هاشم
02-24-2006, 09:08 AM
نزعة الفخر والتعبير عن الذات والوجود
معتصم زكي السنوي - بغداد
قَيلَ بدُئ الشعر بملك وختم بملك أي بأمرئ القيس وأبي فراس . وكان المتنبي يشهد لهُ بالتقدم ويتحامى جانبه ولا يجترئ على مجاراته، وإنما لم يمدحُه بل مدح دونه من آل حمدان أجلالاً لمقامه. وكان سيف الدولة يعجب جداً بمحاسن أبي فراس ويميزُه بالأكرام على سائر قومهِ ويستصحبه في غزواتهِ ، ويستخلفه في أعمالهِ.
نشأته وبدايته
نشأ أبو فراس(*) يتيماً في بلاط سيف الدولة تتعهده والدته، ويعطف عليه ابن عمه ويخرِّجه على فنون الأدب والقتال والفروسية . ولعلَّ نشأته يتيماً في كنف والدة واجفة تنظر إلى الحياة بتشأوم وترُّدد وخوف، أثر في عَصَبه ، وطبعه بتلك الوحدانية التي لا نلبث ان نستشفُّ عبرها ظلالاً وملامح قريبة إلى ما ألفنا مشاهدته في نفوس النساء. إلا أن معاشرته لابن عمه بين صليل السيوف وقرعها أورى في نفسيته الرقيقة السريعة العطب، عَصَباً فروسيّاً ، تطعمّت به طفولتُه ، حتى لبثنا نشهد في شعره ملحمة الأبطال وعتوَّهم ، عاطفة البراءة التي تقربُ إلى عواطف الأطفال . ولقد ظهر ذلك في شعره عامة ، ورومياته خاصة. أما فخره فقد حفل بالدفاع عن النفس ودفع الريبة والذلَّ، وتسويغ الأسر، وما إلى ذلك من معان كانت ضرورية بالنسبة للشاعر الفارس . وهو في ذلك، أشبه بجريح يتنازع ويعاني الأحتضار ،لكنه لا يبرح يُعولُ ويصيح ويهمُّ بالقتال . وفي ذهوله وتنازعه ووحشته عبر السجن، تشرق في ذاكرته البعيدة، صورة والدته العجوز في منبج، وقد تجعَّدت أساريرها وأعتراها الهمُّ واليأس، فيشفق لعذابها الذي لا جريرة لها فيه، ويبثُ لوعتَه بأنغام كثيرة الوجد والحزن. ولا بدع ، فإن والدته تمثل له ، وهو في الأسر ، الحنان البعيد الذي نّعُم به، والوجه الوفيّ الأمين الذي لم ينسه، ويخادعْه أو يجفه، بعد أن ابتلاه الأسر. وهكذا ، فأن قيثارة نفسه كانت تضرب على وتر ملحميٍ، تنبعث من ورائه أنغام موحشة قاتمة، موجعة. أما فخره بالذات وهو الموضوع الذي نجتزيء دراسته من دون سائر مواضيع شعره ،فقد ظهر حيناً في فخر مباشر صريح ، وحيناً آخر في فخر تسويغي، يبدو فيه الشاعر جريحاً حاني الرأس بالرغم من عتوِّه وعنجهيته .
الفخر المباشر
هذا النوع من الفخر ، قاله غالباً ، قبل أسره ، وفيه كثير من معاني الفخر القديم كعزَّة الجار واقتحام الحروب والفتك بالإعداد ، مما يذكرنا ، بالفرزدق وعمرو بن كلثوم ، وسائر شعراء الفخر التقليدي . ولعل أشهر قصيدة في هذا النوع من الفخر هي البائية التي أستهلهَّا بقوله :
ألم تَرَنا أعزَّالناس جاراًط
وأَمرعُهم وأَمنعُهم جَنابا
لنا الجبَلُ المطلُّ على نزارٍ
حللنا السهلَ فيه والهِضابا
ولقد وفق الشاعر في هذه القصيدة إلى إثارة الحماسة بفضيلة الوزن والقافية ، وما فيهما من توقيع ثوري . إلا أن أبا فراس يكاد لا يعرف التعقيد النفسي في فخره ، لذلك نرى أن وزن قصيدته ، ينفجر كما تنفجر نفسه ، ونرى أن الشاعر يعتمد في موسيقاه الشعرية على النغم الواحد الصريح الذي يهدر هدراً أو يقرع قرعاً ، من دون تلك الأنغام الخفية الحسنة التوقيع التي نشهدها في فخر المتنبي ، وفي شعر أبي تمام والبحتري. ذلك أن أبا فراس يعبر عما يعانيه ببراءة وعذوبة ، فيبقى الأنفعال في شعره ، كما بدا في نفسه ، شديد الوطأة لم تَغْشَه المحسَّنات الداخلية ، ولم يَفْتُنه بالأساليب البديعة . لهذا يخيل إلينا أن شعر أبي فراس ، في الفخر يقرب إلى شعر عمر بن كلثوم بحدَّة العاطفة وصدق الإنفعال ، والأبتعاد عن الصقل والكد . فهو يقول :
ولما ثارَ سيف الدين ثرنا
كما هيجت آساداً غِضابا
أسنّته إذا لاقى طِعاناً
صوارُمه إذا لاقى ضرابا
ولما أشتدت الهيجاءُ كنا
أشدّ مخالباً، واحدَّ نابا
فلمَّا أيقنوا لا غياثٌ
دعوُه للمعونة فأستَجابا
ديارهم انتزعناها أقتساراً
وأرضهم أغتصبناها أغتصاباً
ولو شئنا حميناها البوادي
كما تحمي أسُود الغاب غابا
أنت ترى أنه لا فضيلة لهذه الأبيات من الناحية الفنية إلا فضيلة الصدق . فالشاعر يعبر عن الأشياء كما تخطر له ، وكما يعانيها في نفسه . فليس ثمة ثقافة أَو تعقيد وجداني يكثِّف أنفعاله ، ويجعله أبعد غوراً نفسياً ، وأوغل في ضمير الأشياء مما نشهده في شعره . لهذا ، يخيل إلينا أن معاني أبي فراس في هذا النوع من الفخر تقرب من الأنفعال البدائي ، فهو يغتبط بشعوره عندما انتصر على أعدائه ، وهذه الغبطة لا يشوبها كدّرٌ ، ولا ريبة .
الفخر الوجداني - الروميات
لا نكاد نشهد في الروميات قصيدة تختص بالفخر من دون سواها ، وإنما هنالك قصائد تمتزج بين العتاب والأستعطاف والفخر . ولقد تعددت هذه القصائد لأن أَسر الشاعر قد طال، وتعددت كتبه إلى أبن عمه ، في طلب الفدية . ونرى الشاعر يحاول أن يوفِّق في هذه القصائد بين البؤس الذي يعانيه، والألحاح بطلب الفدية ، غير متخلّ ٍ في الآن ذاته عن عصبه الملحمي الذي يذكرنا أحياناً بالمتنبي . اذ يقول في إحدى قصائده :
دعوتكَ للجَفن القريح المسهّدِ
لديّ وللنَّوم القليلِ المشرَّدِ
وما ذاكَ بخلاً بالحياة وإنها
لأولُ مبذولٍ لأولِ مجتدي
ولكنني أختار موت بني أَبي
على سَروات الخيلِ غيرَ موسَّدِ
لقد أستهل الشاعر بالأستعطاف والشكوى، وأنثنى من ذلك إلى الفخر بأجداده . فهو لا يريد أن يموت حتف أَنفه ، بل في الحروب والكفاح . ولا تعّتم أن تعصف في الشاعر حمية الأباء والفروسية ، فيتحوّل عن المواربة والأستعـــطاف ، ويتظاهر بقيمته أمام أبن عمه :
فإن تفتدُوني تفتدوا لُعلا كُم
فتى غيرَ مردودِ اللسان ولا اليدِ
يدافع عن أَعرِاضكُم بلسانهِ
ويضرُب عنكم بالحسام المهنّدِ
وقد يبلغ الفخر إلى صفاء الشعر والوجدانية إذ يقول :
متى تنجب الأيام مثلي لكم فتى
طويل نجاد السيف رحبَ المقلدِ
متى تنجب الأيام مثلي لكم فتى
شديداً على الأعداء غيرَ ملهَّدِ
فالشاعر ما برح يفتخر ، لكننا نشعر ونستشف وراء فخره حشرجة القنوط، وقد تقارب بهذه الفلذات من من عنترة. فقومه لا يعرفون قدره ولا يعترفون له بجميله . ومهما يكن فإن الشاعر لا ينفك يتبرَّر في تلك القصائد بأنه قَاتلَ ، لكنه لم يدرك أن الدهر كان في عداد أعدائه :
ولم أدر أن الدهر في عَدد العدا
وأن المنايا السود يرمين عن يدِ
إلاّ أن السويداء تستبد بالشاعر فيعنو لها ، ويعترف بيأسه وجرحه ، مخالفاً بذلك المتنبي الذي لم يكن إلا ليزداد عتوَّاً تحت وطأة المصائب. ذلك أن أبا فراس كان أسيراً لا ينفك يواجه نفسه وهمومه ، يمضغَّها ويشقى بها، بينما كان المتنبي يشغل عن خيبته بجلبه نفسه ، وجَلَبَة الحياة من حواليه :
مصابي جليل والعزاءُ جميلُ
وظني بأن الله سوف يديلُ
جراح تحاماها الأساة مخافةً
وسقمان : باد منهما ودخيلُ
وأسْرٌ أُقاسيه وليل نجومُه
أرى كل شيء غيرهنَّ يزولُ
تطولُ به الساعاتُ وهي قصيرة
وفي كل هْرٍ لا يسرُّك طولُ
فأين هذه الوحشة وهذا الإنكسار اللذان يعبر عنهما الشاعر من عنجهية المتنبي وعتوِّه ؟؟ لا شك أن شعر هذا الأخير كان أشد كثافة في الأسلوب الفني وأكثر تعقيداً وتقميصاً من الناحية النفسية ، إلا أن أبا فراس كان أكثر تأثيراً في النفس ، فالمتنبي يمثل شخصاً بعيداً عنا ، ملامحه غير ملامحنا ، وبطولاته غير بطولاتنا، ودعوته غير دعوتنا . أما أبو فراس فأنه يمثل أنسحاق الإنسان ومعاناته لمصيره . أنه يؤنسنا ، ويقترب إلينا في ضعفه وأنسحاقه، بينما يبتعد المتنبي عنا في جبروته ونقمته . إلا أن الشاعر لا يعتم أن ينهض في نهاية القصيدة من وهدة اليأس فيقول :
لقيت نجوم الليل وهي صوارمِ
وخضت سواد الليل وهو خيولُ
ولم أرع للنفس الكريمة خلةً
عشية لم يعطف علي خليلُ
ولكن لقيت الموت حتى تركتها
وفيها وفي حدِّ الحسام ، فلولُ
ومن لم يوقِّ الله فهو ممزق
ومن لم يعزِّ اللهُ فهو ذليلُ
ومن لم يرده الله في الأمر كلهِّ
فليس لمخلوقٍ إليه سبيلُ
هذه الأبيات تظهر تلهّج الشاعر وتنازعه الدائم بين الأباء والذل ، بين اليأس والأمل ، بين الأعتراف والتسويغ. ولقد شخص فيها الموت والخيول والصوارم والله والقدر ، وهذه الألفاظ ليست سوى عناوين للأزمة التي كانت تعقد نفسه. ولا بدع في ذلك ، فالشاعر ليس عالماً يقرر الأشياء وفقاً لسنَّة لا تتغير ، وأنما هو ناقل للحظة النفسية التي يعانها تحت وطأة تجاربه وتقلبات طبعه . فحيناً كان أبو فراس يشعر بذل الأسر وأنسحاق القيد فتهي نفسه وتفيض بالشكوى والأسى . وحيناً آخر كانت تستفيق في نفسه ذكرى أمجاده الماضية وأمجاد أجداده، فينهض من كبوته وتنحفز نفسه من جديد بالأمل ، ويشعر كما لو كان حراً . وهو ، بالرغم من تناقض الأحوال التي يعبر عنها، كان صادقاً ، لأنه يعبر عن حالات وجدانية مختلفة . فها هو يعتو ويتشامخ في القصيدة التالية ممــا يذكرنا بالحالة التـي كـان يعانيهــا فـي بائيتــه قبل الأســر: إن زرتُ خُرسنةً أسيراً
فَلقَد حَللتُ بها أميرا
ولقد رأيت النار تنتهب
المنازل والقُصورا
ولقد رأيت السبي يجلب
نحوَنا حواً وحورا
أن طال ليلي في ذراك
فقد نعمتُ به قصيرا
ولئن لقيت الحزْنَ فيك،
فقد لقيت بك السُرورا
صبراً لعلَّ الله
يفتح هذه فتحاً يسيراً
من كان مثلي لم يَمُت
إلا أسيراً أو أميراً
ليست تحل سراتنا إلا
الصدور أو القبورا
أنت ترى أن الشاعر في أزدحامه بالتعبير عن حماسة لم يكد يُعنى بالعبارة وصقلها ، فأتت كثيرة القلق والأضطراب بالرغم من دلالتها على الحماسة والفخر، من خلال القافية والوزن. فأبو فراس في شعره ليس فناناً بقدر ما هو محام يعنى بالقول المؤثر والحجَّة المقْنعة، من دون التثقيف والتنقيح اللذين هما في أصل التجارب الفنية الخالدة . ولعله من الضروري ، في سبيل تحليق فخره، وتقو يمه من الناحية النفسية والفنية، أن نلمَّ بدراسة نموذج من شعره دراسة وافية.
معتصم زكي السنوي - بغداد
قَيلَ بدُئ الشعر بملك وختم بملك أي بأمرئ القيس وأبي فراس . وكان المتنبي يشهد لهُ بالتقدم ويتحامى جانبه ولا يجترئ على مجاراته، وإنما لم يمدحُه بل مدح دونه من آل حمدان أجلالاً لمقامه. وكان سيف الدولة يعجب جداً بمحاسن أبي فراس ويميزُه بالأكرام على سائر قومهِ ويستصحبه في غزواتهِ ، ويستخلفه في أعمالهِ.
نشأته وبدايته
نشأ أبو فراس(*) يتيماً في بلاط سيف الدولة تتعهده والدته، ويعطف عليه ابن عمه ويخرِّجه على فنون الأدب والقتال والفروسية . ولعلَّ نشأته يتيماً في كنف والدة واجفة تنظر إلى الحياة بتشأوم وترُّدد وخوف، أثر في عَصَبه ، وطبعه بتلك الوحدانية التي لا نلبث ان نستشفُّ عبرها ظلالاً وملامح قريبة إلى ما ألفنا مشاهدته في نفوس النساء. إلا أن معاشرته لابن عمه بين صليل السيوف وقرعها أورى في نفسيته الرقيقة السريعة العطب، عَصَباً فروسيّاً ، تطعمّت به طفولتُه ، حتى لبثنا نشهد في شعره ملحمة الأبطال وعتوَّهم ، عاطفة البراءة التي تقربُ إلى عواطف الأطفال . ولقد ظهر ذلك في شعره عامة ، ورومياته خاصة. أما فخره فقد حفل بالدفاع عن النفس ودفع الريبة والذلَّ، وتسويغ الأسر، وما إلى ذلك من معان كانت ضرورية بالنسبة للشاعر الفارس . وهو في ذلك، أشبه بجريح يتنازع ويعاني الأحتضار ،لكنه لا يبرح يُعولُ ويصيح ويهمُّ بالقتال . وفي ذهوله وتنازعه ووحشته عبر السجن، تشرق في ذاكرته البعيدة، صورة والدته العجوز في منبج، وقد تجعَّدت أساريرها وأعتراها الهمُّ واليأس، فيشفق لعذابها الذي لا جريرة لها فيه، ويبثُ لوعتَه بأنغام كثيرة الوجد والحزن. ولا بدع ، فإن والدته تمثل له ، وهو في الأسر ، الحنان البعيد الذي نّعُم به، والوجه الوفيّ الأمين الذي لم ينسه، ويخادعْه أو يجفه، بعد أن ابتلاه الأسر. وهكذا ، فأن قيثارة نفسه كانت تضرب على وتر ملحميٍ، تنبعث من ورائه أنغام موحشة قاتمة، موجعة. أما فخره بالذات وهو الموضوع الذي نجتزيء دراسته من دون سائر مواضيع شعره ،فقد ظهر حيناً في فخر مباشر صريح ، وحيناً آخر في فخر تسويغي، يبدو فيه الشاعر جريحاً حاني الرأس بالرغم من عتوِّه وعنجهيته .
الفخر المباشر
هذا النوع من الفخر ، قاله غالباً ، قبل أسره ، وفيه كثير من معاني الفخر القديم كعزَّة الجار واقتحام الحروب والفتك بالإعداد ، مما يذكرنا ، بالفرزدق وعمرو بن كلثوم ، وسائر شعراء الفخر التقليدي . ولعل أشهر قصيدة في هذا النوع من الفخر هي البائية التي أستهلهَّا بقوله :
ألم تَرَنا أعزَّالناس جاراًط
وأَمرعُهم وأَمنعُهم جَنابا
لنا الجبَلُ المطلُّ على نزارٍ
حللنا السهلَ فيه والهِضابا
ولقد وفق الشاعر في هذه القصيدة إلى إثارة الحماسة بفضيلة الوزن والقافية ، وما فيهما من توقيع ثوري . إلا أن أبا فراس يكاد لا يعرف التعقيد النفسي في فخره ، لذلك نرى أن وزن قصيدته ، ينفجر كما تنفجر نفسه ، ونرى أن الشاعر يعتمد في موسيقاه الشعرية على النغم الواحد الصريح الذي يهدر هدراً أو يقرع قرعاً ، من دون تلك الأنغام الخفية الحسنة التوقيع التي نشهدها في فخر المتنبي ، وفي شعر أبي تمام والبحتري. ذلك أن أبا فراس يعبر عما يعانيه ببراءة وعذوبة ، فيبقى الأنفعال في شعره ، كما بدا في نفسه ، شديد الوطأة لم تَغْشَه المحسَّنات الداخلية ، ولم يَفْتُنه بالأساليب البديعة . لهذا يخيل إلينا أن شعر أبي فراس ، في الفخر يقرب إلى شعر عمر بن كلثوم بحدَّة العاطفة وصدق الإنفعال ، والأبتعاد عن الصقل والكد . فهو يقول :
ولما ثارَ سيف الدين ثرنا
كما هيجت آساداً غِضابا
أسنّته إذا لاقى طِعاناً
صوارُمه إذا لاقى ضرابا
ولما أشتدت الهيجاءُ كنا
أشدّ مخالباً، واحدَّ نابا
فلمَّا أيقنوا لا غياثٌ
دعوُه للمعونة فأستَجابا
ديارهم انتزعناها أقتساراً
وأرضهم أغتصبناها أغتصاباً
ولو شئنا حميناها البوادي
كما تحمي أسُود الغاب غابا
أنت ترى أنه لا فضيلة لهذه الأبيات من الناحية الفنية إلا فضيلة الصدق . فالشاعر يعبر عن الأشياء كما تخطر له ، وكما يعانيها في نفسه . فليس ثمة ثقافة أَو تعقيد وجداني يكثِّف أنفعاله ، ويجعله أبعد غوراً نفسياً ، وأوغل في ضمير الأشياء مما نشهده في شعره . لهذا ، يخيل إلينا أن معاني أبي فراس في هذا النوع من الفخر تقرب من الأنفعال البدائي ، فهو يغتبط بشعوره عندما انتصر على أعدائه ، وهذه الغبطة لا يشوبها كدّرٌ ، ولا ريبة .
الفخر الوجداني - الروميات
لا نكاد نشهد في الروميات قصيدة تختص بالفخر من دون سواها ، وإنما هنالك قصائد تمتزج بين العتاب والأستعطاف والفخر . ولقد تعددت هذه القصائد لأن أَسر الشاعر قد طال، وتعددت كتبه إلى أبن عمه ، في طلب الفدية . ونرى الشاعر يحاول أن يوفِّق في هذه القصائد بين البؤس الذي يعانيه، والألحاح بطلب الفدية ، غير متخلّ ٍ في الآن ذاته عن عصبه الملحمي الذي يذكرنا أحياناً بالمتنبي . اذ يقول في إحدى قصائده :
دعوتكَ للجَفن القريح المسهّدِ
لديّ وللنَّوم القليلِ المشرَّدِ
وما ذاكَ بخلاً بالحياة وإنها
لأولُ مبذولٍ لأولِ مجتدي
ولكنني أختار موت بني أَبي
على سَروات الخيلِ غيرَ موسَّدِ
لقد أستهل الشاعر بالأستعطاف والشكوى، وأنثنى من ذلك إلى الفخر بأجداده . فهو لا يريد أن يموت حتف أَنفه ، بل في الحروب والكفاح . ولا تعّتم أن تعصف في الشاعر حمية الأباء والفروسية ، فيتحوّل عن المواربة والأستعـــطاف ، ويتظاهر بقيمته أمام أبن عمه :
فإن تفتدُوني تفتدوا لُعلا كُم
فتى غيرَ مردودِ اللسان ولا اليدِ
يدافع عن أَعرِاضكُم بلسانهِ
ويضرُب عنكم بالحسام المهنّدِ
وقد يبلغ الفخر إلى صفاء الشعر والوجدانية إذ يقول :
متى تنجب الأيام مثلي لكم فتى
طويل نجاد السيف رحبَ المقلدِ
متى تنجب الأيام مثلي لكم فتى
شديداً على الأعداء غيرَ ملهَّدِ
فالشاعر ما برح يفتخر ، لكننا نشعر ونستشف وراء فخره حشرجة القنوط، وقد تقارب بهذه الفلذات من من عنترة. فقومه لا يعرفون قدره ولا يعترفون له بجميله . ومهما يكن فإن الشاعر لا ينفك يتبرَّر في تلك القصائد بأنه قَاتلَ ، لكنه لم يدرك أن الدهر كان في عداد أعدائه :
ولم أدر أن الدهر في عَدد العدا
وأن المنايا السود يرمين عن يدِ
إلاّ أن السويداء تستبد بالشاعر فيعنو لها ، ويعترف بيأسه وجرحه ، مخالفاً بذلك المتنبي الذي لم يكن إلا ليزداد عتوَّاً تحت وطأة المصائب. ذلك أن أبا فراس كان أسيراً لا ينفك يواجه نفسه وهمومه ، يمضغَّها ويشقى بها، بينما كان المتنبي يشغل عن خيبته بجلبه نفسه ، وجَلَبَة الحياة من حواليه :
مصابي جليل والعزاءُ جميلُ
وظني بأن الله سوف يديلُ
جراح تحاماها الأساة مخافةً
وسقمان : باد منهما ودخيلُ
وأسْرٌ أُقاسيه وليل نجومُه
أرى كل شيء غيرهنَّ يزولُ
تطولُ به الساعاتُ وهي قصيرة
وفي كل هْرٍ لا يسرُّك طولُ
فأين هذه الوحشة وهذا الإنكسار اللذان يعبر عنهما الشاعر من عنجهية المتنبي وعتوِّه ؟؟ لا شك أن شعر هذا الأخير كان أشد كثافة في الأسلوب الفني وأكثر تعقيداً وتقميصاً من الناحية النفسية ، إلا أن أبا فراس كان أكثر تأثيراً في النفس ، فالمتنبي يمثل شخصاً بعيداً عنا ، ملامحه غير ملامحنا ، وبطولاته غير بطولاتنا، ودعوته غير دعوتنا . أما أبو فراس فأنه يمثل أنسحاق الإنسان ومعاناته لمصيره . أنه يؤنسنا ، ويقترب إلينا في ضعفه وأنسحاقه، بينما يبتعد المتنبي عنا في جبروته ونقمته . إلا أن الشاعر لا يعتم أن ينهض في نهاية القصيدة من وهدة اليأس فيقول :
لقيت نجوم الليل وهي صوارمِ
وخضت سواد الليل وهو خيولُ
ولم أرع للنفس الكريمة خلةً
عشية لم يعطف علي خليلُ
ولكن لقيت الموت حتى تركتها
وفيها وفي حدِّ الحسام ، فلولُ
ومن لم يوقِّ الله فهو ممزق
ومن لم يعزِّ اللهُ فهو ذليلُ
ومن لم يرده الله في الأمر كلهِّ
فليس لمخلوقٍ إليه سبيلُ
هذه الأبيات تظهر تلهّج الشاعر وتنازعه الدائم بين الأباء والذل ، بين اليأس والأمل ، بين الأعتراف والتسويغ. ولقد شخص فيها الموت والخيول والصوارم والله والقدر ، وهذه الألفاظ ليست سوى عناوين للأزمة التي كانت تعقد نفسه. ولا بدع في ذلك ، فالشاعر ليس عالماً يقرر الأشياء وفقاً لسنَّة لا تتغير ، وأنما هو ناقل للحظة النفسية التي يعانها تحت وطأة تجاربه وتقلبات طبعه . فحيناً كان أبو فراس يشعر بذل الأسر وأنسحاق القيد فتهي نفسه وتفيض بالشكوى والأسى . وحيناً آخر كانت تستفيق في نفسه ذكرى أمجاده الماضية وأمجاد أجداده، فينهض من كبوته وتنحفز نفسه من جديد بالأمل ، ويشعر كما لو كان حراً . وهو ، بالرغم من تناقض الأحوال التي يعبر عنها، كان صادقاً ، لأنه يعبر عن حالات وجدانية مختلفة . فها هو يعتو ويتشامخ في القصيدة التالية ممــا يذكرنا بالحالة التـي كـان يعانيهــا فـي بائيتــه قبل الأســر: إن زرتُ خُرسنةً أسيراً
فَلقَد حَللتُ بها أميرا
ولقد رأيت النار تنتهب
المنازل والقُصورا
ولقد رأيت السبي يجلب
نحوَنا حواً وحورا
أن طال ليلي في ذراك
فقد نعمتُ به قصيرا
ولئن لقيت الحزْنَ فيك،
فقد لقيت بك السُرورا
صبراً لعلَّ الله
يفتح هذه فتحاً يسيراً
من كان مثلي لم يَمُت
إلا أسيراً أو أميراً
ليست تحل سراتنا إلا
الصدور أو القبورا
أنت ترى أن الشاعر في أزدحامه بالتعبير عن حماسة لم يكد يُعنى بالعبارة وصقلها ، فأتت كثيرة القلق والأضطراب بالرغم من دلالتها على الحماسة والفخر، من خلال القافية والوزن. فأبو فراس في شعره ليس فناناً بقدر ما هو محام يعنى بالقول المؤثر والحجَّة المقْنعة، من دون التثقيف والتنقيح اللذين هما في أصل التجارب الفنية الخالدة . ولعله من الضروري ، في سبيل تحليق فخره، وتقو يمه من الناحية النفسية والفنية، أن نلمَّ بدراسة نموذج من شعره دراسة وافية.