المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أبو فِراس الحَمداني آخر ملوك الشعر العربي



هاشم
02-24-2006, 09:08 AM
نزعة الفخر والتعبير عن الذات والوجود

معتصم زكي السنوي - بغداد



قَيلَ بدُئ الشعر بملك وختم بملك أي بأمرئ القيس وأبي فراس . وكان المتنبي يشهد لهُ بالتقدم ويتحامى جانبه ولا يجترئ على مجاراته، وإنما لم يمدحُه بل مدح دونه من آل حمدان أجلالاً لمقامه. وكان سيف الدولة يعجب جداً بمحاسن أبي فراس ويميزُه بالأكرام على سائر قومهِ ويستصحبه في غزواتهِ ، ويستخلفه في أعمالهِ.

نشأته وبدايته

نشأ أبو فراس(*) يتيماً في بلاط سيف الدولة تتعهده والدته، ويعطف عليه ابن عمه ويخرِّجه على فنون الأدب والقتال والفروسية . ولعلَّ نشأته يتيماً في كنف والدة واجفة تنظر إلى الحياة بتشأوم وترُّدد وخوف، أثر في عَصَبه ، وطبعه بتلك الوحدانية التي لا نلبث ان نستشفُّ عبرها ظلالاً وملامح قريبة إلى ما ألفنا مشاهدته في نفوس النساء. إلا أن معاشرته لابن عمه بين صليل السيوف وقرعها أورى في نفسيته الرقيقة السريعة العطب، عَصَباً فروسيّاً ، تطعمّت به طفولتُه ، حتى لبثنا نشهد في شعره ملحمة الأبطال وعتوَّهم ، عاطفة البراءة التي تقربُ إلى عواطف الأطفال . ولقد ظهر ذلك في شعره عامة ، ورومياته خاصة. أما فخره فقد حفل بالدفاع عن النفس ودفع الريبة والذلَّ، وتسويغ الأسر، وما إلى ذلك من معان كانت ضرورية بالنسبة للشاعر الفارس . وهو في ذلك، أشبه بجريح يتنازع ويعاني الأحتضار ،لكنه لا يبرح يُعولُ ويصيح ويهمُّ بالقتال . وفي ذهوله وتنازعه ووحشته عبر السجن، تشرق في ذاكرته البعيدة، صورة والدته العجوز في منبج، وقد تجعَّدت أساريرها وأعتراها الهمُّ واليأس، فيشفق لعذابها الذي لا جريرة لها فيه، ويبثُ لوعتَه بأنغام كثيرة الوجد والحزن. ولا بدع ، فإن والدته تمثل له ، وهو في الأسر ، الحنان البعيد الذي نّعُم به، والوجه الوفيّ الأمين الذي لم ينسه، ويخادعْه أو يجفه، بعد أن ابتلاه الأسر. وهكذا ، فأن قيثارة نفسه كانت تضرب على وتر ملحميٍ، تنبعث من ورائه أنغام موحشة قاتمة، موجعة. أما فخره بالذات وهو الموضوع الذي نجتزيء دراسته من دون سائر مواضيع شعره ،فقد ظهر حيناً في فخر مباشر صريح ، وحيناً آخر في فخر تسويغي، يبدو فيه الشاعر جريحاً حاني الرأس بالرغم من عتوِّه وعنجهيته .

الفخر المباشر

هذا النوع من الفخر ، قاله غالباً ، قبل أسره ، وفيه كثير من معاني الفخر القديم كعزَّة الجار واقتحام الحروب والفتك بالإعداد ، مما يذكرنا ، بالفرزدق وعمرو بن كلثوم ، وسائر شعراء الفخر التقليدي . ولعل أشهر قصيدة في هذا النوع من الفخر هي البائية التي أستهلهَّا بقوله :

ألم تَرَنا أعزَّالناس جاراًط

وأَمرعُهم وأَمنعُهم جَنابا

لنا الجبَلُ المطلُّ على نزارٍ

حللنا السهلَ فيه والهِضابا

ولقد وفق الشاعر في هذه القصيدة إلى إثارة الحماسة بفضيلة الوزن والقافية ، وما فيهما من توقيع ثوري . إلا أن أبا فراس يكاد لا يعرف التعقيد النفسي في فخره ، لذلك نرى أن وزن قصيدته ، ينفجر كما تنفجر نفسه ، ونرى أن الشاعر يعتمد في موسيقاه الشعرية على النغم الواحد الصريح الذي يهدر هدراً أو يقرع قرعاً ، من دون تلك الأنغام الخفية الحسنة التوقيع التي نشهدها في فخر المتنبي ، وفي شعر أبي تمام والبحتري. ذلك أن أبا فراس يعبر عما يعانيه ببراءة وعذوبة ، فيبقى الأنفعال في شعره ، كما بدا في نفسه ، شديد الوطأة لم تَغْشَه المحسَّنات الداخلية ، ولم يَفْتُنه بالأساليب البديعة . لهذا يخيل إلينا أن شعر أبي فراس ، في الفخر يقرب إلى شعر عمر بن كلثوم بحدَّة العاطفة وصدق الإنفعال ، والأبتعاد عن الصقل والكد . فهو يقول :

ولما ثارَ سيف الدين ثرنا

كما هيجت آساداً غِضابا

أسنّته إذا لاقى طِعاناً

صوارُمه إذا لاقى ضرابا

ولما أشتدت الهيجاءُ كنا

أشدّ مخالباً، واحدَّ نابا

فلمَّا أيقنوا لا غياثٌ

دعوُه للمعونة فأستَجابا

ديارهم انتزعناها أقتساراً

وأرضهم أغتصبناها أغتصاباً

ولو شئنا حميناها البوادي

كما تحمي أسُود الغاب غابا

أنت ترى أنه لا فضيلة لهذه الأبيات من الناحية الفنية إلا فضيلة الصدق . فالشاعر يعبر عن الأشياء كما تخطر له ، وكما يعانيها في نفسه . فليس ثمة ثقافة أَو تعقيد وجداني يكثِّف أنفعاله ، ويجعله أبعد غوراً نفسياً ، وأوغل في ضمير الأشياء مما نشهده في شعره . لهذا ، يخيل إلينا أن معاني أبي فراس في هذا النوع من الفخر تقرب من الأنفعال البدائي ، فهو يغتبط بشعوره عندما انتصر على أعدائه ، وهذه الغبطة لا يشوبها كدّرٌ ، ولا ريبة .



الفخر الوجداني - الروميات

لا نكاد نشهد في الروميات قصيدة تختص بالفخر من دون سواها ، وإنما هنالك قصائد تمتزج بين العتاب والأستعطاف والفخر . ولقد تعددت هذه القصائد لأن أَسر الشاعر قد طال، وتعددت كتبه إلى أبن عمه ، في طلب الفدية . ونرى الشاعر يحاول أن يوفِّق في هذه القصائد بين البؤس الذي يعانيه، والألحاح بطلب الفدية ، غير متخلّ ٍ في الآن ذاته عن عصبه الملحمي الذي يذكرنا أحياناً بالمتنبي . اذ يقول في إحدى قصائده :

دعوتكَ للجَفن القريح المسهّدِ

لديّ وللنَّوم القليلِ المشرَّدِ

وما ذاكَ بخلاً بالحياة وإنها

لأولُ مبذولٍ لأولِ مجتدي

ولكنني أختار موت بني أَبي

على سَروات الخيلِ غيرَ موسَّدِ

لقد أستهل الشاعر بالأستعطاف والشكوى، وأنثنى من ذلك إلى الفخر بأجداده . فهو لا يريد أن يموت حتف أَنفه ، بل في الحروب والكفاح . ولا تعّتم أن تعصف في الشاعر حمية الأباء والفروسية ، فيتحوّل عن المواربة والأستعـــطاف ، ويتظاهر بقيمته أمام أبن عمه :

فإن تفتدُوني تفتدوا لُعلا كُم

فتى غيرَ مردودِ اللسان ولا اليدِ

يدافع عن أَعرِاضكُم بلسانهِ

ويضرُب عنكم بالحسام المهنّدِ

وقد يبلغ الفخر إلى صفاء الشعر والوجدانية إذ يقول :

متى تنجب الأيام مثلي لكم فتى

طويل نجاد السيف رحبَ المقلدِ

متى تنجب الأيام مثلي لكم فتى

شديداً على الأعداء غيرَ ملهَّدِ

فالشاعر ما برح يفتخر ، لكننا نشعر ونستشف وراء فخره حشرجة القنوط، وقد تقارب بهذه الفلذات من من عنترة. فقومه لا يعرفون قدره ولا يعترفون له بجميله . ومهما يكن فإن الشاعر لا ينفك يتبرَّر في تلك القصائد بأنه قَاتلَ ، لكنه لم يدرك أن الدهر كان في عداد أعدائه :

ولم أدر أن الدهر في عَدد العدا

وأن المنايا السود يرمين عن يدِ

إلاّ أن السويداء تستبد بالشاعر فيعنو لها ، ويعترف بيأسه وجرحه ، مخالفاً بذلك المتنبي الذي لم يكن إلا ليزداد عتوَّاً تحت وطأة المصائب. ذلك أن أبا فراس كان أسيراً لا ينفك يواجه نفسه وهمومه ، يمضغَّها ويشقى بها، بينما كان المتنبي يشغل عن خيبته بجلبه نفسه ، وجَلَبَة الحياة من حواليه :

مصابي جليل والعزاءُ جميلُ

وظني بأن الله سوف يديلُ

جراح تحاماها الأساة مخافةً

وسقمان : باد منهما ودخيلُ

وأسْرٌ أُقاسيه وليل نجومُه

أرى كل شيء غيرهنَّ يزولُ

تطولُ به الساعاتُ وهي قصيرة

وفي كل هْرٍ لا يسرُّك طولُ

فأين هذه الوحشة وهذا الإنكسار اللذان يعبر عنهما الشاعر من عنجهية المتنبي وعتوِّه ؟؟ لا شك أن شعر هذا الأخير كان أشد كثافة في الأسلوب الفني وأكثر تعقيداً وتقميصاً من الناحية النفسية ، إلا أن أبا فراس كان أكثر تأثيراً في النفس ، فالمتنبي يمثل شخصاً بعيداً عنا ، ملامحه غير ملامحنا ، وبطولاته غير بطولاتنا، ودعوته غير دعوتنا . أما أبو فراس فأنه يمثل أنسحاق الإنسان ومعاناته لمصيره . أنه يؤنسنا ، ويقترب إلينا في ضعفه وأنسحاقه، بينما يبتعد المتنبي عنا في جبروته ونقمته . إلا أن الشاعر لا يعتم أن ينهض في نهاية القصيدة من وهدة اليأس فيقول :

لقيت نجوم الليل وهي صوارمِ

وخضت سواد الليل وهو خيولُ

ولم أرع للنفس الكريمة خلةً

عشية لم يعطف علي خليلُ

ولكن لقيت الموت حتى تركتها

وفيها وفي حدِّ الحسام ، فلولُ

ومن لم يوقِّ الله فهو ممزق

ومن لم يعزِّ اللهُ فهو ذليلُ

ومن لم يرده الله في الأمر كلهِّ

فليس لمخلوقٍ إليه سبيلُ

هذه الأبيات تظهر تلهّج الشاعر وتنازعه الدائم بين الأباء والذل ، بين اليأس والأمل ، بين الأعتراف والتسويغ. ولقد شخص فيها الموت والخيول والصوارم والله والقدر ، وهذه الألفاظ ليست سوى عناوين للأزمة التي كانت تعقد نفسه. ولا بدع في ذلك ، فالشاعر ليس عالماً يقرر الأشياء وفقاً لسنَّة لا تتغير ، وأنما هو ناقل للحظة النفسية التي يعانها تحت وطأة تجاربه وتقلبات طبعه . فحيناً كان أبو فراس يشعر بذل الأسر وأنسحاق القيد فتهي نفسه وتفيض بالشكوى والأسى . وحيناً آخر كانت تستفيق في نفسه ذكرى أمجاده الماضية وأمجاد أجداده، فينهض من كبوته وتنحفز نفسه من جديد بالأمل ، ويشعر كما لو كان حراً . وهو ، بالرغم من تناقض الأحوال التي يعبر عنها، كان صادقاً ، لأنه يعبر عن حالات وجدانية مختلفة . فها هو يعتو ويتشامخ في القصيدة التالية ممــا يذكرنا بالحالة التـي كـان يعانيهــا فـي بائيتــه قبل الأســر: إن زرتُ خُرسنةً أسيراً

فَلقَد حَللتُ بها أميرا

ولقد رأيت النار تنتهب

المنازل والقُصورا

ولقد رأيت السبي يجلب

نحوَنا حواً وحورا

أن طال ليلي في ذراك

فقد نعمتُ به قصيرا

ولئن لقيت الحزْنَ فيك،

فقد لقيت بك السُرورا

صبراً لعلَّ الله

يفتح هذه فتحاً يسيراً

من كان مثلي لم يَمُت

إلا أسيراً أو أميراً

ليست تحل سراتنا إلا

الصدور أو القبورا

أنت ترى أن الشاعر في أزدحامه بالتعبير عن حماسة لم يكد يُعنى بالعبارة وصقلها ، فأتت كثيرة القلق والأضطراب بالرغم من دلالتها على الحماسة والفخر، من خلال القافية والوزن. فأبو فراس في شعره ليس فناناً بقدر ما هو محام يعنى بالقول المؤثر والحجَّة المقْنعة، من دون التثقيف والتنقيح اللذين هما في أصل التجارب الفنية الخالدة . ولعله من الضروري ، في سبيل تحليق فخره، وتقو يمه من الناحية النفسية والفنية، أن نلمَّ بدراسة نموذج من شعره دراسة وافية.

هاشم
02-24-2006, 09:10 AM
الرائية




أُسر أبو فراس عند الروم كما ذكرنا فيما كان عائداً من إحدى رحلات الصيد . ولما تعذرت مفاداته ، طفق ينظم القصائد التي يعبِّر فيها عن ألم الأسر ، متبرئاً من الذل ، ذاكراً دفاع صحبه عنه ودفاعه عن نفسه ، منيطاً أَسره بحكم من أحكام القدر الظالمة . وفي ما يلي قصيدة رائيَّة ، تصدى فيها لهذا الواقع ، واصفاً شجاعته ، ومنَّة الروم عليه ، لأنهم لم ينتزعوا ثيابه عنه ، كما أنه يذكر تناسي أهله ، متشابهاً بالبدر الذي لا يفتقد إلا فيما تدلهمُّ ظلمة الليل . بعد هذا يعود الشاعر فيفتخر ببني قومه ، وأنه لا توسط بينهم، فإما أن يكونوا في العلياء، وإما أن يكونوا في القبر. وفي النهاية يدعي أنهم أعلى ذوي العُلي، وأّعظم من سعى على التراب.

ترمي هذه القصيدة إلى مرام متعددة ، ففي مطلعها تغلب السيرة الشخصية ، إذ يلم الشاعر بكيفية أسره فيقول :

أسرْتُ ، وما صحبْي بعزْلِ لدى الوَغىَ

ولا فَرَسي مهْرٌ، ولا ربُّه غمر

ولكن متى حمَّ القضاء على أمرئٍ

فليس له برِّ يقيه ولا بحْرُ

في هذه الأبيات تظهر نفسيّة أبي التي تكاد لا تهي وتضعف قليلاً ، حتى يعود الشاعر فيشرئب من جديد، متطاولاً متشارفاً بنفسه ، ينظر إلى الذروة ، بالرغم من أنه يُقع في حضيض البؤس والذلِّ. ونراه في البيت الثاني يحاول أن يرفع مسؤولية الأسر عن كاهله ، وينيطها بالقدر . وهذا الأمر يبدو طبيعياً في ظاهره ، لكننا إذ نتقصاه يتحقق لنا أنه يشتمل على بعض المضاعفات والتعقيد . ذلك أن الشاعر . عانى كثيراً الذل خلال أسره فلم تطق نفسه وطأته، وحاولت أن تتحرر منه بهذا التسويغ، وهذا النوع من التعليل النفسي الذي يقوم على فضيلة المنطق المعكوس . فالشاعر يؤمن إيماناً راغماً ، ويسعى لإكتشاف الأسباب التي تحققه وتبرره. وشعر أبي فراس من هذا القبيل لا يعرف المعاني والصور المظلمة، التي تخطف بلحظة من لحظات الحدس في نفس الشاعر، بل ينقل ما يخطر له من معان ، هي ، غالباً ، نتائج واضحة لأسباب بعيدة غامضة . ومهما يكن فأن تعليل أبي فراس ، عبر هذين البيتين ، يقترب غاية الأقتراب إلى التعليل الشعبي، الذي لا يشتمل على كثير من التوغل في اكتشاف الحقائق النفسية البعيدة الأغوار . فأي الناس من عامة القوم ، لا يدعي أن المصيبة التي ألمت به ، هي حكم من أحكام القدر .



صراع بين العبودية والحرية

بعد هذين البيتين ،ينثني الشاعر لذكر ما جرى له وصحبه؛ عندما غدر بهم الروم فيقول :

وقال أصيحابي : الفرارُ أَم لردى

فقلت ، هما أمران ، أحلاهما مرُّ

ولكني أمضي، لما لا يُعيبني

وحسبك من أمرين، خيرُهما الأسرُ

ففي هذين البيتين يتحوَّل الشاعر عن التأمل والأعتراف بالواقع الوجداني ، إلى ذكر الحوادث التي ينعم فيها بالتمرَّد والتهُّرب من النفس. لقد كان أسره محتماً عليه ، لا مفر منه كما أسلفنا، وذلك أنه أقتحم المعركة وتحتم عليه أمران ، فإما أن يهرب وينجو بنفسه، وإما أن يقتحم القتال ويؤسر. ولقد فضل الأسر على الهرب . فالأسر يدلُّ على أن الفارس ليس جباناً ، بل على العكس ، عندما تُحيق به المخاطر فهو يقتحمها ، بالرغم من هولها . ففي الأسر دلالة على الأستبسال واللارجوع . وهكذا ، فإن تفضيل أبي فراس للأسر على الهرب ، كان وجهاً من وجُوه البطولة الفروسية التي تلازم نفسيته بتأثير العصر. الواقع أن قيمة الفضائل والأخلاق متصلة أتصالاً حميماً بواقع العصر والبيئة. فإذا كان عصر حروب وَتَنازع وقتال ، فأن المرء لا يسمو على أقرانه ، إلا إذا تحققتْ فيه الفضائل الحرَّبية كقوَّة الساعد، والمهارة في القتال . لهذا ، فأن فخر أبي فراس يكاد يقتصر على فضائل الفروسية . ومهما يكن ، فأننا لا نشهد في فخره، خلال هذه الأبيات، تلك الكبرياء وذلك العتوّ ، اللذين كانا يطالعاننا في سائر قصائده ، قبل الأسر، كتلك القصيدة التي وصف بها غزوهم لأهل قنسَّرين. إن فخره خلال هذه القصيدة، هو فخر رجل مُنحني الرأس، مخذول ، يتشبَّث القيد بيدهَ ، كأنه يُعلن عارهَ على الملاء. ولئن كان يلمَّ في سائر قصائده بمعاني الفخر الكلاسيكية ، معتزاً بانتصاراته وانتصارات بني قومه في الحروب، فإن التبرير يغشى هذه القصيدة بكثير من الوجدانية التي فاضت عن بؤسه . إلا أن نزعة التعليل أضعفت من قوة هذه القصيدة ، لأن الشاعر ما ينفكًّ يرهقُها بالبينات والحجج. فهو يقول " أسرت " ثم يردف بقوله " وما صحبي بعُزل " وقد جاءت الفكرة الثانية تعليلاً للفكرة الأولى وتبريراً لها . وكذلك يستأنف بقوله " ولكن " وهذا الأستدراك هو مظهر لنزعة التفسير التي يصبح بها شعر أبي فراس ، شبيهاً بشعر أبن الرومي، في غَلبة الصبغة النثريَّة عليه. وأيَّا ما كانت الحال ، فأن السرد والتعليل يلازمان ، غالباً واقع الشعر الوجداني . ذلك أن هذا النوع من الشعر يذكر ما ألمَّ بالشاعر فعلاً . فلو تصدَّى أبو فراس إلى وصف حالة أَسير يعرفه ، لكان شعره غنائياً، ولكن ليس وجدانياً . ولكن فيما تصدى لواقعه الخاص ، الذي عاناه خلال أَسره خلال أَسره، فأنَّ شعره غداً وجدانيّاً . والقصيدة جميعاً تجري على هذا الغرار إذ لا ينفكّ الشاعر يترافع بالدفاع عن نفسه:

يقولون لي بعت السلامة بالـردي

فقلت : أما والله ما نالني خسرُ

هو الموتُ فاصنع ما حلا لك ذكره

فلم يَمِت الإنسان ما خَلدَ الذكرُ

خلال هذين البيتين يتحوَّل الشاعر من أسلوب الرواية إلى الحوار . ولعل ذلك الحوار هو في الواقع ، تحاور بينه وبين نفسه أكثر مما هو يحاور شخصاً آخر. ويخَيِّل إلينا حيناً ، أن بطولة الشاعر هي بطولة نفسيّة أكثر ممَّا هي بطولة مادية . فهو لا ينفك يتحدثّ بما يجري في نفسه من تنازع بين البطولة والهوان، ويحاول دائماً أن يؤكد أنه إذا أُهين وذل، فذلك الهوان والذل هما خارجيان ، لا يؤثِّران في ما في نفسه من بطولة داخليّة، تأبى الأستسلام والخنوع .

إلا أن الشاعر ، خلال القصيدة ، جميعاً ، لا ينفكّ يطالعه وجه الموت . وذلك أمر طبيعي في أمرئ يرى أنه لا بطولةَ ولا جدوى من الحياة ، إلا في الأنتصارات الحربيّة . فهو إذ يلج المعركة ، لا يواجه الأعداء بقدر ما يواجه الموت . وحديثه الدائم عن الموت هو تعبيرٌ عن التردُّد الذي يعانيه في نفسه ، أو بالأحرى أنه وجه لتنازع الشاعر بقاءه . وكلمَّا أقتحم معركة ، كان ذلك تجربة من تجارب الموت . لذلك نراه يقول :

وهل يَتَجافى عنِّيَ الموتُ ساعة ،

إذا ما تجَافى عنِّيَ الأسرُ والضرُّ

يمنُّون أن خلُّوا ثياني وإنما

عليَّ ثيابٌ من دمائِهِم حمْرُ

فالشاعر يرى أنه إذا ما نجا من الأسر ، فلن ينجو َ من الموت . وإذا نجا منه في حين ، فسوف يتردَّى به في وقت آخر . وإذا لم يكن من الموت بدَّ، فعلى المرء أن يختارَ الميتةَ الشريفة ، أم كما يقول أبو فراس في هذه القصيدة : " ولم يَمُت الإنسانُ ما حِييَ الذِكرُ " . ولقد أقترب بذلك إلى المتنبي إذ قال :

وإذا لم يكُنُ من الموتِ بدُّ

فمن العارِ ، أن تموَت جباَنا

لا شكَّ أن فكرة الموت هي أشدُّ فكرة تراود الإنسان ، ذلك أن الموت ، هو الجدار الذي لا يمكن أن نَنفذ منه . وهذه الفكرة تردَّدت ، أيضاً ، في شعر طَرَفَة، حتى خُيِّلَ إلينا ، أنَّه كان يعيش في خاطر الموت . إلا أن أبا فراس لا يُواجه مشكلة الموت في هذه القصيدة بالتعقيد الذي يقرأ في معلقة طرفة، بل واجهها بفكرة غاية الأقتراب إلى التفكير العامي. فالإنسان ، بالنسبة لأبي فراس، لا يموت إذا ما أبقى ذكراً دوَنه . أولا يتداول العامة بهذه الفكرة في مآتمهم ؟ وذلك جميعاً يدلُّنا على ضعف الثقافة في فخر أبي فراس. فهو لم ينفذ من مشكلته الخاصّة ، إلى مشكلة المصير الإنساني وصيرورة العدم ، بل التَفت إلى تلك المأساة الفاجعة بعَينين ساذجتين ، تغشيان ظاهر الأمور ، من دون أعماقها المدلهَّمة . وطرفة بالرغم من كونه جاهلياً ،فقد لبث يلحُّ في التساؤل عن سرِّ الموت حتى رذل المعتقدات الجاهلية ، ونفذ إلى رُعب الجمعية والعدم .

فأين ما نشهدُه في شعر طرفة من نظرة معقدة، ملحاح بالنسبة للموت ، من هذه النظرة التي تطالعنا في فخر أبي فراس مع كثير من العقم ؟ ذلك أن أبا فراس تهرَّب من مواجهة الأمور ، ولم يتول الولوج إلى الأسباب البعيدة . فما جدوى الذكر الذي يبقيه بعده ، إذا ما أصبح هو قبضة من التراب البارد الموات .

وهذه الفكرة ، فكرة الموت ، لا تستسلم ، وهي لا تنفكُّ تطأ الإنسان بقوة ، حتى جعل يخيَّل لبعض الباحثين ، أنَّ الإنسان أبتدع الله من نفسه، لينتصر به على الموت . وهنا يلتقي الدِّين بالفلسفة ، كما أنهما يلتقيان ، جميعاً، بالشعر .ذ لك أن الشعر ، ليس في الواقع ، ســوى تعبير عن فهم الإنسان للكون وما يتّصل به من خلال الأعصاب ، بينما تحاول الفلسفة أن تفهم الكون بوساطة العقل والدين بوساطة الإيمان الغيبي.

عودة إلى الفخر

بعد هذه الفلذة التي تحدث بها الشاعر عن الموت ، نراه قد أرتدَّ إلى الفخر ، إذا ذكر أنَّ الروم يمنون عليه بأنهم لم ينتزعوا ثيابه عنه ، فيجيُبهم بأن الدماء التي خضبّت ثيابه هي دماؤهم. وقد بدت قصيدة أبي فراس بذلك ، كأنها مجموعة من الأفكار والخواطر دون توحُّد أو تطوُّر . فهو يقول :

وقائم سيف فيهم أندقَّ نصله

وأعقابِ رمح، فيهم حطِّم الصدْرُ

سيذكِرُني أهلي إذا جدَّ جدُّهم

وفي الليلة الظلماءِ يُفْتَقَدُ البدْرُ

ولو سدَّ غيري ما َسدَدْتُ أكتفوا به

وما كان يغلو التبْرُ لو نَفَقَ الصفْرُ

أن وجدانية أبي فراس تظهر في تشبيهه بالبدر الذي يفتقد في الظلماء. فأهله يصدُّونه ويهملون فداءه، حتى إذا ألمت بهم النكبات أفتقدوا بدر بطولته . وهذا الأمر يصحُّ في الحياة، جميعاً ، فالإنسان ، لا يدرك قيمة الأشياء ، إلا عندما تشتدُّ حاجتهُ لها . ولعل الأشياء ، كافة، لا قيمة لها، إلا بالنسبة لحاجة الإنسان إليها . إلا أن قيمة هذا البيت ، ليست في صحته بالنسبة للمنطق الشائع ، ذلك ، أن أغلب ما نتحدث به ينطوي على كثير من الحقائق الشائعة المقرَّرة. والحقائق هي مادة للنثر ، وليس للشعر، وليس ، ثمة من قيمة للشعر ، إلا في أكتشاف الحقائق النفسية الغامضة البعيدة الغور، وبوساطة الشعور . فالعالم هو الذي يتحرَّى الحقائق بوساطة الحدس المنطقي ،بينما يكتشف الشاعر الحقائق النفسية ، بوساطة الحدس القلبي . وهكذا ، فأن قيمة هذا البيت هي في تعبيره الحيِّ، المباشر عن واقع نفس الشاعر . ولو قدّر لأبي فراس أن يصفوَ ، بكثير من هذه الفلذات الفنية الرائعة ، لكان أَلَّف، في فخره بين شدة الإخلاص ، والدربة الفنية ، البعيدة ، مرتفعاً بشعره إلى مستوى هموم الشعر الإنساني الدائم.

وفي نهاية القصيدة يعود الشاعر إلى الفخر بقوله :

وّنَحْنُ أُناسٌ لا توسُّط بيننا

لنا الصدْرًُ دون العالمين أَو القَبْرُ

لقد شهدنا أن الشاعر كان منذ حين يلوم بني قومه ، ويذكَّرهم بأفتقارهم له عندما تدلهمُّ عليهم ظلمة المصائب. أما الآن فإنه يخالف بل يناقض ما سبق أن ألمَّ به ، ويدَّعي أن بني قومه " أعلى بني العلى ، وأعظم من فوق التراب " . فكيف يمكن أن يوفّق بين هذا القول والقول السابق . والواقع ، أن الشاعر لا ينفكُّ يفتخر ببني قومه بالرغم من تباطئهم في مفاداته . فهو يستمدّ كبرياءه من كبرهم ، وعظمته من عظمتهم . ومهما يكن ، فإن أبا فراس يبدو خلال هذه القصيدة كثير الأنفعال ، شديد الإخلاص ، لكنه يفتقر إلى الثقافة الفنية والثقافة الإنسانية لينهض بشعره من واقعه الخاص، ويغدو رمزاً للمعاناة الإنسانية . لا شك أن الإخلاص ضروري للتجربة الشعرية ، لأنه إذا أفتقد الإخلاص ، فإن تأثير الشعر ينعدم ولكن الإخلاص وصدق الإنفعال لا يكفيان للتجربة الفنية الخالدة ، بل ينبغي لهما الثقافة التي تفيض بالشعور ، وتنفذ به إلى ابعاد نفسية لا قبل للإنفعال البدائي العنيف بالولوج إليها بالرغم من صدقه .

رؤية أجمالية

لو نظرنا إلى طبيعة التجربة الشعرية لتحقق لنا أنها على أختلاف وجوهها، تعبير عن تنازع الوجود وتحقيق الذات ، فإذا ما فشل الإنسان ، وأمتنع عليه تحقيق المُثل التي يتوق إليها، فأن السويداء تستبد به، وتورث فيه حساً حاداً بالأسى والفجيعة والبؤس ، وتتعقد نفسه، فتتولد من ذلك كله ، التجربة الشعرية التي تعبر عن سويداء الوجود . وإذا ما قدر للمرء أن ينتصر على العقبات التي تعترض سبيله ووفق في تحقيق مثُله ومطامعه ، فإن ذلك يورث لديه شعوراً بالزهور والغبطة ، وأحياناً بالعظمة والبطولة ، وخاصة إذا كان بدائياً ، مما يولد لديه تجربة بالزهو والغطبة، وأحياناً بالعظمة والبطولة ، وخاصة إذا كان بدائياً ، مما يولد لديه تجربة شعرية تناقض التجربة الأولى ، متحدّثه عن عنجهية النفس وأدعائها وعتوها ، وهكذا ، فإن الشعر ، هو تعبير عن واقع الإنسان منتصراً أو مخذولاً ، مغتبطاً ، أو متحسراً ، إلى ما هنالك من أحوال تتولد كنتائج حتمية مبرمة في النفس بتأثير البواعث والحوادث الخارجية والداخلية ، لاشك أن تأثير البواعث الخارجية يختلف بالنسبة للشخص الذي يعانيها ، كما أن التجربة ذاتها التي تتولد من البواعث تختلف عمقاً وتعقداً بالنسبة لثقافة الشخص ومضاعفاته الوجدانية ، إلا أن هذا الأختلاف لا يعدو أن يكون وليد مبدأ جوهري عام دائم ، هو تنازع البقاء ، ومعاناة المصير ، سواء أكان مادياً في تأمين لقمة العيش، أو معنوياً في الولوج إلى أسرار الكون وفض لغزه ، أو أكتشاف حقائقه المستورة ، لهذا فأن الفخر هو تعبير عن الناحية الإيجابية من مصير الإنسان إنه تعبير عن النصر ، والتكافؤ ، والشعور بالرضا عن النفس وعن الوجود ، لا شك أن ، ثمة نوعاً من الفخر الذي يغلب عليه التعقيد إذ يوهم بالأنتصار بينما يكون في الواقع تنكراً للشعور بالفشل والهزيمة ، فالإنسان عندما يستبد به الشعور بالضعة والفشل يثور على هذا الشعور ، فتتولد في نفسه ، حالة من العنجهية ، إلا أن الميزة الغالبة للشعور الفخري هي التعبير عن غبطة النفس وزهِّوها ، إثر الأنتصار ، أو شعورها بالتفوق والقدرة . ذلك جميعاً يدلنا على أن الفخر غلب على الشعر الجاهلي وما بعده بإلزام من واقع البيئة البدوية التي تقوم على التنازع والتعازي، وبإلزام من واقع النفسية البدائية إلى الأنفعالات العنيفة ، والأنفجار والصخب ، لذلك ، فأنه لا قبل لنا بتخصيص شاعر من الشعراء الجاهليين بالفخر من دون سواه ، لأنهم جميعاً ، ألموا به في قصائدهم ، إلا أن هناك بعض الشعراء من دون سواهم ظهرت نزعة الفخر في شعـــرهم بصورة أجلى مما ظهرت في شعر الآخرين (كالحمداني) الذي كان مثالاً للفارس العربي الأصيل، المطمئن إلى كرم العِرق، وطيب المحتد، وتسلسل الحسب ، ونبل الخُلق ، وجميل الفعال ، وشـــــموخ الطمع ، وغرور التحدي.

(*) أبو فراس الحمداني (932 - 968 ) : وُلد في الموصل . شاعر فارس . أبن عمّ سيف الدولة صاحب حلب ، الذي قلّده إمارة " منَبج " أسره البيزنطيون أربع سنوات . أستولى على حمــــــص بعد وفاة سيف الدولة فقُتــــــــل . شعره عاطفي وجداني يدلّ على حبّه لأمه وثقته بالله . له " ديوان " جمعه أبن خالويه . أشهر قصائده " الروميات " .