زهير
02-23-2006, 03:33 PM
http://www.asharqalawsat.com/01common/teamimages/399-mehdid.gif
نادية محديد
تساءل نبع من تأملي في الأحداث التي تهز العالمين العربي والإسلامي، والتي أقل ما تشير اليه، هي حالة الاختناق التي تقاد إليها هذه المجتمعات، مسيرة غير مخيرة.
فك ربطة الأصوليين عنها، القابع فكرهم في العصور الغابرة، يحثنا على الحرص أكثر على معالم التعددية الثقافية والعرقية الدينية المتبقية في بعض دولنا.
يقودني هذا الواقع، الذي يستوجب رفع التحدي من قبل القوى الليبرالية التقدمية العربية، للترحيب بما لمسته في جزائر 2006 من معطيات إنفتاح جديد، إذ باءت بالفشل (نسبيا) محاولات الأصوليين والتيارات المحافظة في عزل وخنق البلاد العريقة. فقد عادت الجزائر لتحتضن من كانوا يوما أبناءها، ولو أنهم على غير جنسيتها ولا حتى دينها.
إنهم «الأقدام السوداء»، ولمن لا يعرفهم هم فرنسيو (أو بالأحرى أوروبيو) الجزائر (1830 ـ 1962)، الذين استقطبتهم أجواء المصالحة مع الماضي للعودة لزيارة مدن صغرهم ومقابر أهاليهم وأجدادهم.
التقيت ببعضهم صدفة لما شدني بريق أعين سياح تكاد تكون دامعة تتمعن بانبهار عمارات من حولها في أحد شوارع العاصمة. انبهار كان وليد، لا محالة، ذكريات وقصص الصبا التي كانت تسر بها هذه الجدران، لمن عادوا إليها بعد أن شاب شعرهم.
لهفة وعشق للمكان لا تراهما إلا في عيون مغترب هائم بحب بلده أو إنسان اقتلعته الظروف من أرض أحبها، سواء كانت له أو لغيره، ثم يعود لتحتضنه.
أصل تسميتهم بـ«الأقدام السوداء» يبقى محل تفسيرات مختلفة يستهلك عرضها مساحة المقالة. المهم أن نعلم أن 80% من الأوروبيين القاطنين في «الجزائر الفرنسية» أنذاك بحسب إحصاء عام 1948 ولدوا فيها لأجيال متتالية. ونسبة 11% منهم فقط، أوروبية ولدت في فرنسا. أما النسبة المتبقية فهي لأوروبيين أسبان وإيطاليين وآخرين من دول أوروبية كسويسرا وألمانيا.
تكبروا وتخوفوا لأكثر من أربعين عاما من العودة، لكن الآن وقد «طابت» نفوس البعض منهم وتبدد حلمهم بعودة جزائرهم يتهافتون مع أحفادهم على كل شبر لاستذكار ما عاشوه، يوما، تحت شمس الأرض الإفريقية.
رؤيتهم، لمن هم من جيلي، (جيل جزائر مستقلة) لم تكن رؤية عابرة، بل كانت وقفة مع ذاكرة التاريخ المشترك بيننا، أخذتني إلى 5 جويلية 1830 يوم فتحت الحملة الاستعمارية لشارل العاشر أبواب الجزائر أمام أجدادهم، فتغير منذ حينها كل شيء. 130 عاما تفننت القوة الاستعمارية بسياستها الاستيطانية الشرسة في إبادات جماعية وتحطيم الأمة الجزائرية (مصطفى الأشرف: الجزائر الأمة والمجتمع)، لنصل اليوم إلى ما نحن عليه من اضطراب في بوصلة الهوية وهدم في بنية المجتمع. استيطان تميز بمرحلتين، مرحلة العهد العسكري (1830 ـ 1870) والاستيطان في العهد المدني (في الشمال أساسا) (1870 ـ 1900) الذي أحضر مستوطنين أقل برجوازية. وتحت مظلة «أن الأراضي غير الأوروبية تُعد مناطق خالية من الحضارة، فهي ملائمة للاستعمار»، تحول حُفاة وقطاع طرق وبطالون في فرنسا وأوروبا من «خدم» إلى أسياد استولوا على أراضي غيرهم وحَقروا أهاليها. مع ذلك، صعب تحميل كل «الأقدام السوداء» وأحفادهم الجرائم التي حدثت من قبل النظام الاستعماري في تحالفاته مع المعمرين الإقطاعيين، كون الثورة التحريرية نفسها شهدت شبكات دعم حيوية لنشاطها في أوساطهم كـ«حملة الحقائب»، الذين ساعدوا الثورة بالمال والسلاح، وهم للعلم شخصيات تنتمي إلى التيارات الفرنسية اليسارية واليمينية والدينية على اختلافها.
لذا ربما، أهم التساؤلات التي تثيرها هذه الزيارات، هو ماذا كانت ستكون عليه جزائر اليوم لو بقت تلك الشريحة من الجزائريين في «وطنها»؟ بدلا من ذلك المستقبل الذي خنق الطرفان أنفسهما فيه.
عدُدهم كان مُهمًا، يفوق المليون نسمة في مجتمع لم يتجاوز 9 ملايين نسمة، الأمر الذي كان سيحفظ التعددية العرقية والدينية واللغوية في المجتمع ويجنب حالة الانهيار التي شهدتها البنية الاقتصادية نظرا لإفلاس الدولة الجديدة، لدى تشكيلها، في الخبرات التقنية القادرة على التسلم وإدارة المؤسسات والقطاعات الحيوية كالتعليم وزراعة الأراضي.
للعلم، «الأقدام السوداء» لم يطردوا يوما من الجزائر، بل فضلوا، هم الرحيل. جبهة التحرير الوطني (المنظمة الثورية 1954 ـ 1962)، كررت نداءتها لهم مشيرة إلى أن الحاجة ستكون ماسة «إلى كافة أبناء الجزائر مهما اختلفت أصولهم ودياناتهم لإعادة الإعمار»، وأن الدولة المستقلة ستضمن «بواقعية وعدالة مستقبلهم» في كنفها.
أكثر من ذلك، نسجل نداء فرحات عباس رئيس الحكومة المؤقتة (1958 ـ 1961) للأوروبيين الجزائريين الذي نشرته في 20 فبراير(شباط) عام 1960 صحيفة المجاهد اللسان الرسمي لجيش التحرير وجبهة التحرير الوطني أين قال: «إن الجزائر إرث للجميع، فمنذ أجيال عديدة وأنتم تقولون أنكم جزائريون! لا أحد يعارض هكذا ميزة، لكن الجزائر لما أصبحت بلدا لكم، لم تكف أن تكون لنا.. افهموا هذا، وتقبلوا أنه لا يوجد وطن آخر ممكنا لنا».
وتابع النداء الموقع في تونس وتناقلته كافة الصحف المحلية آنذاك والإذاعات قائلا: «لا تفرًُطوا في فرص وحدة غنية بالوعود (..)، توقفوا عن التشبث بقانون الأقوى، فهذا لن يفيدكم ولن يُحل أمرا».
أيضا، اقتُرح عليهم إما الحفاظ على جنسيتهم (الفرنسية الجزائرية)، أو قبول حق المواطنة الجزائرية كاملة شرط أن يتساووا في الحقوق والواجبات مع غيرهم من الجزائريين. هذا الشرط وُضع بناء على خلفية «قانون الأهالي»، الذي طبقه المستعمر في تعامله مع «العرب الأندجين» جاعلا من أي أوروبي مواطنا «فوق العادة». من ثم، ارتبط بقاؤهم بمدى قدرتهم على تجاوز مثل هذه الحالة النفسية، فضلا عن أمور أخرى تتعلق بأملاكهم.
لكن جرى كل هذا، قبل أن تقترف التنظيمات الإرهابية التابعة لبعض المدنيين الأوروبيين مثل «اليد الحمراء» و«منظمة الجيش السري»OAS) ) غداة وقف إطلاق النار في مارس (آذار) عام 1962 جرائمها البشعة في حق المدنيين العرب، اذ تضاعفت وتيرة القتل والحرق المتعمد للمؤسسات. حقد وعنصرية عمياء أتت، حتى على حرق مكتبة جامعة الجزائر. هكذا، أصبح غد «الأقدام السوداء»، خاصة الإقطاعيين منهم بالفعل، مريرا لتبعثرهم بعدها بين فرنسا وكندا وحتى استراليا. مرارة ساهمت في سم وتعكير أجواء مصالحة تاريخية بين فرنسا والجزائر لطي صفحة المستوطن والاستيطان والانطلاق في بناء علاقات صحية ترتقي بمصالح الشعبين.
لكن من سخريات القدر أن يعرب «الأقدام السوداء» العائدون اليوم عن رغبة البعض منهم في الموت في بلدهم الجزائر، بعد أن كان أولى لهم أن يحيوا فيه.
nadia.mehdid@gmail.com
نادية محديد
تساءل نبع من تأملي في الأحداث التي تهز العالمين العربي والإسلامي، والتي أقل ما تشير اليه، هي حالة الاختناق التي تقاد إليها هذه المجتمعات، مسيرة غير مخيرة.
فك ربطة الأصوليين عنها، القابع فكرهم في العصور الغابرة، يحثنا على الحرص أكثر على معالم التعددية الثقافية والعرقية الدينية المتبقية في بعض دولنا.
يقودني هذا الواقع، الذي يستوجب رفع التحدي من قبل القوى الليبرالية التقدمية العربية، للترحيب بما لمسته في جزائر 2006 من معطيات إنفتاح جديد، إذ باءت بالفشل (نسبيا) محاولات الأصوليين والتيارات المحافظة في عزل وخنق البلاد العريقة. فقد عادت الجزائر لتحتضن من كانوا يوما أبناءها، ولو أنهم على غير جنسيتها ولا حتى دينها.
إنهم «الأقدام السوداء»، ولمن لا يعرفهم هم فرنسيو (أو بالأحرى أوروبيو) الجزائر (1830 ـ 1962)، الذين استقطبتهم أجواء المصالحة مع الماضي للعودة لزيارة مدن صغرهم ومقابر أهاليهم وأجدادهم.
التقيت ببعضهم صدفة لما شدني بريق أعين سياح تكاد تكون دامعة تتمعن بانبهار عمارات من حولها في أحد شوارع العاصمة. انبهار كان وليد، لا محالة، ذكريات وقصص الصبا التي كانت تسر بها هذه الجدران، لمن عادوا إليها بعد أن شاب شعرهم.
لهفة وعشق للمكان لا تراهما إلا في عيون مغترب هائم بحب بلده أو إنسان اقتلعته الظروف من أرض أحبها، سواء كانت له أو لغيره، ثم يعود لتحتضنه.
أصل تسميتهم بـ«الأقدام السوداء» يبقى محل تفسيرات مختلفة يستهلك عرضها مساحة المقالة. المهم أن نعلم أن 80% من الأوروبيين القاطنين في «الجزائر الفرنسية» أنذاك بحسب إحصاء عام 1948 ولدوا فيها لأجيال متتالية. ونسبة 11% منهم فقط، أوروبية ولدت في فرنسا. أما النسبة المتبقية فهي لأوروبيين أسبان وإيطاليين وآخرين من دول أوروبية كسويسرا وألمانيا.
تكبروا وتخوفوا لأكثر من أربعين عاما من العودة، لكن الآن وقد «طابت» نفوس البعض منهم وتبدد حلمهم بعودة جزائرهم يتهافتون مع أحفادهم على كل شبر لاستذكار ما عاشوه، يوما، تحت شمس الأرض الإفريقية.
رؤيتهم، لمن هم من جيلي، (جيل جزائر مستقلة) لم تكن رؤية عابرة، بل كانت وقفة مع ذاكرة التاريخ المشترك بيننا، أخذتني إلى 5 جويلية 1830 يوم فتحت الحملة الاستعمارية لشارل العاشر أبواب الجزائر أمام أجدادهم، فتغير منذ حينها كل شيء. 130 عاما تفننت القوة الاستعمارية بسياستها الاستيطانية الشرسة في إبادات جماعية وتحطيم الأمة الجزائرية (مصطفى الأشرف: الجزائر الأمة والمجتمع)، لنصل اليوم إلى ما نحن عليه من اضطراب في بوصلة الهوية وهدم في بنية المجتمع. استيطان تميز بمرحلتين، مرحلة العهد العسكري (1830 ـ 1870) والاستيطان في العهد المدني (في الشمال أساسا) (1870 ـ 1900) الذي أحضر مستوطنين أقل برجوازية. وتحت مظلة «أن الأراضي غير الأوروبية تُعد مناطق خالية من الحضارة، فهي ملائمة للاستعمار»، تحول حُفاة وقطاع طرق وبطالون في فرنسا وأوروبا من «خدم» إلى أسياد استولوا على أراضي غيرهم وحَقروا أهاليها. مع ذلك، صعب تحميل كل «الأقدام السوداء» وأحفادهم الجرائم التي حدثت من قبل النظام الاستعماري في تحالفاته مع المعمرين الإقطاعيين، كون الثورة التحريرية نفسها شهدت شبكات دعم حيوية لنشاطها في أوساطهم كـ«حملة الحقائب»، الذين ساعدوا الثورة بالمال والسلاح، وهم للعلم شخصيات تنتمي إلى التيارات الفرنسية اليسارية واليمينية والدينية على اختلافها.
لذا ربما، أهم التساؤلات التي تثيرها هذه الزيارات، هو ماذا كانت ستكون عليه جزائر اليوم لو بقت تلك الشريحة من الجزائريين في «وطنها»؟ بدلا من ذلك المستقبل الذي خنق الطرفان أنفسهما فيه.
عدُدهم كان مُهمًا، يفوق المليون نسمة في مجتمع لم يتجاوز 9 ملايين نسمة، الأمر الذي كان سيحفظ التعددية العرقية والدينية واللغوية في المجتمع ويجنب حالة الانهيار التي شهدتها البنية الاقتصادية نظرا لإفلاس الدولة الجديدة، لدى تشكيلها، في الخبرات التقنية القادرة على التسلم وإدارة المؤسسات والقطاعات الحيوية كالتعليم وزراعة الأراضي.
للعلم، «الأقدام السوداء» لم يطردوا يوما من الجزائر، بل فضلوا، هم الرحيل. جبهة التحرير الوطني (المنظمة الثورية 1954 ـ 1962)، كررت نداءتها لهم مشيرة إلى أن الحاجة ستكون ماسة «إلى كافة أبناء الجزائر مهما اختلفت أصولهم ودياناتهم لإعادة الإعمار»، وأن الدولة المستقلة ستضمن «بواقعية وعدالة مستقبلهم» في كنفها.
أكثر من ذلك، نسجل نداء فرحات عباس رئيس الحكومة المؤقتة (1958 ـ 1961) للأوروبيين الجزائريين الذي نشرته في 20 فبراير(شباط) عام 1960 صحيفة المجاهد اللسان الرسمي لجيش التحرير وجبهة التحرير الوطني أين قال: «إن الجزائر إرث للجميع، فمنذ أجيال عديدة وأنتم تقولون أنكم جزائريون! لا أحد يعارض هكذا ميزة، لكن الجزائر لما أصبحت بلدا لكم، لم تكف أن تكون لنا.. افهموا هذا، وتقبلوا أنه لا يوجد وطن آخر ممكنا لنا».
وتابع النداء الموقع في تونس وتناقلته كافة الصحف المحلية آنذاك والإذاعات قائلا: «لا تفرًُطوا في فرص وحدة غنية بالوعود (..)، توقفوا عن التشبث بقانون الأقوى، فهذا لن يفيدكم ولن يُحل أمرا».
أيضا، اقتُرح عليهم إما الحفاظ على جنسيتهم (الفرنسية الجزائرية)، أو قبول حق المواطنة الجزائرية كاملة شرط أن يتساووا في الحقوق والواجبات مع غيرهم من الجزائريين. هذا الشرط وُضع بناء على خلفية «قانون الأهالي»، الذي طبقه المستعمر في تعامله مع «العرب الأندجين» جاعلا من أي أوروبي مواطنا «فوق العادة». من ثم، ارتبط بقاؤهم بمدى قدرتهم على تجاوز مثل هذه الحالة النفسية، فضلا عن أمور أخرى تتعلق بأملاكهم.
لكن جرى كل هذا، قبل أن تقترف التنظيمات الإرهابية التابعة لبعض المدنيين الأوروبيين مثل «اليد الحمراء» و«منظمة الجيش السري»OAS) ) غداة وقف إطلاق النار في مارس (آذار) عام 1962 جرائمها البشعة في حق المدنيين العرب، اذ تضاعفت وتيرة القتل والحرق المتعمد للمؤسسات. حقد وعنصرية عمياء أتت، حتى على حرق مكتبة جامعة الجزائر. هكذا، أصبح غد «الأقدام السوداء»، خاصة الإقطاعيين منهم بالفعل، مريرا لتبعثرهم بعدها بين فرنسا وكندا وحتى استراليا. مرارة ساهمت في سم وتعكير أجواء مصالحة تاريخية بين فرنسا والجزائر لطي صفحة المستوطن والاستيطان والانطلاق في بناء علاقات صحية ترتقي بمصالح الشعبين.
لكن من سخريات القدر أن يعرب «الأقدام السوداء» العائدون اليوم عن رغبة البعض منهم في الموت في بلدهم الجزائر، بعد أن كان أولى لهم أن يحيوا فيه.
nadia.mehdid@gmail.com