المهدى
09-04-2003, 11:59 AM
كتابات - صباح الموسوي
تميزت المدرسة الشيعية عن باقي المدارس الإسلامية الأخرى بأنها السباقة في فتح باب الاجتهاد في المسائل الفقهية وهذا ما جعلها أكثر حيوية وحركية على صعيد أغناء مكتبتها الفكرية وتخريجها لعلماء بارزين على الساحة الشيعية والإسلامية عامة, وقد زادت حركية هذه المدرسة مع ظهور التيار الأصولي الذي ساد فيما بعد في الحوزة العلمية, والمعني بالأصولية ليس المفهوم الحالي لها والذي بات يرمز للسلفية المغلقة وإنما هي العقلانية التي نشأت في الحوزة العلمية الشيعية مقابل الإخبارية التي كانت سائدة آنذاك والتي يمكن تسميتها بالسلفية الشيعية في المسائل العقائدية والفقهية.
والتيار الأصولي هو الذي التزم واعتمد أصول الفقه العقلي في الاستنباط, وأصول الفقه العقلي هي الأصول المستقى من مبادئ العقل ومعه
أما التيار الإخباري والذي قاده في بادئ الأمر الشيخ محمد أمين الاسترابادي ( توفي سنة 1036) ومن بعده الشيخ يوسف البحراني (1186 هـ، -1107هـ، ) فأنه يعتمد أصول الفقه ألنقلي في الاستنباط وهذا التيار يرفض عملية (الاجتهاد) و (المجتهدين) ويعتبر ذلك بدعة في الدين، ويرفض تقسيم الشيعة إلى مجتهدين ومقلدين وهو بالتالي يرفض الاعتراف بأية ولاية (للفقهاء) الذين يعتبرهم منحرفين عن خط أخبار أهل البيت كما يرفض عملية (التقليد) ولا يجيزه إلا للأئمة المعصومين, هذا التيار كان ولعدة قرون هو السائد في الحوزة العلمية حتى جاء السيد محمد باقر الشهير بالوحيد البهبهاني(1205 هـ - 1118 هـ)، وتبنى إعادة فتح باب المدرسة الأصولية.
يذكر إن الصراع الذي دارت رحاه بين الأصولية والإخبارية قام على اثر تطوير نظرية النيابة العامة للفقهاء إلى نظرية سياسية على يد المحقق الشيخ علي بن عبدالعالي الكركي (ت940هـ) وذلك بهدف منح المولوك الصفويين شرعية الحكم بالوكالة عن (نائب الإمام المهدي: الفقيه العادل) وهو ما أدى إلى حدوث انشقاق عميق وعنيف في الحوزة العلمية عرف بالصراع الإخباري – الأصولي وقد امتد هذا الصراع إلى ألوقتنا الراهن ولكن بدرجة اخف مما كان عليه في القرون السابقة وقد افرز هذا الصراع انشقاقات عديدة في جسم الطائفة الشيعية أدى إلى ظهور تيارات متصارعة عملت على تكفير بعضها البعض الآخر. ومن أبرز هذه التيار (الشيخية ) التي ظهرت في أواخر النصف الأول من القرن الثالث عشر الهجري وقد سميت بذلك نسبة إلى عميد مدرستها الشيخ احمد زين الدين الأحسائي ـ1243 هـ 1166ه- الذي كان يرفض (الاجتهاد) وكان يدعي العلم عن طريق المكاشفة والشهود وقد ظهر تياره مع قيام الدولة القاجارية في بلاد فارس وتسلم فتح علي شاه القاجاري زمام الملك وكان القاجاري تبنى نظرية الشيخية كغطاء شرعي لحكمه كما فعل الصفويون عندما اتخذوا من فتوى الكركي غطاءا شرعيا لهم, وقد انبثق من تيار الشيخية حركة عرفت باسم الكشفية التي قالت (بالركن الرابع ) والركن الرابع هو زعيم الحركة الحاج محمد كريم خان القاجار احد افراد الاسرة القاجارية الحاكمة, و قد تطورت الحركة الشيخية الإخبارية وتشعبت إلى فرقة جديدة أخرى هي (البابية) التي قادها زميل لمحمد كريم خان، وتلميذ للسيد كاظم الرشتي الميرزا علي محمد الشيرازي، حيث اخذ هذا يدعي انه نائب الإمام المهدي المنتظر (محمد بن الحسن العسكري) الخاص وانه (باب إمام الزمان), و هي التي تفرعت منها الحركة البهائية.
ومن الملاحظ إن المدرسة الأصولية ورغم النقلة النوعية التي أحدثتها في الاجتهاد الفقهي إلا أنها بقية مقلدة للمدرسة الإخبارية في باب العقائد ولم تفتح باب الاجتهاد في هذا الجانب وقد تعرض الكثير من المجتهدين الأصوليين الذين سعوا إلى مجرد تهذيب بعض الروايات المتعلقة بالمسائل العقائدية إلى الطعن والتسقيط من قبل زملائهم الآخرين.
ومن ابرز المجتهدين الذين تعرضوا لعملية التسقيط في عصرنا الراهن الإمام السيد محسن الأمين ألعاملي(1371-1284هـ) الذي أبدى رأيه الاجتهادي بخلاف الرأي السائد في مسائلة عاطفية وهي مسألة التطيير (شق الرؤوس في يوم عاشوراء) حيث أفتى بحرمتها وقد تعرض اثر ذلك لأشرس حملة عدائية من الحوزة ومراجعها إلى حد اتهامه (بالزندقة) كما جاء على لسان العالم والخطيب العراقي الشهير السيد صالح الحلي الذي هاجم الأمين في قصيدة طويل يقول فيها:
(وإذا مررت بجلق فبزق بوجه امينها المتزندق).(1)
كما تعرض إمام الطائفة السيد أبو القاسم الخوئي (توفي 1413 هـ،) لحملة بلغت حد فصل مقلديه من الدوائر الحكومية في إيران وحرق مكتب ممثله في قم وذلك على اثر مخالفته لنظرية ولاية الفقيه , كما شنت الحكومة والحوزة الإيرانية حملة تشهير واسعة ضد المرجع الديني السيد محمد الشيرازي (توفي شوال 1422هـ ) وفرضت عليه الإقامة الجبرية في منزله لمدة أكثر من عشرين عاما وعند وفاته خطفت المخابرات الإيرانية جنازته من يد المشيعين ودفنتها خلافا لوصيته والتي أوصى بها إن يدفن في بيته وذلك كله بسبب رأيه القائل بنظرية شورى الفقهاء بدلا من نظرية ولاية الفقيه .
وهناك مجموعة أخرى من المجتهدين يتعرضون اليوم للمحاربة وحملات التشهير بسبب أرائهم الجريئة ومنهم العلامة السيد محمد حسين فضل الله, الذي أدى اجتهاده في مسألة تاريخية لم تثبت صحتها لديه كما قال ( أكذوبة كسر ضلع الزهراء على يد الخليفة الثاني ) سببا لكي يتعرض لحملة تشهير يقودها بعض المراجع في الحوزة الفارسية وعلى رأسهم الشيخ جواد التبريزي الذي أفتى (بضلال) العلامة فضل الله وهناك أمثلة عديدة أخرى على هذه الحملة العواء.
ولكن لماذا كل هذا التناقض بين القول بجواز الاجتهاد ومحاربة المجتهدين ؟ ومن هو المحرض وما هي الداوفع التي وقفت وما تزال وراء هذه الصراعات التي أدت إلى حدوث هذا الشرخ الكبير في المدرسة الشيعية الأمامية وحوزتها العلمية ؟.
فمن خلال متابعة سير الأحدث يجد الباحث أن المصالح السلطوية والمنافع القومية للأنظمة الفارسية المتعاقبة (الصفوية والقاجارية والبهلوية وأخيرا قادة النظام الحالي في إيران) كانت ولا تزال المسبب الأول في كل ما جرى من صراعات وانشقاقات دامية على الساحة الشيعية عامة والحوزة العلمية خاصة.
ولكن مما يؤسف له انه وبرغم من ذلك فما زال الذين تحركهم العواطف المذهبية يحاولون القفز على الحقيقة ويندفعون بدون تروي وحكمة ودون أي مسؤولية إنسانية للدفاع عن الأنظمة الفارسية الظالمة يجهلون أو يتناسون مرتكبته هذه الأنظمة من مظالم بحق الشيعة والتشيع الأصيل الذي برؤوه أئمة أهل البيت (ع) من الطائفية والعنصرية البغضاء وجعلوه مدرسة إيمانية وإنسانية خالصة, تلخصت بمقولة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع): الناس صنفان أما أخ لك في الدين, أو نظير لك في الخلق.
2 ايلول 2003
(1). جلق اسم من أسماء دمشق الفيحاء حيث كانت موطن السيد الأمين
تميزت المدرسة الشيعية عن باقي المدارس الإسلامية الأخرى بأنها السباقة في فتح باب الاجتهاد في المسائل الفقهية وهذا ما جعلها أكثر حيوية وحركية على صعيد أغناء مكتبتها الفكرية وتخريجها لعلماء بارزين على الساحة الشيعية والإسلامية عامة, وقد زادت حركية هذه المدرسة مع ظهور التيار الأصولي الذي ساد فيما بعد في الحوزة العلمية, والمعني بالأصولية ليس المفهوم الحالي لها والذي بات يرمز للسلفية المغلقة وإنما هي العقلانية التي نشأت في الحوزة العلمية الشيعية مقابل الإخبارية التي كانت سائدة آنذاك والتي يمكن تسميتها بالسلفية الشيعية في المسائل العقائدية والفقهية.
والتيار الأصولي هو الذي التزم واعتمد أصول الفقه العقلي في الاستنباط, وأصول الفقه العقلي هي الأصول المستقى من مبادئ العقل ومعه
أما التيار الإخباري والذي قاده في بادئ الأمر الشيخ محمد أمين الاسترابادي ( توفي سنة 1036) ومن بعده الشيخ يوسف البحراني (1186 هـ، -1107هـ، ) فأنه يعتمد أصول الفقه ألنقلي في الاستنباط وهذا التيار يرفض عملية (الاجتهاد) و (المجتهدين) ويعتبر ذلك بدعة في الدين، ويرفض تقسيم الشيعة إلى مجتهدين ومقلدين وهو بالتالي يرفض الاعتراف بأية ولاية (للفقهاء) الذين يعتبرهم منحرفين عن خط أخبار أهل البيت كما يرفض عملية (التقليد) ولا يجيزه إلا للأئمة المعصومين, هذا التيار كان ولعدة قرون هو السائد في الحوزة العلمية حتى جاء السيد محمد باقر الشهير بالوحيد البهبهاني(1205 هـ - 1118 هـ)، وتبنى إعادة فتح باب المدرسة الأصولية.
يذكر إن الصراع الذي دارت رحاه بين الأصولية والإخبارية قام على اثر تطوير نظرية النيابة العامة للفقهاء إلى نظرية سياسية على يد المحقق الشيخ علي بن عبدالعالي الكركي (ت940هـ) وذلك بهدف منح المولوك الصفويين شرعية الحكم بالوكالة عن (نائب الإمام المهدي: الفقيه العادل) وهو ما أدى إلى حدوث انشقاق عميق وعنيف في الحوزة العلمية عرف بالصراع الإخباري – الأصولي وقد امتد هذا الصراع إلى ألوقتنا الراهن ولكن بدرجة اخف مما كان عليه في القرون السابقة وقد افرز هذا الصراع انشقاقات عديدة في جسم الطائفة الشيعية أدى إلى ظهور تيارات متصارعة عملت على تكفير بعضها البعض الآخر. ومن أبرز هذه التيار (الشيخية ) التي ظهرت في أواخر النصف الأول من القرن الثالث عشر الهجري وقد سميت بذلك نسبة إلى عميد مدرستها الشيخ احمد زين الدين الأحسائي ـ1243 هـ 1166ه- الذي كان يرفض (الاجتهاد) وكان يدعي العلم عن طريق المكاشفة والشهود وقد ظهر تياره مع قيام الدولة القاجارية في بلاد فارس وتسلم فتح علي شاه القاجاري زمام الملك وكان القاجاري تبنى نظرية الشيخية كغطاء شرعي لحكمه كما فعل الصفويون عندما اتخذوا من فتوى الكركي غطاءا شرعيا لهم, وقد انبثق من تيار الشيخية حركة عرفت باسم الكشفية التي قالت (بالركن الرابع ) والركن الرابع هو زعيم الحركة الحاج محمد كريم خان القاجار احد افراد الاسرة القاجارية الحاكمة, و قد تطورت الحركة الشيخية الإخبارية وتشعبت إلى فرقة جديدة أخرى هي (البابية) التي قادها زميل لمحمد كريم خان، وتلميذ للسيد كاظم الرشتي الميرزا علي محمد الشيرازي، حيث اخذ هذا يدعي انه نائب الإمام المهدي المنتظر (محمد بن الحسن العسكري) الخاص وانه (باب إمام الزمان), و هي التي تفرعت منها الحركة البهائية.
ومن الملاحظ إن المدرسة الأصولية ورغم النقلة النوعية التي أحدثتها في الاجتهاد الفقهي إلا أنها بقية مقلدة للمدرسة الإخبارية في باب العقائد ولم تفتح باب الاجتهاد في هذا الجانب وقد تعرض الكثير من المجتهدين الأصوليين الذين سعوا إلى مجرد تهذيب بعض الروايات المتعلقة بالمسائل العقائدية إلى الطعن والتسقيط من قبل زملائهم الآخرين.
ومن ابرز المجتهدين الذين تعرضوا لعملية التسقيط في عصرنا الراهن الإمام السيد محسن الأمين ألعاملي(1371-1284هـ) الذي أبدى رأيه الاجتهادي بخلاف الرأي السائد في مسائلة عاطفية وهي مسألة التطيير (شق الرؤوس في يوم عاشوراء) حيث أفتى بحرمتها وقد تعرض اثر ذلك لأشرس حملة عدائية من الحوزة ومراجعها إلى حد اتهامه (بالزندقة) كما جاء على لسان العالم والخطيب العراقي الشهير السيد صالح الحلي الذي هاجم الأمين في قصيدة طويل يقول فيها:
(وإذا مررت بجلق فبزق بوجه امينها المتزندق).(1)
كما تعرض إمام الطائفة السيد أبو القاسم الخوئي (توفي 1413 هـ،) لحملة بلغت حد فصل مقلديه من الدوائر الحكومية في إيران وحرق مكتب ممثله في قم وذلك على اثر مخالفته لنظرية ولاية الفقيه , كما شنت الحكومة والحوزة الإيرانية حملة تشهير واسعة ضد المرجع الديني السيد محمد الشيرازي (توفي شوال 1422هـ ) وفرضت عليه الإقامة الجبرية في منزله لمدة أكثر من عشرين عاما وعند وفاته خطفت المخابرات الإيرانية جنازته من يد المشيعين ودفنتها خلافا لوصيته والتي أوصى بها إن يدفن في بيته وذلك كله بسبب رأيه القائل بنظرية شورى الفقهاء بدلا من نظرية ولاية الفقيه .
وهناك مجموعة أخرى من المجتهدين يتعرضون اليوم للمحاربة وحملات التشهير بسبب أرائهم الجريئة ومنهم العلامة السيد محمد حسين فضل الله, الذي أدى اجتهاده في مسألة تاريخية لم تثبت صحتها لديه كما قال ( أكذوبة كسر ضلع الزهراء على يد الخليفة الثاني ) سببا لكي يتعرض لحملة تشهير يقودها بعض المراجع في الحوزة الفارسية وعلى رأسهم الشيخ جواد التبريزي الذي أفتى (بضلال) العلامة فضل الله وهناك أمثلة عديدة أخرى على هذه الحملة العواء.
ولكن لماذا كل هذا التناقض بين القول بجواز الاجتهاد ومحاربة المجتهدين ؟ ومن هو المحرض وما هي الداوفع التي وقفت وما تزال وراء هذه الصراعات التي أدت إلى حدوث هذا الشرخ الكبير في المدرسة الشيعية الأمامية وحوزتها العلمية ؟.
فمن خلال متابعة سير الأحدث يجد الباحث أن المصالح السلطوية والمنافع القومية للأنظمة الفارسية المتعاقبة (الصفوية والقاجارية والبهلوية وأخيرا قادة النظام الحالي في إيران) كانت ولا تزال المسبب الأول في كل ما جرى من صراعات وانشقاقات دامية على الساحة الشيعية عامة والحوزة العلمية خاصة.
ولكن مما يؤسف له انه وبرغم من ذلك فما زال الذين تحركهم العواطف المذهبية يحاولون القفز على الحقيقة ويندفعون بدون تروي وحكمة ودون أي مسؤولية إنسانية للدفاع عن الأنظمة الفارسية الظالمة يجهلون أو يتناسون مرتكبته هذه الأنظمة من مظالم بحق الشيعة والتشيع الأصيل الذي برؤوه أئمة أهل البيت (ع) من الطائفية والعنصرية البغضاء وجعلوه مدرسة إيمانية وإنسانية خالصة, تلخصت بمقولة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع): الناس صنفان أما أخ لك في الدين, أو نظير لك في الخلق.
2 ايلول 2003
(1). جلق اسم من أسماء دمشق الفيحاء حيث كانت موطن السيد الأمين