yasmeen
02-27-2006, 09:19 AM
تحقيق: د . جمال حسين
حين استبشر عشرات الآلاف من المقيمين العراقيين في الكويت ودول الخليج بسقوط النظام، وعلى الأقل فتح أمامهم فرصة رؤية من بقي من أقاربهم وأعزائهم على قيد الحياة وتشمم تراب وطنهم الذي حرموا منه، لم يجدوا أمامهم غير الانتقال الطبيعي من منفذ العبدلي إلى صفوان ومنه إلى البصرة وباقي محافظات الجنوب العراقي التي يتحدر منها أغلبهم.
والأمر يبدو منطقيا حتى من الناحية الجغرافية، فالذي يسكن في الكويت يذهب إلى الناصرية والسماوة والبصرة وغيرها عبر المنفذ البري ومن يسكن سوريا والأردن يزور أهله في الرمادي والموصل عبر تلك المنافذ الموجودة، ولا يمكن أن يحدث العكس.
والعراقي المقيم أو حتى الكويتي الذي لديه أصدقاء في العراق أو تربطه في هذا البلد علاقات نسب أو تجارة أو حتى علاقة ثقافية أو «روحية» ويتمنى رؤية البصرة التي قضى فيها أوقاتا طيبة، وذاك الكويتي الشاب الذي سمع عن أيامها الجميلة وقرر زيارتها لحب المشاهدة والفضول، وأسباب أخرى لا حصر لها، تجعل الزائر لمدن الجنوب العراقي يواجه نقطة حدودية كويتية مرتبة على الطراز العالمي، وأحيانا يبلغ التعامل السلس في العبدلي أن المسافر لا ينزل حتى من سيارته فكل الإجراءات يقوم بها متخصصون على أجهزة الكمبيوتر ولا يتطلب الأمر سوى فتح نافذة السيارة وتسليم الوثائق التي سترد إليك خلال أقل من دقيقة وتبقى محترما داخل سيارتك، محميا من الغبار والأمطار وبعبارات مجاملة أحيانا تشجعك على تكرار هذه الزيارة للمنفذ الحدودي المستقر.
ولكن ما ان يغادر الزائر حدود العبدلي، حتى تهب بوجهه العواصف دفعة واحدة وبطرق وأشكال مختلفة، قد يقرر في تلك اللحظات التي تتجاوز فيها قدماه الحدود العراقية بعدم تكرار هذه التجربة التي مهما قيل عنها وكيف تتداعى البلاغة لوصفها، فلا تعطيها حقها.
لنتتبع خطوات زائر، هو واحد منا وإلينا، للمنفذ العراقي البري الوحيد مع الكويت والخليج ولكم بعد قراءة هذا التحقيق، حرية تكرار المحاولة، آملين خوضها بأقل نسبة من الخسائر والصدمات والروع والفزع .
أيام سقوط النظام المبكرة، كنا مشغولين بقضايا أكبر متتبعين التغييرات السياسية والميدانية من بغداد ولم نفكر أصلا في منافذ حدودية هجرها العاملون فيها كباقي أجهزة النظام، لكننا أدركنا ما الذي حصل فيها حين عدنا الى الكويت بعد ثلاثة أشهر من السقوط ورأينا ان لا منفذ غير العبدلي يسيطر على الوضع في الحدود، بغياب كامل لأي سلطة عراقية. وللدقة كان شبان لم يحلقوا ذقونهم منذ ثلاثة أشهر أيضا ولا يمكن تسميتهم بالملتحين، وبملابس مدنية يوقفون السيارات الذاهبة إلى الكويت ويستفسرون عن سبب الزيارة أو المغادرة ويحملون في جيوبهم أختام المغادرة، وكنا في تلك الأوقات نتجاهلهم بعد أن صرنا جزءا من الفوضى وتعودنا عليها ابتداء من بغداد وانتهاء بصفوان.
بعد ستة اشهر تطور حال صفوان وصار الشبان غير الحليقين يرتدون نصف ملابس عسكرية، أما القميص أو البنطلون بدون أغطية للرأس تميزهم عن سواهم، وأصبح لديهم براميل يضعون عليها الوثائق والجوازات لكي يختموها وليس على ركبهم كما كانوا يفعلون في المرة الأولى.
وبعد فترة تطورت البراميل إلى مناضد خشبية ورحلات مدرسية مسروقة لكي يظهر الكرفان الأول بعد أكثر من عام مع ملابس الشرطي الأول في صفوان. وظهرت النجمة الأولى على كتف أحدهم بعد عام ونصف العام وبدا أن الأمر يتطور أكثر فأكثر.
مرت الأشهر، وتحولت صفوان إلى أكبر منفذ للبضائع والأثاث المستعمل والإطارات القديمة والسيارات التي قضى عليها الدهر وكل ما يحتاجه العراقيون من سلع لم يطلعوا عليها، ولا يحتاجها السوق الكويتي لقدمها وزوال عمرها الافتراضي، وكانت الشاحنات تلقي بها مباشرة على أراضي صفوان ليستلمها تجار وأشباه تجار وسماسرة وأناس عاديون ليعيدوا توزيعها وبيعها في المتاجر والأرصفة في البصرة ومدن الجنوب. وتحول الشارع الذي يبدأ بعد نقطة صفوان الحدودية إلى معرض كبير في الهواء الطلق لكل المكيفات القديمة والدراجات الهوائية والأرائك التي مات منذ سنوات طويلة من صنعها ودواليب وأسرة وطاولات وكل الخيبات الأخرى.
ضبط وربط
الانهمار الكبير للبضائع والسلع، والناس المتلهفون لرؤية وطنهم من الجانب الكويتي، أدى - من الجانب العراقي - إلى ظهور جمهرة يومية غير معروفة المقاصد والنوايا والأهداف: صبيان حفاة ومسوقو معاملات جمركية، باعة ماء، متسولون ومسنون، رجالا ونساء، الجميع يصرخون بك طالبين مساعدتك أو مستفسرين عما تحمل، عشرات وقد يتجاوزون هذا الإحصاء، لا تعرف ايا منهم الرسمي أو الطارئ، الكل يعرف بعضهم البعض وقد يأخذ منك أي من هؤلاء المتجمهرين أمام كرفانات المركز الحدودي لكي ينهي إجراءات سفرك قبل الآخر.
وتماشيا معهم لابد لك من إعطاء وثائقك لأحدهم و إلا سيتركونك مع سواق النقل البري وحمالي البضائع حتى إغلاق المركز الحدودي. وتبين أنه في البلد الذي تسرق فيه السيارات بالثواني وتفجر بالساعات، عليك تسجيل سيارتك ودفع مبلغ تأمينها من الحوادث إجباريا في كل سفرة في إجراء تخلت عنه الدول منذ نصف قرن.
وستزداد حيرتك حين يفتشك مأمور الجمرك ويمنحك ورقة يسمونها «غيت باص» لكي تريها للمشرف الأخير كدليل على أن المسؤول المخول قام بتفتيشك و إلا لم أعطاء «إذن العبور» المذكور، ما أن توقفك في كل متر ونصف المتر مجموعة أخرى لتأمرك بفتح صناديق السيارة لكي يبعثروا حاجياتك ويلعبوا في كمبيوترك: شنو هذا انترنت ! طبعا انت لا تعرف لماذا يسمون «اللاب توب» بالإنترنت، لكنها أفضال جديدة تضاف لهذه الظهيرة البائسة التي ألقت بك في هذا المكان، العجيب، الممعن طرافة ومرارة. ويبدو أن الـ «غيت باص» الممنوح لك من المسؤول المخول لا يعادل شيئا أمام هؤلاء، كما تعادلها ورقة الخمسة آلاف دينار عراقي التي تجعلهم يمسدون على سيارتك آذنين لك بالمرور كما لو كانوا يطبطبون على حمار منهك.
ولكن مهما فعلوا بك في هذه الأمتار التي تأخذ منك الوقت نفسه الذي يوصلك إلى موسكو، فإن ما ينتظرك في الطريق، أقسى وأشد خطورة.
علاسة صفوان
الإذلال والمهانة وهدر الأعصاب الذي سببته لنا معاملة مرور السيارة، جعلنا نقرر تركها والوصول إلى صفوان مشيا على الأقدام كرحالة القرون الوسطى. وبمساعدة زميل من الجريدة أوصلنا إلى النقطة الأخيرة من العبدلي حيث لا يستطيع تجاوزها. ولكن الدهشة عقدت لسانه وعقله لهذا اليوم حين تدافع على سيارته عدد لا يحصى من الصبية البرتقاليين الذين يرتدون زي الزبالين ونحن لا نزال على الأراضي الكويتية، بشكل سرق منا لحظة توديع رومانسية، وبلحظة خاطفة حملوا حقائبنا في عربات نقل الإسمنت في المباني، وحين تلفتنا لم نجد غير هؤلاء الذين سيقررون بعد دقائق مصيرنا، ولأنهم ليسوا حمالين فحسب، بل الذين يقدرون سعرنا لأشخاص بانتظار «مسج» منهم !
بيع المسافرين
هؤلاء وغيرهم في الجمارك والمراكز الحدودية يتفحصون الزائر أو المسافر، وبفطنتهم الحاذقة يقدرون سعره لكي يبيعوه برسالة موبايل إلى من ينتظره في الطريق. والأهم سيعطون لقطاع الطرق المنتشرين في الخرائب والدور المهجورة ودكاكين وهمية نصبت على الطريق أو في مزارع لا تنبت فيها حتى الحشائش الضارة، كل المعلومات عن المسافر: أمتعته، درجة نظره، وزنه، جنسيته، جوازه، ثقله المالي، عدد حقائبه، لون بشرته، أي لهجة ولكنة يردد، وربما أيضا سيقررون من اسمه إن كان سنيا أو شيعيا! وأهم معلومة ينبغي أن تصل من «العلاسة إلى السلابة»: هل يوجد من استلمه قبلهم أو هل ثمة من يستقبله وكم عددهم وهل هم مسلحون وكم عدد السيارات التي ترافقه؟ وإذا وصل «المسج» بأنه وحيد بسيارته وما يحمل في صناديقها وجيوبه، فإنه يعد الصيد الأغلى في هذه الظهيرة.
إبداعات السلابة
البسطات والباعة على الطرق، فيهم من يتولى دور المخبرين للسلابة الذين ينتشرون طوال الطريق الخالي من أي مراقبة إلا سيطرتهم المطلقة عليه، وهو طريق يمتد لأكثر من 20 كيلومترا من الرعب، وخال تماما من أي حياة، وإذا ألقي أمامك بجذع نخلة أو مجموعة من البلوكات الإسمنتية او حفروا لك مطبـا اصطناعيا، فعليك التوقف أو الانحراف الذي سينتهي حتما بماسورة بندقية على عنقك ومجموعة من شتائم وصرخات لا تترك لك مجالا لالتقاط الأنفاس في عملية لا تستغرق أكثر من دقيقتين، لا توجد فيها أي فرصة للنجاة إلا بجلدك في أفضل الأحوال.
وإذا تعذر عليهم إيقافك بواحدة من هذه الوسائل، فهناك الألعاب السينمائية التي يستخدمها اللصوص عادة، وعادة ما يستخدمون سيارات «كابريس» أو «بي أم» المتينة لكي يضايقوك على الطريق ويحاصروك حتى تقف ومن ثم يتولون أمرك.
وأطرف محاولتين للتسليب تعرضنا لهما كانت الأولى بسبب قنينة كولا توقفنا لشرائها من أحد الصبية، الذي ملأ « إغزوز» السيارة بذيل ماعز أو صخلة لكي يخنق الغاز في السيارة بعد عدة كيلومترات لتتوقف اضطراريا، لكن الحظ أسعفنا أنها توقفت عند دورية بريطانية ونبهنا جندي فيها على شعر ذيل الماعز المتدلي من فتحة الإغزوز».
والثانية حين أوقفنا السلابة بأنفسنا لنطلب منهم البنزين، ولشدة ذهولهم بأن شخصا في طريق صحراوي يتعرض لهم بنفسه ولوا هاربين ظنا منهم بأن هذا كمين عملته القوات الأجنبية بمساعدة من منظرنا الذي كان يوحي بأننا منهم.
وفي كل الأحوال، لا توجد نصيحة بعينها يمكن إسداؤها لمن يريد الإفلات من السلب، سوى ألا يثق بأي شخص مهما كان مظهره ومنزلته وألا يتنقل وحده، أما حينما تقرر الفأس وقوعها على الرأس فلا منجى من ذلك سوى الحفاظ على الحياة مهما آلت إليه الخسائر المادية.
مناشدة واستغاثة
وصلتنا شخصيا من مجموعة مقيمين في الكويت نداءات استغاثة محررة ببيانين منفصلين في وقت سابق لعرض هذا الموضوع أمام الرأي العام والمسؤولين العراقيين لاسيما في البصرة لحل هذه المشكلة الكبيرة وإزالة كل الخرائب في طريق صفوان - البصرة، واقترحوا إجراء مسح شامل وصارم على أهالي صفوان ومعرفة المندسين بينهم وأكثرهم عصابات دخيلة على المنطقة قاموا بشراء العقارات واستقروا في هذه البلدة الحدودية للاستمرار في جرائمهم التي تدر على الواحد منهم ألف دولار يوميا حسب تقديراتهم، وكذلك مراقبة الطريق بوضع سيطرات فاعلة من الشرطة والحرس الوطني بالتنسيق مع القوات البريطانية والقبض على أي مجموعة تذرع المنطقة بلا هدف.
ومرة تحدثنا مع موفد للمجلس المحلي في محافظة البصرة وصل خصيصا إلى صفوان لدراسة مثل هذه الشكاوى التي يعرفها ويعاني منها الجميع مثلنا، وكان الشاب الملتحي يستمع منا ويتبادل النظرات مع المسؤولين في صفوان، وبعد أن أنهينا كلامنا، كنا مدركين أنهم كانوا قبلنا يرددون الكلام نفسه، فقد كانت علامات القبول بادية على وجوههم وتداركنا الأمر بالمغادرة، لأننا شعرنا بأننا لم نقل شيئا جديدا عليهم، وحتى لم يكن مفيدا إعادة ذكر ما يعرفه سامعوك.
حين استبشر عشرات الآلاف من المقيمين العراقيين في الكويت ودول الخليج بسقوط النظام، وعلى الأقل فتح أمامهم فرصة رؤية من بقي من أقاربهم وأعزائهم على قيد الحياة وتشمم تراب وطنهم الذي حرموا منه، لم يجدوا أمامهم غير الانتقال الطبيعي من منفذ العبدلي إلى صفوان ومنه إلى البصرة وباقي محافظات الجنوب العراقي التي يتحدر منها أغلبهم.
والأمر يبدو منطقيا حتى من الناحية الجغرافية، فالذي يسكن في الكويت يذهب إلى الناصرية والسماوة والبصرة وغيرها عبر المنفذ البري ومن يسكن سوريا والأردن يزور أهله في الرمادي والموصل عبر تلك المنافذ الموجودة، ولا يمكن أن يحدث العكس.
والعراقي المقيم أو حتى الكويتي الذي لديه أصدقاء في العراق أو تربطه في هذا البلد علاقات نسب أو تجارة أو حتى علاقة ثقافية أو «روحية» ويتمنى رؤية البصرة التي قضى فيها أوقاتا طيبة، وذاك الكويتي الشاب الذي سمع عن أيامها الجميلة وقرر زيارتها لحب المشاهدة والفضول، وأسباب أخرى لا حصر لها، تجعل الزائر لمدن الجنوب العراقي يواجه نقطة حدودية كويتية مرتبة على الطراز العالمي، وأحيانا يبلغ التعامل السلس في العبدلي أن المسافر لا ينزل حتى من سيارته فكل الإجراءات يقوم بها متخصصون على أجهزة الكمبيوتر ولا يتطلب الأمر سوى فتح نافذة السيارة وتسليم الوثائق التي سترد إليك خلال أقل من دقيقة وتبقى محترما داخل سيارتك، محميا من الغبار والأمطار وبعبارات مجاملة أحيانا تشجعك على تكرار هذه الزيارة للمنفذ الحدودي المستقر.
ولكن ما ان يغادر الزائر حدود العبدلي، حتى تهب بوجهه العواصف دفعة واحدة وبطرق وأشكال مختلفة، قد يقرر في تلك اللحظات التي تتجاوز فيها قدماه الحدود العراقية بعدم تكرار هذه التجربة التي مهما قيل عنها وكيف تتداعى البلاغة لوصفها، فلا تعطيها حقها.
لنتتبع خطوات زائر، هو واحد منا وإلينا، للمنفذ العراقي البري الوحيد مع الكويت والخليج ولكم بعد قراءة هذا التحقيق، حرية تكرار المحاولة، آملين خوضها بأقل نسبة من الخسائر والصدمات والروع والفزع .
أيام سقوط النظام المبكرة، كنا مشغولين بقضايا أكبر متتبعين التغييرات السياسية والميدانية من بغداد ولم نفكر أصلا في منافذ حدودية هجرها العاملون فيها كباقي أجهزة النظام، لكننا أدركنا ما الذي حصل فيها حين عدنا الى الكويت بعد ثلاثة أشهر من السقوط ورأينا ان لا منفذ غير العبدلي يسيطر على الوضع في الحدود، بغياب كامل لأي سلطة عراقية. وللدقة كان شبان لم يحلقوا ذقونهم منذ ثلاثة أشهر أيضا ولا يمكن تسميتهم بالملتحين، وبملابس مدنية يوقفون السيارات الذاهبة إلى الكويت ويستفسرون عن سبب الزيارة أو المغادرة ويحملون في جيوبهم أختام المغادرة، وكنا في تلك الأوقات نتجاهلهم بعد أن صرنا جزءا من الفوضى وتعودنا عليها ابتداء من بغداد وانتهاء بصفوان.
بعد ستة اشهر تطور حال صفوان وصار الشبان غير الحليقين يرتدون نصف ملابس عسكرية، أما القميص أو البنطلون بدون أغطية للرأس تميزهم عن سواهم، وأصبح لديهم براميل يضعون عليها الوثائق والجوازات لكي يختموها وليس على ركبهم كما كانوا يفعلون في المرة الأولى.
وبعد فترة تطورت البراميل إلى مناضد خشبية ورحلات مدرسية مسروقة لكي يظهر الكرفان الأول بعد أكثر من عام مع ملابس الشرطي الأول في صفوان. وظهرت النجمة الأولى على كتف أحدهم بعد عام ونصف العام وبدا أن الأمر يتطور أكثر فأكثر.
مرت الأشهر، وتحولت صفوان إلى أكبر منفذ للبضائع والأثاث المستعمل والإطارات القديمة والسيارات التي قضى عليها الدهر وكل ما يحتاجه العراقيون من سلع لم يطلعوا عليها، ولا يحتاجها السوق الكويتي لقدمها وزوال عمرها الافتراضي، وكانت الشاحنات تلقي بها مباشرة على أراضي صفوان ليستلمها تجار وأشباه تجار وسماسرة وأناس عاديون ليعيدوا توزيعها وبيعها في المتاجر والأرصفة في البصرة ومدن الجنوب. وتحول الشارع الذي يبدأ بعد نقطة صفوان الحدودية إلى معرض كبير في الهواء الطلق لكل المكيفات القديمة والدراجات الهوائية والأرائك التي مات منذ سنوات طويلة من صنعها ودواليب وأسرة وطاولات وكل الخيبات الأخرى.
ضبط وربط
الانهمار الكبير للبضائع والسلع، والناس المتلهفون لرؤية وطنهم من الجانب الكويتي، أدى - من الجانب العراقي - إلى ظهور جمهرة يومية غير معروفة المقاصد والنوايا والأهداف: صبيان حفاة ومسوقو معاملات جمركية، باعة ماء، متسولون ومسنون، رجالا ونساء، الجميع يصرخون بك طالبين مساعدتك أو مستفسرين عما تحمل، عشرات وقد يتجاوزون هذا الإحصاء، لا تعرف ايا منهم الرسمي أو الطارئ، الكل يعرف بعضهم البعض وقد يأخذ منك أي من هؤلاء المتجمهرين أمام كرفانات المركز الحدودي لكي ينهي إجراءات سفرك قبل الآخر.
وتماشيا معهم لابد لك من إعطاء وثائقك لأحدهم و إلا سيتركونك مع سواق النقل البري وحمالي البضائع حتى إغلاق المركز الحدودي. وتبين أنه في البلد الذي تسرق فيه السيارات بالثواني وتفجر بالساعات، عليك تسجيل سيارتك ودفع مبلغ تأمينها من الحوادث إجباريا في كل سفرة في إجراء تخلت عنه الدول منذ نصف قرن.
وستزداد حيرتك حين يفتشك مأمور الجمرك ويمنحك ورقة يسمونها «غيت باص» لكي تريها للمشرف الأخير كدليل على أن المسؤول المخول قام بتفتيشك و إلا لم أعطاء «إذن العبور» المذكور، ما أن توقفك في كل متر ونصف المتر مجموعة أخرى لتأمرك بفتح صناديق السيارة لكي يبعثروا حاجياتك ويلعبوا في كمبيوترك: شنو هذا انترنت ! طبعا انت لا تعرف لماذا يسمون «اللاب توب» بالإنترنت، لكنها أفضال جديدة تضاف لهذه الظهيرة البائسة التي ألقت بك في هذا المكان، العجيب، الممعن طرافة ومرارة. ويبدو أن الـ «غيت باص» الممنوح لك من المسؤول المخول لا يعادل شيئا أمام هؤلاء، كما تعادلها ورقة الخمسة آلاف دينار عراقي التي تجعلهم يمسدون على سيارتك آذنين لك بالمرور كما لو كانوا يطبطبون على حمار منهك.
ولكن مهما فعلوا بك في هذه الأمتار التي تأخذ منك الوقت نفسه الذي يوصلك إلى موسكو، فإن ما ينتظرك في الطريق، أقسى وأشد خطورة.
علاسة صفوان
الإذلال والمهانة وهدر الأعصاب الذي سببته لنا معاملة مرور السيارة، جعلنا نقرر تركها والوصول إلى صفوان مشيا على الأقدام كرحالة القرون الوسطى. وبمساعدة زميل من الجريدة أوصلنا إلى النقطة الأخيرة من العبدلي حيث لا يستطيع تجاوزها. ولكن الدهشة عقدت لسانه وعقله لهذا اليوم حين تدافع على سيارته عدد لا يحصى من الصبية البرتقاليين الذين يرتدون زي الزبالين ونحن لا نزال على الأراضي الكويتية، بشكل سرق منا لحظة توديع رومانسية، وبلحظة خاطفة حملوا حقائبنا في عربات نقل الإسمنت في المباني، وحين تلفتنا لم نجد غير هؤلاء الذين سيقررون بعد دقائق مصيرنا، ولأنهم ليسوا حمالين فحسب، بل الذين يقدرون سعرنا لأشخاص بانتظار «مسج» منهم !
بيع المسافرين
هؤلاء وغيرهم في الجمارك والمراكز الحدودية يتفحصون الزائر أو المسافر، وبفطنتهم الحاذقة يقدرون سعره لكي يبيعوه برسالة موبايل إلى من ينتظره في الطريق. والأهم سيعطون لقطاع الطرق المنتشرين في الخرائب والدور المهجورة ودكاكين وهمية نصبت على الطريق أو في مزارع لا تنبت فيها حتى الحشائش الضارة، كل المعلومات عن المسافر: أمتعته، درجة نظره، وزنه، جنسيته، جوازه، ثقله المالي، عدد حقائبه، لون بشرته، أي لهجة ولكنة يردد، وربما أيضا سيقررون من اسمه إن كان سنيا أو شيعيا! وأهم معلومة ينبغي أن تصل من «العلاسة إلى السلابة»: هل يوجد من استلمه قبلهم أو هل ثمة من يستقبله وكم عددهم وهل هم مسلحون وكم عدد السيارات التي ترافقه؟ وإذا وصل «المسج» بأنه وحيد بسيارته وما يحمل في صناديقها وجيوبه، فإنه يعد الصيد الأغلى في هذه الظهيرة.
إبداعات السلابة
البسطات والباعة على الطرق، فيهم من يتولى دور المخبرين للسلابة الذين ينتشرون طوال الطريق الخالي من أي مراقبة إلا سيطرتهم المطلقة عليه، وهو طريق يمتد لأكثر من 20 كيلومترا من الرعب، وخال تماما من أي حياة، وإذا ألقي أمامك بجذع نخلة أو مجموعة من البلوكات الإسمنتية او حفروا لك مطبـا اصطناعيا، فعليك التوقف أو الانحراف الذي سينتهي حتما بماسورة بندقية على عنقك ومجموعة من شتائم وصرخات لا تترك لك مجالا لالتقاط الأنفاس في عملية لا تستغرق أكثر من دقيقتين، لا توجد فيها أي فرصة للنجاة إلا بجلدك في أفضل الأحوال.
وإذا تعذر عليهم إيقافك بواحدة من هذه الوسائل، فهناك الألعاب السينمائية التي يستخدمها اللصوص عادة، وعادة ما يستخدمون سيارات «كابريس» أو «بي أم» المتينة لكي يضايقوك على الطريق ويحاصروك حتى تقف ومن ثم يتولون أمرك.
وأطرف محاولتين للتسليب تعرضنا لهما كانت الأولى بسبب قنينة كولا توقفنا لشرائها من أحد الصبية، الذي ملأ « إغزوز» السيارة بذيل ماعز أو صخلة لكي يخنق الغاز في السيارة بعد عدة كيلومترات لتتوقف اضطراريا، لكن الحظ أسعفنا أنها توقفت عند دورية بريطانية ونبهنا جندي فيها على شعر ذيل الماعز المتدلي من فتحة الإغزوز».
والثانية حين أوقفنا السلابة بأنفسنا لنطلب منهم البنزين، ولشدة ذهولهم بأن شخصا في طريق صحراوي يتعرض لهم بنفسه ولوا هاربين ظنا منهم بأن هذا كمين عملته القوات الأجنبية بمساعدة من منظرنا الذي كان يوحي بأننا منهم.
وفي كل الأحوال، لا توجد نصيحة بعينها يمكن إسداؤها لمن يريد الإفلات من السلب، سوى ألا يثق بأي شخص مهما كان مظهره ومنزلته وألا يتنقل وحده، أما حينما تقرر الفأس وقوعها على الرأس فلا منجى من ذلك سوى الحفاظ على الحياة مهما آلت إليه الخسائر المادية.
مناشدة واستغاثة
وصلتنا شخصيا من مجموعة مقيمين في الكويت نداءات استغاثة محررة ببيانين منفصلين في وقت سابق لعرض هذا الموضوع أمام الرأي العام والمسؤولين العراقيين لاسيما في البصرة لحل هذه المشكلة الكبيرة وإزالة كل الخرائب في طريق صفوان - البصرة، واقترحوا إجراء مسح شامل وصارم على أهالي صفوان ومعرفة المندسين بينهم وأكثرهم عصابات دخيلة على المنطقة قاموا بشراء العقارات واستقروا في هذه البلدة الحدودية للاستمرار في جرائمهم التي تدر على الواحد منهم ألف دولار يوميا حسب تقديراتهم، وكذلك مراقبة الطريق بوضع سيطرات فاعلة من الشرطة والحرس الوطني بالتنسيق مع القوات البريطانية والقبض على أي مجموعة تذرع المنطقة بلا هدف.
ومرة تحدثنا مع موفد للمجلس المحلي في محافظة البصرة وصل خصيصا إلى صفوان لدراسة مثل هذه الشكاوى التي يعرفها ويعاني منها الجميع مثلنا، وكان الشاب الملتحي يستمع منا ويتبادل النظرات مع المسؤولين في صفوان، وبعد أن أنهينا كلامنا، كنا مدركين أنهم كانوا قبلنا يرددون الكلام نفسه، فقد كانت علامات القبول بادية على وجوههم وتداركنا الأمر بالمغادرة، لأننا شعرنا بأننا لم نقل شيئا جديدا عليهم، وحتى لم يكن مفيدا إعادة ذكر ما يعرفه سامعوك.