جمال
02-14-2006, 12:02 PM
مفتاح السلام والاندماج الضائع في صربيا بيد الجنرال الهارب من العدالة
سراييفو: عبد الباقي خليفة
تشعر بلغراد بضيق مساحة المناورة، وبصعوبة موقفها في الداخل والخارج، حيال قضية جرائم الحرب التي تلاحقها منذ 14 سنة، ولا سيما في ما يتعلق باعتقال وتسليم الجنرال راتكو ملاديتش، 53 سنة، الذي يطلق عليه «دراكولا البلقان» في تسعينات القرن العشرين، حيث لكل عصر في البلقان «دراكولا» خاص به، من ايفان الرهيب، وحتى راتكو ملاديتش.
وقد حاولت صربيا عبثا الإيهام بعدم وجوده في صربيا، حينا، والزعم بانتقاله للخارج حينا آخر. بيد أن الاعترافات الأخيرة لعدد من القادة العسكريين، ومن بينهم القائد السابق، والحالي للاستخبارات العسكرية، التي تؤكد أن الجنرال راتكو ملاديتش، كان يحظى بحماية الجيش داخل الثكنات العسكرية حتى سنة 2002، كما كان يتقاضى راتب تقاعده من الجيش، ضيَّقت الخناق على حكومة رئيس الوزراء الصربي فويسلاف كوشتونيتسا، وزادت من الحرج الذي تعانيه بلغراد، ومن الضغوط الدولية التي تزداد يوما بعد يوم على المسؤولين فيها. وتجد حكومة صربيا نفسها بين سندان الموقف الشعبي الرافض لاعتقال وتسليم الجنرال ملاديتش، وهو ما يعني سقوطها في الانتخابات القادمة، ومطرقة الضغوط الاميركية والاوروبية التي تدعوها للوفاء بالتزاماتها الدولية، وتلوح بالعقوبات الاقتصادية ووقف المساعدات المالية وتجميد مباحثات انضمامها الى الاتحاد الاوروبي، خاصة بعدما دعت ممثلة هيئة الادعاء بمحكمة جرائم الحرب في لاهاي كارلا ديل بونتي، أثناء زيارتها لفرنسا الاسبوع الماضي، الى اجراءات عقابية. الحقيقي هو أن «صبر» المجتمع الدولي بدأ ينفد مع عدم تعاون صربيا الكامل مع محكمة لاهاي، وبعد أن مر أكثر من 10 سنوات على انتهاء القتال في البوسنة، وتوقيع اتفاقية دايتون للسلام 21 نوفمبر 1995، بعد نحو شهر من المباحثات المضنية بين الفرقاء البوسنيين والصرب والكروات، الذين مثلهم كل من الرئيس البوسني الراحل علي عزت بيجوفيتش، والرئيس الكرواتي الراحل فرانيو توجمان، والرئيس اليوغسلافي الاسبق سلوبودان ميلوسيفيتش، المسجون حاليا في لاهاي لمتابعة قضيته.
وكانت اتفاقية دايتون للسلام قد نصت على تقديم المتهمين بارتكاب جرائم حرب إلى المحكمة الدولية التي تم انشاؤها بقرار من مجلس الأمن، للنظر في جرائم الحرب التي تم ارتكابها أثناء العدوان الصربي والكرواتي على البوسنة بين 1992 ـ 1995 والاعتداءات العرقية في كل من كرواتيا من 1991 ـ 1995 وكوسوفو بين 1998 ـ 1999 ومقدونيا 2001 . ويبلغ عدد المتهمين بارتكاب جرائم حرب الموجودين حاليا في لاهاي 155 فردا، منهم أكثر 106 متهمين صرب و31 متهما كرواتيا، و9 متهمين بوشناقا أطلق سراح أحدهم وهو الجنرال سفر خليلوفيتش القائد السابق للجيش البوسني. وينتظر اعتقال 8 متهمين صرب لا يزالون في حالة فرار في مقدمتهم زعيما الحرب رادوفان كراجيتش، والجنرال راتكو ملاديتش قائد قوات صرب البوسنة سابقا. وتعتبر طريقة اختفاء الجنرال ملاديتش صورة معبرة عن الوضع السائد في الجمهوريات المستقلة عن يوغوسلافيا السابقة، والتي عادت لوضعها الطبيعي، بعد سنوات من الإلحاق القسري بالمملكة اليوغوسلافية 1919 الى 1945، ومن ثم بيوغوسلافيا الاتحادية 1945 الى 1992 . ففي نهاية 1995 وبداية 1996، وعلى إثر توقيع اتفاقية دايتون، وصل إلى البلاد المثقلة بجراح القصف وحملات الابادة 60 ألف جندي من قوات حلف شمال الأطلسي للاشراف على تنفيذ اتفاقية دايتون، والقيام باعتقال المتهمين بارتكاب جرائم حرب، في مقدمتهم زعيما الحرب رادوفان كراجيتش، والجنرال ملاديتش، لكن ذلك لم يتم حتى سنة 1997، عندما أعلن عن اختفاء كل من كراجيتش وملاديتش بعد حملات اعلامية وسياسية تطالب بتنفيذ البند الخاص بمحكمة جرائم الحرب في اتفاقية دايتون أدى لاستقالات في بعض الدوائر الدولية ولا سيما الادعاء العام في محكمة لاهاي. وقد سرت ساعتها اشاعات بأن هناك اتفاقا غير معلن بين الجنرال ملاديتش وكراجيتش من جهة، وعناصر دولية نافذة في شكل مقايضة مفادها أن يترك الاثنان السياسة والظهور العلني ويختفيا عن الانظار، مقابل عدم تنفيذ القرارات الدولية بخصوصهما. وتستشهد هذه الجهات بوقائع لا تقبل الدحض، من وجهة نظرها، من بينها مرور كل من كراجيتش وملاديتش في السنوات 1996 و 1997 على نقاط التفتيش التابعة لحلف الناتو بدون يجرؤ أحد على اعتقالهما.
بيد أن الأسئلة لا تزال تتكرر باستمرار، وبإلحاح، وتشكك في عجز حلف شمال الأطلسي بامكانياته الضخمة عن الوصول إلى مكان اختباء ملاديتش الذي ولد في منطقة هان بياسكا بشرق البوسنة، سنة 1953 وترعرع فيها، في ظل والده الذي كان يعمل بالسكك الحديد، وواصل تعليمه الثانوي والاكاديمي العسكري في بلغراد، وليعمل بعد ذلك في كوسوفو كضابط صغير، حيث شارك في قمع المظاهرات الالبانية، ثم لينتقل إلى مقدونيا نهاية الثمانينات قبل أن يصبح جنرالا في الجيش، ويكلف العمليات العسكرية في البوسنة سنة 1992، ويتورط في ارتكاب عدة جرائم إبادة، وجرائم ضد الانسانية أكبرها على الاطلاق حملة الابادة في سريبرينتسا التي قتل فيها أكثر من 10 آلاف نسمة خلال ثلاثة أيام. ومذبحة بريدور التي أودت بحياة أكثر من 5 آلاف نسمة، ومذبحة نهر درينا التي راح ضحيتها أكثر من 3 آلاف نسمة، ومذبحة بيهاتش التي أودت بحياة 2500 نسمة، إضافة لما يزيد عن 12 ألف ضحية سقطوا في سراييفو لوحدها على مدة 4 سنوات من القصف والحصار بدون ماء ولا كهرباء ولا غاز، مع الجوع والعطش والبرد. وبسبب هذه الجرائم وجهت محكمة جرائم الحرب لملاديتش سنة 1995 اتهامات بارتكاب جرائم حرب، وطلبت من السلطات الصربية اعتقاله وتسليمه إليها وفاءً بالتزاماتها الدولية التي نصت عليها اتفاقية دايتون. وملاديتش معروفة عنه قسوته المفرطة ليس تجاه خصومه بل جنوده أيضا. ولم تعرف عنه توجهات سياسية معينة، وان كان عسكريا متعصبا لقوميته، لم يتورع عن نسف الرموز الثقافية والدينية لغير الصرب في البوسنة بما في ذلك المساجد والكنائس الكاثوليكية، حتى القبور لم تسلم من بطشه عندما رأى أنها تحمل طابعا ثقافيا، مختلفا، سواء كان ذلك من خلال الكتابات على لوحات المقابر، أو رفع الهلال على تلك اللوحات، أو حتى الصليب الكاثوليكي، المختلف عن صليبه الارثوذوكسي. ويقول المقربون منه إنه عنيد وكان يقول لجنوده، وفق شرائط مسجلة متاحة للجميع الآن، إن «القوات الدولية في البوسنة لم تأت سوى لحماية نفسها، وليس لها أي قضية يمكن أن تقاتل من أجلها في البوسنة»، ولذلك كان ملاديتش لا يتورع من قصف القوات الدولية نفسها، بل احتجاز الجنود التابعين للامم المتحدة كما فعل في سنوات 1993 و 1994 و1995، وهدد بقتلهم إن لم يوقف حلف «الناتو» قصف بعض المواقع الصربية. وغلظة ملاديتش تتجاوز حدود ساحات القتال، إلى حياته الخاصة، فقد رفض طلب ابنته سوزان الاقتران بالشخص الذي تحبه، لكنه رفض طلبها، فقتل صديقها، وعندما وصلها نبأ مقتله، انتحرت على الفور، وكان ذلك سنة 1994. وقد أثر انتحار ابنته الوحيدة على صحته، حيث يتعاطى حاليا قرابة ثمانية أنواع من الادوية يوميا بحسب تسريبات مقربين منه. غير ان اعتقال الجنرال الهارب ليس فقط مطلبا دوليا للعدالة، بل مطلب وطني لاعادة الاستقرار الى صربيا بين سكانها الصرب والمسلمين. ويقول بيار ريشار روسبير سفير الولايات المتحدة الخاص بجرائم الحرب إن اعتقال وتسليم الجنرال ملاديتش بمثابة الخروج من هذا النفق المظلم. وأشار روسبير على هامش الجلسة السنوية العامة للامم المتحدة في نيويورك إلى حصول تقدم في مجال تعاون بلغراد مع محكمة لاهاي «لكن ذلك لا يكفي»، وأضاف «الآن لدينا مشكلة وهي أن شخصا واحدا يعرقل مستقبل بلد مثل صربيا، وهو حجرة عثرة متبقية في طريق بلغراد نحو الاندماج في الشراكة الاوروأطلسية». يبقى السؤال وسط هذه المعمعة الكبرى يدور حول الآثار المترتبة على اعتقال ملاديتش، في حال حصوله، وقد انقسم المحللون حول ذلك بين من يؤكد أن الصرب لم يعودوا يهتمون بالقضايا الطائفية، كما هو الحال في السابق، مع ارتفاع الاسعار، وزيادة نسبة البطالة التي وصلت إلى 14 في المائة. في حين يرى آخرون أن الفقر يعوض أحيانا باللجوء إلى الطائفية، والحلول الراديكالية، مشيرين إلى أن انهيار يوغوسلافيا، كان يحمل في طياته إلى جانب العوامل الاخرى بصمات اقتصادية.
وتخشى الحكومة الصربية، من عواقب اعتقالها لملاديتش، على مستقبل تحالفها السياسي، ولذلك تحاول اقناع المجتمع الدولي بتأجيل ذلك لما بعد الانتخابات المقبلة. ويشير البعض إلى أن ردود الافعال لن تتجاوز ما قام به الكروات بعد اعتقال الجنرال أنتي غوتوفينا في اسبانيا نهاية العام الماضي، من مظاهرات، وحالات انتحار فردية، احتجاجا على عملية الاعتقال. ويعتقد الكثيرون أن الجنرال، الذي يعشق لعبة الشطرنج، قد يستسلم لعناده مرة أخرى ليقوده في نهاية المطاف إلى حتفه، حيث أعلن في وقت سابق أنه لن يستسلم حيا لمحكمة جرائم الحرب في لاهاي. وبين عناد ملاديتش، واحتمالات استسلامه، ينتظر الجميع الفصل الاخير من مغامرة الجنرال: الانتحار، أو حط الرحال في السجن بلاهاي.
سراييفو: عبد الباقي خليفة
تشعر بلغراد بضيق مساحة المناورة، وبصعوبة موقفها في الداخل والخارج، حيال قضية جرائم الحرب التي تلاحقها منذ 14 سنة، ولا سيما في ما يتعلق باعتقال وتسليم الجنرال راتكو ملاديتش، 53 سنة، الذي يطلق عليه «دراكولا البلقان» في تسعينات القرن العشرين، حيث لكل عصر في البلقان «دراكولا» خاص به، من ايفان الرهيب، وحتى راتكو ملاديتش.
وقد حاولت صربيا عبثا الإيهام بعدم وجوده في صربيا، حينا، والزعم بانتقاله للخارج حينا آخر. بيد أن الاعترافات الأخيرة لعدد من القادة العسكريين، ومن بينهم القائد السابق، والحالي للاستخبارات العسكرية، التي تؤكد أن الجنرال راتكو ملاديتش، كان يحظى بحماية الجيش داخل الثكنات العسكرية حتى سنة 2002، كما كان يتقاضى راتب تقاعده من الجيش، ضيَّقت الخناق على حكومة رئيس الوزراء الصربي فويسلاف كوشتونيتسا، وزادت من الحرج الذي تعانيه بلغراد، ومن الضغوط الدولية التي تزداد يوما بعد يوم على المسؤولين فيها. وتجد حكومة صربيا نفسها بين سندان الموقف الشعبي الرافض لاعتقال وتسليم الجنرال ملاديتش، وهو ما يعني سقوطها في الانتخابات القادمة، ومطرقة الضغوط الاميركية والاوروبية التي تدعوها للوفاء بالتزاماتها الدولية، وتلوح بالعقوبات الاقتصادية ووقف المساعدات المالية وتجميد مباحثات انضمامها الى الاتحاد الاوروبي، خاصة بعدما دعت ممثلة هيئة الادعاء بمحكمة جرائم الحرب في لاهاي كارلا ديل بونتي، أثناء زيارتها لفرنسا الاسبوع الماضي، الى اجراءات عقابية. الحقيقي هو أن «صبر» المجتمع الدولي بدأ ينفد مع عدم تعاون صربيا الكامل مع محكمة لاهاي، وبعد أن مر أكثر من 10 سنوات على انتهاء القتال في البوسنة، وتوقيع اتفاقية دايتون للسلام 21 نوفمبر 1995، بعد نحو شهر من المباحثات المضنية بين الفرقاء البوسنيين والصرب والكروات، الذين مثلهم كل من الرئيس البوسني الراحل علي عزت بيجوفيتش، والرئيس الكرواتي الراحل فرانيو توجمان، والرئيس اليوغسلافي الاسبق سلوبودان ميلوسيفيتش، المسجون حاليا في لاهاي لمتابعة قضيته.
وكانت اتفاقية دايتون للسلام قد نصت على تقديم المتهمين بارتكاب جرائم حرب إلى المحكمة الدولية التي تم انشاؤها بقرار من مجلس الأمن، للنظر في جرائم الحرب التي تم ارتكابها أثناء العدوان الصربي والكرواتي على البوسنة بين 1992 ـ 1995 والاعتداءات العرقية في كل من كرواتيا من 1991 ـ 1995 وكوسوفو بين 1998 ـ 1999 ومقدونيا 2001 . ويبلغ عدد المتهمين بارتكاب جرائم حرب الموجودين حاليا في لاهاي 155 فردا، منهم أكثر 106 متهمين صرب و31 متهما كرواتيا، و9 متهمين بوشناقا أطلق سراح أحدهم وهو الجنرال سفر خليلوفيتش القائد السابق للجيش البوسني. وينتظر اعتقال 8 متهمين صرب لا يزالون في حالة فرار في مقدمتهم زعيما الحرب رادوفان كراجيتش، والجنرال راتكو ملاديتش قائد قوات صرب البوسنة سابقا. وتعتبر طريقة اختفاء الجنرال ملاديتش صورة معبرة عن الوضع السائد في الجمهوريات المستقلة عن يوغوسلافيا السابقة، والتي عادت لوضعها الطبيعي، بعد سنوات من الإلحاق القسري بالمملكة اليوغوسلافية 1919 الى 1945، ومن ثم بيوغوسلافيا الاتحادية 1945 الى 1992 . ففي نهاية 1995 وبداية 1996، وعلى إثر توقيع اتفاقية دايتون، وصل إلى البلاد المثقلة بجراح القصف وحملات الابادة 60 ألف جندي من قوات حلف شمال الأطلسي للاشراف على تنفيذ اتفاقية دايتون، والقيام باعتقال المتهمين بارتكاب جرائم حرب، في مقدمتهم زعيما الحرب رادوفان كراجيتش، والجنرال ملاديتش، لكن ذلك لم يتم حتى سنة 1997، عندما أعلن عن اختفاء كل من كراجيتش وملاديتش بعد حملات اعلامية وسياسية تطالب بتنفيذ البند الخاص بمحكمة جرائم الحرب في اتفاقية دايتون أدى لاستقالات في بعض الدوائر الدولية ولا سيما الادعاء العام في محكمة لاهاي. وقد سرت ساعتها اشاعات بأن هناك اتفاقا غير معلن بين الجنرال ملاديتش وكراجيتش من جهة، وعناصر دولية نافذة في شكل مقايضة مفادها أن يترك الاثنان السياسة والظهور العلني ويختفيا عن الانظار، مقابل عدم تنفيذ القرارات الدولية بخصوصهما. وتستشهد هذه الجهات بوقائع لا تقبل الدحض، من وجهة نظرها، من بينها مرور كل من كراجيتش وملاديتش في السنوات 1996 و 1997 على نقاط التفتيش التابعة لحلف الناتو بدون يجرؤ أحد على اعتقالهما.
بيد أن الأسئلة لا تزال تتكرر باستمرار، وبإلحاح، وتشكك في عجز حلف شمال الأطلسي بامكانياته الضخمة عن الوصول إلى مكان اختباء ملاديتش الذي ولد في منطقة هان بياسكا بشرق البوسنة، سنة 1953 وترعرع فيها، في ظل والده الذي كان يعمل بالسكك الحديد، وواصل تعليمه الثانوي والاكاديمي العسكري في بلغراد، وليعمل بعد ذلك في كوسوفو كضابط صغير، حيث شارك في قمع المظاهرات الالبانية، ثم لينتقل إلى مقدونيا نهاية الثمانينات قبل أن يصبح جنرالا في الجيش، ويكلف العمليات العسكرية في البوسنة سنة 1992، ويتورط في ارتكاب عدة جرائم إبادة، وجرائم ضد الانسانية أكبرها على الاطلاق حملة الابادة في سريبرينتسا التي قتل فيها أكثر من 10 آلاف نسمة خلال ثلاثة أيام. ومذبحة بريدور التي أودت بحياة أكثر من 5 آلاف نسمة، ومذبحة نهر درينا التي راح ضحيتها أكثر من 3 آلاف نسمة، ومذبحة بيهاتش التي أودت بحياة 2500 نسمة، إضافة لما يزيد عن 12 ألف ضحية سقطوا في سراييفو لوحدها على مدة 4 سنوات من القصف والحصار بدون ماء ولا كهرباء ولا غاز، مع الجوع والعطش والبرد. وبسبب هذه الجرائم وجهت محكمة جرائم الحرب لملاديتش سنة 1995 اتهامات بارتكاب جرائم حرب، وطلبت من السلطات الصربية اعتقاله وتسليمه إليها وفاءً بالتزاماتها الدولية التي نصت عليها اتفاقية دايتون. وملاديتش معروفة عنه قسوته المفرطة ليس تجاه خصومه بل جنوده أيضا. ولم تعرف عنه توجهات سياسية معينة، وان كان عسكريا متعصبا لقوميته، لم يتورع عن نسف الرموز الثقافية والدينية لغير الصرب في البوسنة بما في ذلك المساجد والكنائس الكاثوليكية، حتى القبور لم تسلم من بطشه عندما رأى أنها تحمل طابعا ثقافيا، مختلفا، سواء كان ذلك من خلال الكتابات على لوحات المقابر، أو رفع الهلال على تلك اللوحات، أو حتى الصليب الكاثوليكي، المختلف عن صليبه الارثوذوكسي. ويقول المقربون منه إنه عنيد وكان يقول لجنوده، وفق شرائط مسجلة متاحة للجميع الآن، إن «القوات الدولية في البوسنة لم تأت سوى لحماية نفسها، وليس لها أي قضية يمكن أن تقاتل من أجلها في البوسنة»، ولذلك كان ملاديتش لا يتورع من قصف القوات الدولية نفسها، بل احتجاز الجنود التابعين للامم المتحدة كما فعل في سنوات 1993 و 1994 و1995، وهدد بقتلهم إن لم يوقف حلف «الناتو» قصف بعض المواقع الصربية. وغلظة ملاديتش تتجاوز حدود ساحات القتال، إلى حياته الخاصة، فقد رفض طلب ابنته سوزان الاقتران بالشخص الذي تحبه، لكنه رفض طلبها، فقتل صديقها، وعندما وصلها نبأ مقتله، انتحرت على الفور، وكان ذلك سنة 1994. وقد أثر انتحار ابنته الوحيدة على صحته، حيث يتعاطى حاليا قرابة ثمانية أنواع من الادوية يوميا بحسب تسريبات مقربين منه. غير ان اعتقال الجنرال الهارب ليس فقط مطلبا دوليا للعدالة، بل مطلب وطني لاعادة الاستقرار الى صربيا بين سكانها الصرب والمسلمين. ويقول بيار ريشار روسبير سفير الولايات المتحدة الخاص بجرائم الحرب إن اعتقال وتسليم الجنرال ملاديتش بمثابة الخروج من هذا النفق المظلم. وأشار روسبير على هامش الجلسة السنوية العامة للامم المتحدة في نيويورك إلى حصول تقدم في مجال تعاون بلغراد مع محكمة لاهاي «لكن ذلك لا يكفي»، وأضاف «الآن لدينا مشكلة وهي أن شخصا واحدا يعرقل مستقبل بلد مثل صربيا، وهو حجرة عثرة متبقية في طريق بلغراد نحو الاندماج في الشراكة الاوروأطلسية». يبقى السؤال وسط هذه المعمعة الكبرى يدور حول الآثار المترتبة على اعتقال ملاديتش، في حال حصوله، وقد انقسم المحللون حول ذلك بين من يؤكد أن الصرب لم يعودوا يهتمون بالقضايا الطائفية، كما هو الحال في السابق، مع ارتفاع الاسعار، وزيادة نسبة البطالة التي وصلت إلى 14 في المائة. في حين يرى آخرون أن الفقر يعوض أحيانا باللجوء إلى الطائفية، والحلول الراديكالية، مشيرين إلى أن انهيار يوغوسلافيا، كان يحمل في طياته إلى جانب العوامل الاخرى بصمات اقتصادية.
وتخشى الحكومة الصربية، من عواقب اعتقالها لملاديتش، على مستقبل تحالفها السياسي، ولذلك تحاول اقناع المجتمع الدولي بتأجيل ذلك لما بعد الانتخابات المقبلة. ويشير البعض إلى أن ردود الافعال لن تتجاوز ما قام به الكروات بعد اعتقال الجنرال أنتي غوتوفينا في اسبانيا نهاية العام الماضي، من مظاهرات، وحالات انتحار فردية، احتجاجا على عملية الاعتقال. ويعتقد الكثيرون أن الجنرال، الذي يعشق لعبة الشطرنج، قد يستسلم لعناده مرة أخرى ليقوده في نهاية المطاف إلى حتفه، حيث أعلن في وقت سابق أنه لن يستسلم حيا لمحكمة جرائم الحرب في لاهاي. وبين عناد ملاديتش، واحتمالات استسلامه، ينتظر الجميع الفصل الاخير من مغامرة الجنرال: الانتحار، أو حط الرحال في السجن بلاهاي.