المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : سياسة وقداسة .....أحمد عبد الحسين



سلسبيل
02-21-2006, 03:59 PM
الصباح البغدادبة

أحمد عبد الحسين

في السياسة لا أحد بمنجاة من النقد، ولا مكان في دائرة السياسيّ لذاتٍ تخشى على صمديتها من التلف، وعلى اسمها من أن تلوكه الألسنُ نقداً ومساءلةً، اتهاماً وتشكيكاًً. وإذن فالسياسة بهذا المعنى فعلٌ (دنيويّ) لا ينبت في قداسة ولا يثمر ـ وهذا هو الأهمّ ـ ثماراً قدسية.

فإذا صحّ انها فنّ الممكن فليس في دائرة الممكن فاعلون يكون خطابهم فصل الخطاب، وأعمالهم سنناً واجبة التبجيل. والأنجح سياسياً ليس الأقدس بل الأدهى والأكثر قدرة على المناورة والأكثر استجماعاً لفنون التفاوض والأقدر على الإصغاء والإقناع. وذلك كلّه ليس من المقدّس في شيء، إذ القدسيّة صنو القول الجازم الذي يتجاوز الفاعل ذاته ليوحي ان ثمة مصدراً غيبياً ما يعضد القول والفعل الإنسانيين.
واذا كنا اعتدنا طوال نصف قرنٍ على ممارسة السياسة دون أن يخالطها نقدٌ للسياسيين فذلك لأن هؤلاء أرادوا توشيح ذواتهم بهذه الهالة التي تجعلهم سياسيين معصومين من المساءلة والاتهام، فخسروا الصفتين: لم يحوزوا القداسة (التي لا تنبت في هذه الأرض) ولم يصلوا إلى تخوم السياسة بسبب خوفهم من وضع ذواتهم وأسمائهم المبجلة في مرمى النيران هذا.

الديكتاتوريون ـ خذ صدام مثلاً ـ كانوا أكبر من السياسة، أكبر من أن يتلوثوا بسخام الفعل الذي يطرح نفسه أمام الملأ بوصفه ممكناً قابلاً لتقليبه على وجوهه وتعريضه للتشكيك ومن ثم التعديل، بل كان نفوذ الفعل والقول الجازم هو الاسم الآخر لصدام، فأخرج نفسه من دائرة ما هو سياسيّ إلى برزخٍ ليس له اسم، إلى سياسة مقدّسة أو قداسةٍ سياسيّة.

كان مقدراً لهذه الباب الموصلة بين السياسة والقداسة أن تُغلقَ، وأن يحمل المطيبون مباخرهم إلى مكان آخر، تاركين بيت السياسة لساكنيه من أناس لا أصدقاء دائميين لهم ولا أعداء أبديين، ولا وصايا مقدسة تتلى عليهم كلّ حينٍ تذكّرهم أنّ لهم قدماً راسخةً في الأبديّ وأهدافاً ملحمية خارج حدود الممكن. غير ان هذا لم يحدث، فبين ظهرانينا اليوم رجال غارقون في العمل السياسيّ إلى آذانهم لكنهم يتقذرون من أن يكون اسمهم عرضة للنقد، وفعلهم مطروحاً للجدل. وباسمهم السياسيّ تراهم فاعلين نشطين ولهم القدرة على تغيير مسار الحدث، لكنهم باسمهم الدينيّ يضعون بينهم وبين النقد ستاراً من نار.

فانتقادهم إثم والرادّ عليهم رادّ على المصدر الغيبيّ الذي يعضدهم في قيامهم وقعودهم. لا مهرب من إمكانية أن يكون هناك خطأ ما يخالط كل فعلٍ سياسيّ، لكنّ أخطاء هؤلاء المقدّسين ستصبح هي الأخرى مقدّسة، وستجد هتافين كثراً تعلو أصواتهم عالياً لتغطية الكلام الناقد الذي يقال همساً بسبب الخوف وسطوة المقدّس الذي دخل السياسةَ بكامل عدّته.لا أحد يجادل في ان رجل دينٍ يمكن أن يكون فاعلاً سياسيّاً بامتياز، ولدينا أمثلة تسند هذا النموذج، لكن عدم ضبط الحدود بين القداسة والسياسة كفيل بأن يفرغ المفهومين من محتواهما الحقيقيّ ليسقطنا في حفرة الديكتاتورية المقنّعة بعد أن خرجنا للتوّ من هاوية ديكتاتوريّة سافرة.كلّنا يستطيع أن يتكلم بتلقائية عما يراه إخفاقاً لدى هذا السياسيّ أو ذاك، لكننا حين نصل بالكلام إلى رجل دين يتعاطى السياسة تلتاث الألسن ويصبح الكلام غمغمة خوف أن يطيش سهم النقد ليصيب القداسةَ لا السياسة لدى هذا (السياسي).

حيثما يدخل ميدان السياسة رجلٌ لا يريد أن يُنتقّد يحلّ الخوف. وبحلوله نكون بإزاء فعلٍ أكبر مما هو سياسيّ، انه البرزخ الذي لم يسمّ بعدُ، برزخ يستعير من السياسيّ تحكّمه بالجماهير ومن المقدّس قدرته على إسكاتهم وإبقائهم صامتين.