المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : عاشوراء.. فتاوى ضد تكريس الكراهية



جمال
02-15-2006, 09:36 AM
رشيد الخيون

للحزن الشيعي السنوي، الذي يحل هذه الأيام، مظهران: إيجابي يتلخص بنشاط أدبي، وازدهار السوق، وتدبير للمعاش، وتأكيد التعاطف، إلى جانب التظاهر السلمي ضد المظالم، وتمجيد مُثل التضحية. ومظهر سلبي يتمثل بجلد الذات: التسويط والتطبير واللطم، وما يرافقه من إشاعة روح الانتقام «يا لثارات الحسين».

يجمع المؤرخون على رواية أن أول عزاء رسمي أقامه البويهيون السنة 353هـ. بينما ربطته روايات أخرى بظهور جماعة التوابين ـ خذلوا الإمام الحسين بعد مكاتبته بالقدوم إلى الكوفة ـ بزعامة سليمان بن صُرد الخزاعي (قُتل 65هـ). وغالى آخرون برفعه إلى طفولة الحسين، وتحدثوا بـحديث «مأتم الميلاد» في حياة والدته الزهراء. ورد ضمن أحاديث العلم بالغيوب. على أية حال، كانت التعازي شعبياً سابقة على الزمن البويهي. بدليل أن نائحة (ملاية في لغة اليوم) اسمها «خِلْب»، كادت تُقتل، بخلاف طائفي، عندما سُمعت أنها تنوح في عاشوراء (نشوار المحاضرة)، قبل السيطرة البويهية على بغداد.

استمرت مراسم العزاء، عبر الأزمنة، بين السر والعلن. حاول خلفاء عباسيون استبدال قصة «مقتل الحسين» بتلاوة الأناشيد والمدائح. وحصرت بمرقد موسى الكاظم فقط السنة 641هـ (الحوادث الجامعة). كذلك أعلن وزير العراق مدحت باشا (قُتل 1883) في جريدة «الزوراء» (محرم 1869) «منع ما يزري أو يضر» منها. وفي العهد الملكي تحمل الملك فيصل الأول مصاريف مجلس خاص كان يحضره. وسمح عبد الكريم قاسم بقراءة المقتل عبر الإذاعة العراقية (1959)، وأطلق حرية المواكب. ويومها كان للحزب الشيوعي العراقي موكب كبير يعرف بموكب «العباسية» بكربلاء، خالٍ من التسويط والتطبير، ويعتمد على الهتاف الموجه، وقد أعيد تشكيله حالياً، ومن هتافاته الأخيرة «نطالب بدستور من روح السلام.. كلها ترضى بيه من دون اتهام.. تبقى سالم يا عراق»، و«لا ابن لادن يهزنا.. ولا الزرقاوي العميل.. تبقى سالم يا عراق».

بعد 1963 منع عبد السلام عارف مواكب زيارة الأربعين إلى كربلاء والعاشر من عاشوراء. بينما أطلقها أخوه عبد الرحمن عارف من بعده، وظلت حتى منعها البعثيون منتصف السبعينات نهائياً. وانفتحت بردة فعل قوية بعد سقوط نظام صدام. تحولت الشوارع والجامعات ودوائر الدولة إلى مجالس حسينية، ولم يحد منها تصاعد العمليات الإرهابية. وأخذت تبث من على شاشة الفضائية الرسمية «العراقية». حتى جعلت مقدمة بث محاكمة صدام وأعوانه لطمية، تقول: «وين تروح.. يا ظالم.. من كل هذي المظالم».

كان السيد محسن الأمين (ت1954) من أبرز العلماء المتصدين لتشذيب مراسم عاشوراء. برسالته «التنزيه لأعمال التشبيه». حرم فيها: استخدام القامات، والتسوط بالسلاسل وغيرها. وقد جابه الأمين حملة شعواء، انتهت بتكفيره (أعيان الشيعة). وأفتى السيد أبو الحسن الأصفهاني (ت1946) بتحريم ضرب الرؤوس، ولطم الصدور، وتسويط الظهور، ودق الطبول (مجلة الموسم). وأفتى الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء (ت1954) بحرمتها، إلا أنه تراجع حذراً من تحريك العوام ضده. قال: «إن في صدري لعلماً جماً أخشى أن أبوح به من الشياطين الذين يوجهون العوام وفق مقاصدهم» (الخاقاني، شعراء الغري).

وفتوى المرجع الإيراني حسين البروجردي (ت1961) فيها «إنها حرام في حرام». ويُذكر أنه قال لرؤساء المواكب: «إن فتواي بشأن المسرحيات والتمثيليات حرام! فأجابوا: مولانا، نحن نقلدك طوال العام، ما عدا هذه الأيام»! (الشامي، المرجعية الدينية). ويرى الشيخ المطهري الرأي نفسه، وذكر ما دخل قصة الحسين من تحريف على يد الكاشفي في «روضة الشهداء» وآخرين من قبل خمسمائة عام. أدخلوا: طقس عرس القاسم تحت ظلال السيوف، وقصة استجداء الماء. وكما هو معروف، يقدم العطش كمشهد أساسي في العزاء. وكم يكون مؤثراً إذا صادف عاشوراء فصل الصيف اللاهب! يترنم الروزخون بصوت شجي بحرمان الحسين وأطفاله من «الفرات الجاري (بينما) يشربه اليهود والنصارى والمجوس، وتتمرغ فيه خنازير السواد (العراق) وكلابه» (الكعبي، مقتل الإمام الحسين)، دون الالتفات إلى الكراهية التي يشيعها النص ضد بقية الأديان!

خلا ذلك، أجد من المفارقة أن يفتي الميرزا محمد حسين النائيني (1936)، خلافاً لما عُرف عنه من مكانة في الفكر التنويري، بجواز اللطم والتسوط بالسلاسل والتطبير بالقامات والتشابيه. ثم يتابعه تلامذته من المراجع الكبار، والآيات العظام (البلاغي، الشعائر الحسينية العقائدية). تعد هذه الفتوى واحدة من تراجعات الشيخ النائيني عن مواقفه التنويرية السابقة، فقد تنصل يومها من رسالته ضد الاستبداد تنبيه الأمة وتنزيه الملة (1909)، وهي المعروفة بمنفيستو الحرية والتقدم آنذاك.

كان للصفويين دور كبير في إشاعة الغرائب على مراسم عاشوراء، التي كانت تكتفي بالمراثي والتذكر. وقيل إن إسماعيل الصفوي (ت 1524) أسس مجالس التعزية على ما هي اليوم، وما يصاحبها من ممارسات مؤثرة من أجل النقلة المذهبية ببلاد فارس. ومَنْ يقرأ كتاب علي شريعتي «التشيع العلوي والتشيع الصفوي» يستنتج أن التظاهر بالعنف في المواكب الحسينية له علاقة بما كان بين الدولتين: الصفوية والعثمانية، وهو تأكيد الاستعداد المتواصل للتضحية. ومن تلك الأجواء تأصلت عبارة «كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء». ومع التأثير الصفوي القوي، إلا أن العراق لم يحفل بمظاهر التطبير والتسويط إلا في القرن التاسع عشر. أما اللطم فأظنه أقدم من هذا التاريخ.

من المفروض توجيه مراسم عاشوراء، والمناسبات الدينية الأخرى، إلى تكريس الأخوة بين أبناء الوطن الواحد، إن تقدمها رجال نبذوا الطائفية، مثلما حصل في العشرينات، عندما أقيم «المولد» السُنَّي و«التعزية» الشيعية في مناسبة واحدة ببغداد. كان دعوة الوئام: تفضلوا «للتبرك بتلاوة منقبة المولد النبوي الكريم مشفوعة بذكرى مقتل سيدنا الحسين عليه السلام» (البصير، تاريخ القضية العراقية). ولا غرو أن التجاور الخالي من الكراهية جعل عائلة «آل حردون» اليهودية تتولى شؤون موكب بعاشوراء، يعرف بـ «موكب آل حردون»، وبطبيعة الحال كانت جماهير الموكب من المسلمين. وأن تحضر أُسر مندائية (ديانة قديمة موحدة) ومسيحية مراسم عاشوراء، وتبكي نساؤها مع الباكيات المسلمات. وفي هذا المشهد لي الاستشهاد بما أنشده محمد مهدي الجواهري (النجف 1921) مع قلب الصورة:

وقد خبروني أن في الشرقِ وحدةً كنائسه تـدعو فتبكي الجوامـعُ

r_alkhayoun@hotmail.com