أعتبر نفسي أنني ولدت مرتين الأولى بيولوجية والثانية فكرية، فأنا ولدت من رحم أمي بيولوجيا عام 1945م ولكن اكتشافي لعالم اللاعنف تأخر ثلاثين سنة!
الإنسان لا يحتاج أكثر من ساعات لاختراق حدود الجغرافيا ولكن كسر حاجز اللغة يتطلب أعواما، أما اختراق فضاء الثقافة وهضمها والتحول منها وإليها فيتطلب عقوداً.
ولكن القفز فوق حاجز العنف لدخول عالم السلام؛ فتحده عقبات، يشكل كل منها سداً منيعاً، وخنادق سيكولوجية، تطبق على العقل بمسلمات، يصعب الفكاك من قبضتها.
البعض يرى في مفهوم اللاعنف أنه تعطيل لمفهوم الجهاد في الإسلام والجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة؟ وفريق ثان يرى أنه استسلام ذليل وتطويع الإرادة لصالح الخصم.
وفريق ثالث يرى فيها نوعا من التنظير والتقعيد الفلسفي لنغمة السلام العربي الإسرائيلي هذه الأيام، فهي موضة للاستهلاك المؤقت.
في الواقع نحن نخطئ ثلاث مرات لأننا لا نحسن فهم وظيفة وآلية (الجهاد) فالجهاد بمعنى القتال المسلح له (آلية عمل) و(شروط تحقق)؛ فهي أداة العنف، تحتكرها دولة راشدية، وصلت إلى الحكم برضا الناس، تسخرها لمنع الظلم عن الإنسان أينما كان ومهما كان؛ أي دعوة لإقامة حلف عالمي لإنصاف المظلومين، ولو كانوا وثنيين ضد حكام مسلمين ظالمين!
من المهم إذاً أن نعرف أنها ليست (وظيفة فرد) يطلق الرصاص على حاكم يرى أنه لا يقيم حكم الله، وهي الدعوة التي تسلح بها الخوارج فقتلوا أعدل من على ظهرها الإمام على كرم الله وجهه؟ كما أنها ليست (وظيفة حزب) أو جماعة أو طائفة، ترى أنها وسيلة لإقامة حكم الله في الأرض، فهذه المصيدة المشؤومة من الغرام بالسلطة وصفها رسول الله (ص) لأبي ذر الغفاري في كلمات مختصرة: "إنكم ستحرصون على الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة" نحن لا ندرك السيكولوجية العميقة، لتحرير الإنسان، من علاقات القوة، بتبني اللاعنف. وفي تقديري أن القصور العربي هو الذي مهَََد لبزوغ نجمة داوود، وأن السلام العربي العربي أهم من السلام العربي الإسرائيلي، وفي حرب الخليج الأخيرة نسينا إسرائيل.ولو خسف الله الأرض بإسرائيل لبقي المرض العربي الداخلي.
ووجود الخرَاج الصهيوني، يمثل اختلاطاً للمرض العربي الأساسي، مع الأخذ بعين الاعتبار العلاقة الجدلية بين (المرض) و(الاختلاط) فهذه فكرة تأسيسية. بالأصل ولدت في مدينة عجيبة هي (القامشلي) من سوريا، تزدحم بأخلاط شتى، تشكل فسيفساء ساحرة من الأديان والأعراق واللغات واللهجات، وتعلمت من المؤرخ البريطاني (توينبي)، أن هناك بقايا فرقة مسيحية هي النسطورية، مازال أتباعها في الزاوية الشرقية من سوريا، وهم ما كنا نعرفهم بالكلدان، وهكذا نشأت في بيئة ترطن بالعديد من اللغات، ما بين عربي وكردي وأرمني وآشوري وسرياني وتركي وشيشاني، أعيش بين جيران من ست فرق مسيحية على الأقل من كاثوليك وبروتستانت وكلدان وأرمن وأرثوذكس وآشوريين، كما أن جدي كان يسكن في حي اليهود؟
وعائلتي التي نشأت فيها تعيش في بقعة جغرافية تتصل بالعراق وتركيا، فليس بيننا ونصيبين، أقرب مدينة تركية، أكثر من فاصل كيلومتر واحد. وأريد أن أعترف أن هذه التعددية الرائعة كانت بكل أسف شرانق وصدف حلزونية مغلقة على نفسها، فلا يحاور أحد الآخر، ويعتبر من مواضيع (التابو)، التطرق إلى مناقشة المسائل المذهبية أو الدينية، مما يحمل في تضاعيفها خطراً كمونياً للمستقبل؛ فالتعددية رحمة إن انفتحت على بعضها وتحاورت، وهي نقمة إن انزوت وتقوقعت. كانت في الواقع طوائف تنتسب للماضي، أكثر من اتصالها بالمستقبل، من خلال تراكمات ثقافية حملنا أوزارها من آباء خلفوها لنا. كنا نشعر بصراع التيارات الفكرية، ومحاولة إلقاء الشباك على الطلبة، لبناء حلقات من الدراويش وأتباعا من الأحزاب، الذين يفكر عنهم غيرهم بالنيابة، أكثر من بناء العقل النقدي.
كان البحث ملحاحاً على صيد الاتباع.
كان هذا ديدن وخطة وحماس كل الاتجاهات من إسلامية وعلمانية وقومية وشيوعية وناصرية وصوفية.
كنا شباباً صغاراً، لا نلمح تجليات العنف الخطيرة، وجو التعصب والكراهيات المتبادلة، وكانت المساجلات الفكرية تحمل شكلاً ثلاثياً من (التبرير) و(التفنيد المضاد) و(الدفاع) حتى الرمق الأخير، في خندق فكري لا خروج منه.
كل الحقيقة يملكها طرف واحد، ولا يملك الآخر إلا الضلال المبين.
المتدين يرى القومي ملحداً زنديقاً، والقومي يرى المتدين رجعياً، والشيوعي يضحك على الاثنين؛ لأنه يملك (النظرية النهائية) لفهم قوانين التاريخ.
وكل في فلك واحد من الثقافة يسبحون.
في جو من هذا النوع، يبقى الحظ، هو الذي يقرر مصير الأفراد، في أي شبكة يتم اصطيادهم، وبطن أي حوت يلجون، فإما أن يكون من قوم يونس فينجون؛ أو يبقى أحدهم في بطنها إلى يوم يبعثون.
يقول (الغزالي) عن نفسه في كتابه (المنقذ من الضلال) أنه منذ نعومة أظفاره كان يغلي في صدره التعطش إلى إدراك الحقائق، فكان يطلع على كل شيء، ليرى سبب إصرار الملحد، وتعنت الفاسق، وتبحر الفيلسوف، وشطحات الباطني؛ فنذر نفسه كرادار ماسح، لكشف المدارس الفكرية في عصره، بين فرق (المتكلمين) و(الفلاسفة) وطوائف (الباطنية) و(المتصوفة).
أتذكر نفسي وعشقي للمعرفة العلمية، وغرامي بالاطلاع المنوع، الذي مازال لا يعرف الارتواء، فقرأت كماً خيالياً من الكتب والروايات والقصص، وكانت صلاتي خلف الإمام محرضاً لي، أن أنهمك في الاطلاع على القرآن، فشدتني بلاغته، وعميق أسراره، وحكمته البالغة، فبدأت أحفظ فيه. ولم يكن مشروعاً إتمام حفظه، ولكن جاذبيته كانت أقوى، فأتممت دراسته وحفظه في ثماني سنوات مباركات، ثم أضفت إلى ذلك دراسة الشريعة، بجانب دراسة الطب، كي أسير في ضربة واحدة لاكتشاف أوقيانوس الحداثة، وأركيولوجيا التراث.
وهكذا أخذ الإيمان بقاعدته الأخلاقية يعطيني معنى للحياة، ومن هذا المزيج من تعانق العلم والإيمان، كتبت معظم ما كتبت حتى اليوم، ولعل أهمه كتاب كتبته في هذا الموضوع هو الذي حمل عنوان (سيكولوجية العنف واستراتيجية العمل السلمي)، قبل انفجار العنف في سوريا بسنوات طويلة، بل قبل انفجار العنف في كل العالم العربي، الذي يفاجئنا كل يوم بخبر، كما سمعنا في شتاء 2006 عن محاولة نسف آبار النفط في بقيق في السعودية، فهو مسلسل من حلقات يأخذ بعضها برقاب بعض.
وفي عام 1982م تقدمت بكتابي عن (ضرورة النقد الذاتي للحركات الإسلامية) قبل أن يسمع أحد عن أخبار سبتمبر التي شكلت مفصلا في التاريخ العالمي، في محاولة تدارك الوقائع، بتعميم لقاح ضد تشنجات العنف، ونوبات الجنون فيه، ولكن يبدو أن الأمم لا تتعلم إلا كما يقول القرآن (حتى يذوقوا العذاب الأليم).
في نهاية المرحلة الثانوية قبل ما يزيد عن 35 سنة، كنت قد اطلعت على ألوان منوعة من الفكر، واستهوانا الفكر الذي كان شائعاً آنذاك، يحاول تأسيس فكر إسلامي معاصر، ودخول الحداثة بدون أن يدخله. ولكنني اكتشفت أنه يفرض ثالوثاً مقدساً من الإكراهات: اعتبار الديموقراطية هرطقة، والانفتاح على الثقافة العالمية خطراً على العقيدة، بالإضافة إلى الإيمان بسرية العمل، وعدم الوضوح في نقطة العنف.
وهذه النقطة الأخيرة في تقديري لم تحل عقدتها حتى الآن في الفكر الإسلامي المعاصر في معظم شرائحه، ويحمل تهديداً كمونياً للانفجار في المستقبل، ما أعتبره شخصياً خطأًً كروموسومياً، في تكوين جماعات العمل الإسلامي السياسي في إحياء نشط لفكر الخوارج.
وهكذا فالخوارج ينامون مستريحة عظامهم في القبور، قد تم إحياء مذهبهم من جديد بدون عنوانه؟
نحن أمام عمل سري يقوده (إمام مستور) في تنظيم مجهول القيادة، بسبب بسيط هو التعانق المشؤوم والزواج اللاشرعي بين السرية والعنف، فطالما كان الهدف الحكم، وليس (تغيير ما بالنفوس) حسب الوصفة القرآنية، وطالما كان السيف أصدق أنباء من الكتب، فإن الباب مفتوح على مصراعيه لكل الكوارث.
لم يكن أمامي إذا إلا توديع هذا النمط من الثقافة الانغلاقية، التي هي أقرب للعنصرية، بأننا أبناء الله وأحباؤه، والانزواء عن الاستفادة من الفكر العالمي، وكل العطاء الثقافي المعاصر، تحت إشارة استفهام بأثقل من جبل؟
أعتبر نفسي أنني ولدت مرتين الأولى بيولوجية والثانية فكرية، فأنا ولدت من رحم أمي بيولوجيا عام 1945م ولكن اكتشافي لعالم اللاعنف تأخر ثلاثين سنة!
الإنسان لا يحتاج أكثر من ساعات لاختراق حدود الجغرافيا ولكن كسر حاجز اللغة يتطلب أعواما، أما اختراق فضاء الثقافة وهضمها والتحول منها وإليها فيتطلب عقوداً.
ولكن القفز فوق حاجز العنف لدخول عالم السلام؛ فتحده عقبات، يشكل كل منها سداً منيعاً، وخنادق سيكولوجية، تطبق على العقل بمسلمات، يصعب الفكاك من قبضتها.
البعض يرى في مفهوم اللاعنف أنه تعطيل لمفهوم الجهاد في الإسلام والجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة؟ وفريق ثان يرى أنه استسلام ذليل وتطويع الإرادة لصالح الخصم.
وفريق ثالث يرى فيها نوعا من التنظير والتقعيد الفلسفي لنغمة السلام العربي الإسرائيلي هذه الأيام، فهي موضة للاستهلاك المؤقت.
في الواقع نحن نخطئ ثلاث مرات لأننا لا نحسن فهم وظيفة وآلية (الجهاد) فالجهاد بمعنى القتال المسلح له (آلية عمل) و(شروط تحقق)؛ فهي أداة العنف، تحتكرها دولة راشدية، وصلت إلى الحكم برضا الناس، تسخرها لمنع الظلم عن الإنسان أينما كان ومهما كان؛ أي دعوة لإقامة حلف عالمي لإنصاف المظلومين، ولو كانوا وثنيين ضد حكام مسلمين ظالمين!
من المهم إذاً أن نعرف أنها ليست (وظيفة فرد) يطلق الرصاص على حاكم يرى أنه لا يقيم حكم الله، وهي الدعوة التي تسلح بها الخوارج فقتلوا أعدل من على ظهرها الإمام على كرم الله وجهه؟ كما أنها ليست (وظيفة حزب) أو جماعة أو طائفة، ترى أنها وسيلة لإقامة حكم الله في الأرض، فهذه المصيدة المشؤومة من الغرام بالسلطة وصفها رسول الله (ص) لأبي ذر الغفاري في كلمات مختصرة: "إنكم ستحرصون على الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة" نحن لا ندرك السيكولوجية العميقة، لتحرير الإنسان، من علاقات القوة، بتبني اللاعنف. وفي تقديري أن القصور العربي هو الذي مهَََد لبزوغ نجمة داوود، وأن السلام العربي العربي أهم من السلام العربي الإسرائيلي، وفي حرب الخليج الأخيرة نسينا إسرائيل.ولو خسف الله الأرض بإسرائيل لبقي المرض العربي الداخلي.
ووجود الخرَاج الصهيوني، يمثل اختلاطاً للمرض العربي الأساسي، مع الأخذ بعين الاعتبار العلاقة الجدلية بين (المرض) و(الاختلاط) فهذه فكرة تأسيسية. بالأصل ولدت في مدينة عجيبة هي (القامشلي) من سوريا، تزدحم بأخلاط شتى، تشكل فسيفساء ساحرة من الأديان والأعراق واللغات واللهجات، وتعلمت من المؤرخ البريطاني (توينبي)، أن هناك بقايا فرقة مسيحية هي النسطورية، مازال أتباعها في الزاوية الشرقية من سوريا، وهم ما كنا نعرفهم بالكلدان، وهكذا نشأت في بيئة ترطن بالعديد من اللغات، ما بين عربي وكردي وأرمني وآشوري وسرياني وتركي وشيشاني، أعيش بين جيران من ست فرق مسيحية على الأقل من كاثوليك وبروتستانت وكلدان وأرمن وأرثوذكس وآشوريين، كما أن جدي كان يسكن في حي اليهود؟
وعائلتي التي نشأت فيها تعيش في بقعة جغرافية تتصل بالعراق وتركيا، فليس بيننا ونصيبين، أقرب مدينة تركية، أكثر من فاصل كيلومتر واحد. وأريد أن أعترف أن هذه التعددية الرائعة كانت بكل أسف شرانق وصدف حلزونية مغلقة على نفسها، فلا يحاور أحد الآخر، ويعتبر من مواضيع (التابو)، التطرق إلى مناقشة المسائل المذهبية أو الدينية، مما يحمل في تضاعيفها خطراً كمونياً للمستقبل؛ فالتعددية رحمة إن انفتحت على بعضها وتحاورت، وهي نقمة إن انزوت وتقوقعت. كانت في الواقع طوائف تنتسب للماضي، أكثر من اتصالها بالمستقبل، من خلال تراكمات ثقافية حملنا أوزارها من آباء خلفوها لنا. كنا نشعر بصراع التيارات الفكرية، ومحاولة إلقاء الشباك على الطلبة، لبناء حلقات من الدراويش وأتباعا من الأحزاب، الذين يفكر عنهم غيرهم بالنيابة، أكثر من بناء العقل النقدي.
كان البحث ملحاحاً على صيد الاتباع.
كان هذا ديدن وخطة وحماس كل الاتجاهات من إسلامية وعلمانية وقومية وشيوعية وناصرية وصوفية.
كنا شباباً صغاراً، لا نلمح تجليات العنف الخطيرة، وجو التعصب والكراهيات المتبادلة، وكانت المساجلات الفكرية تحمل شكلاً ثلاثياً من (التبرير) و(التفنيد المضاد) و(الدفاع) حتى الرمق الأخير، في خندق فكري لا خروج منه.
كل الحقيقة يملكها طرف واحد، ولا يملك الآخر إلا الضلال المبين.
المتدين يرى القومي ملحداً زنديقاً، والقومي يرى المتدين رجعياً، والشيوعي يضحك على الاثنين؛ لأنه يملك (النظرية النهائية) لفهم قوانين التاريخ.
وكل في فلك واحد من الثقافة يسبحون.
في جو من هذا النوع، يبقى الحظ، هو الذي يقرر مصير الأفراد، في أي شبكة يتم اصطيادهم، وبطن أي حوت يلجون، فإما أن يكون من قوم يونس فينجون؛ أو يبقى أحدهم في بطنها إلى يوم يبعثون.
يقول (الغزالي) عن نفسه في كتابه (المنقذ من الضلال) أنه منذ نعومة أظفاره كان يغلي في صدره التعطش إلى إدراك الحقائق، فكان يطلع على كل شيء، ليرى سبب إصرار الملحد، وتعنت الفاسق، وتبحر الفيلسوف، وشطحات الباطني؛ فنذر نفسه كرادار ماسح، لكشف المدارس الفكرية في عصره، بين فرق (المتكلمين) و(الفلاسفة) وطوائف (الباطنية) و(المتصوفة).
أتذكر نفسي وعشقي للمعرفة العلمية، وغرامي بالاطلاع المنوع، الذي مازال لا يعرف الارتواء، فقرأت كماً خيالياً من الكتب والروايات والقصص، وكانت صلاتي خلف الإمام محرضاً لي، أن أنهمك في الاطلاع على القرآن، فشدتني بلاغته، وعميق أسراره، وحكمته البالغة، فبدأت أحفظ فيه. ولم يكن مشروعاً إتمام حفظه، ولكن جاذبيته كانت أقوى، فأتممت دراسته وحفظه في ثماني سنوات مباركات، ثم أضفت إلى ذلك دراسة الشريعة، بجانب دراسة الطب، كي أسير في ضربة واحدة لاكتشاف أوقيانوس الحداثة، وأركيولوجيا التراث.
وهكذا أخذ الإيمان بقاعدته الأخلاقية يعطيني معنى للحياة، ومن هذا المزيج من تعانق العلم والإيمان، كتبت معظم ما كتبت حتى اليوم، ولعل أهمه كتاب كتبته في هذا الموضوع هو الذي حمل عنوان (سيكولوجية العنف واستراتيجية العمل السلمي)، قبل انفجار العنف في سوريا بسنوات طويلة، بل قبل انفجار العنف في كل العالم العربي، الذي يفاجئنا كل يوم بخبر، كما سمعنا في شتاء 2006 عن محاولة نسف آبار النفط في بقيق في السعودية، فهو مسلسل من حلقات يأخذ بعضها برقاب بعض.
وفي عام 1982م تقدمت بكتابي عن (ضرورة النقد الذاتي للحركات الإسلامية) قبل أن يسمع أحد عن أخبار سبتمبر التي شكلت مفصلا في التاريخ العالمي، في محاولة تدارك الوقائع، بتعميم لقاح ضد تشنجات العنف، ونوبات الجنون فيه، ولكن يبدو أن الأمم لا تتعلم إلا كما يقول القرآن (حتى يذوقوا العذاب الأليم).
في نهاية المرحلة الثانوية قبل ما يزيد عن 35 سنة، كنت قد اطلعت على ألوان منوعة من الفكر، واستهوانا الفكر الذي كان شائعاً آنذاك، يحاول تأسيس فكر إسلامي معاصر، ودخول الحداثة بدون أن يدخله. ولكنني اكتشفت أنه يفرض ثالوثاً مقدساً من الإكراهات: اعتبار الديموقراطية هرطقة، والانفتاح على الثقافة العالمية خطراً على العقيدة، بالإضافة إلى الإيمان بسرية العمل، وعدم الوضوح في نقطة العنف.
وهذه النقطة الأخيرة في تقديري لم تحل عقدتها حتى الآن في الفكر الإسلامي المعاصر في معظم شرائحه، ويحمل تهديداً كمونياً للانفجار في المستقبل، ما أعتبره شخصياً خطأًً كروموسومياً، في تكوين جماعات العمل الإسلامي السياسي في إحياء نشط لفكر الخوارج.
وهكذا فالخوارج ينامون مستريحة عظامهم في القبور، قد تم إحياء مذهبهم من جديد بدون عنوانه؟
نحن أمام عمل سري يقوده (إمام مستور) في تنظيم مجهول القيادة، بسبب بسيط هو التعانق المشؤوم والزواج اللاشرعي بين السرية والعنف، فطالما كان الهدف الحكم، وليس (تغيير ما بالنفوس) حسب الوصفة القرآنية، وطالما كان السيف أصدق أنباء من الكتب، فإن الباب مفتوح على مصراعيه لكل الكوارث.
لم يكن أمامي إذا إلا توديع هذا النمط من الثقافة الانغلاقية، التي هي أقرب للعنصرية، بأننا أبناء الله وأحباؤه، والانزواء عن الاستفادة من الفكر العالمي، وكل العطاء الثقافي المعاصر، تحت إشارة استفهام بأثقل من جبل؟