قاسم
02-05-2006, 10:35 AM
محمد م. الأرناؤوط
أستاذ التاريخ الحديث في جامعة آل البيت / الاردن.
الحياة - 28/01/2006
يثير الكتاب الصادر في نهاية 2005 للمحقق والباحث في التراث العربي الإسلامي محمود الأرناؤوط «سيرة العلامة الشيخ عبدالقادر الأرناؤوط» أموراً مهمة وشجوناً حول هجرة أغنت بلاد الشام التي هي غنية في الأصل، بجماعة اثنية جديدة (الألبان) كان لها إسهامها الذي يفوق كثيراً حجمها في مجال لم يكن من المتوقع أن تبرز فيه: علم الحديث وتحقيق التراث العربي الإسلامي. ويكفي القول هنا إن لدينا ثلاثة ممن عرفوا بشيوخ الحديث والتحقيق في بلاد الشام وأطراف العالم الإسلامي، ألا وهم محمد ناصر الدين الألباني (1914-1999) وعبدالقادر الأرناؤوط (1928-2004) وشعيب الأرناؤوط (ولد 1928).
وتجدر الإشارة إلى أن هجرة الألبان إلى بلاد الشام جاءت في بداية القرن العشرين من مصدرين وعهدين مختلفين. أما المصدر الأول فكان من كوسوفو (أو «قصوه» كما كانت تعرف وتكتب) بعد احتلال صربيا لها نتيجة للحرب البلقانية 1912-1913 التي أنهت الحكم العثماني في البلقان. وبسبب ظروف الحرب وممارسات القوات الصربية هناك فقد اضطرت للهجرة أعداد كبيرة من السكان الألبان إلى الشرق، وبالتحديد إلى ما بقي من الدولة العثمانية (الأناضول وبلاد الشام). وقد استمرت هذه الهجرة في العشرينات والثلاثينات، أي بعد أن أصبحت كوسوفو مع صربيا جزءاً من الدولة الجديدة (يوغوسلافيا) التي مارست مختلف الضغوط على المسلمين فيها (من ألبان وبشناق وأتراك) لحملهم على الهجرة منها.
وفي غضون ذلك بدأت هجرة أخرى (وإن كانت صغيرة) من ألبانيا المجاورة، الدولة التي ضمت نصف الألبان بحدودها الحالية منذ 1913 والتي استقرت بهذه الحدود بعد 1920 فقط. وفي تلك الفترة عرفت ألبانيا (ذات الغالبية المسلمة) تحولات كبيرة نتيجة الإصلاحات العلمانية التي قادها أحمد زوغو رئيس الحكومة (1922-1924) ورئيس الجمهورية (1925-1927) وملك ألبانيا (1928-1939). وقد أدى هذا التحول السريع نحو العلمانية إلى اندفاع بعض العائلات ذات التقاليد الدينية إلى الهجرة إلى بلاد الشام تعبيراً عن رفضها لما كان يجرى في ألبانيا آنذاك.
وعلى حين أن هجرة الألبان من كوسوفو حملت في الأساس عائلات ريفية مع عدد محدود جداً من العائلات المدينية ذات الثقافة الدينية، نجد أن الهجرة من ألبانيا اقتصرت تقريباً على عائلات بعض علماء الدين الذين لم يرتضوا البقاء في بلد يتحول إلى العلمانية.
ومن هنا يمكن الحديث عن الجيل الأول من العلماء الألبان الذين هاجروا إلى بلاد الشام واستقروا فيها، حيث كانوا يمثلون وجوه الجالية الألبانية الجديدة التي تمركزت في دمشق. ومن هؤلاء يمكن ذكر أربعة كان لهم دور في تعليم الجيل الثاني من الألبان الذين ولدوا في كوسوفو وألبانيا ونشأوا في بلاد الشام، ألا وهم الشيخ نوح نجاتي والشيخ سليمان غاوجي والشيخ إسماعيل البرشتوي والشيخ حموي الأرناؤوط.
ويلاحظ هنا أن من هؤلاء من بقي على صلة بمسقطه ويكتب في الألبانية كالشيخ إسماعيل البرشتوي (نسبة إلى بريشيتنا عاصمة كوسوفو) الذي نظم خلال وجوده في دمشق «مولداً» أرسله إلى كوسوفو لينشد هناك في الاحتفالات التي تقام في ذكرى المولد النبوي، ومنهم من انقطع وألف في اللغة العربية فقط في القضايا التي كانت تشغل العالم الإسلامي آنذاك كالشيخ سليمان غاوجي الذي نشر في دمشق في 1949 كتاباً بعنوان «نجاة المؤمنين بعدم التشبه بالكافرين».
أما الجيل الثاني الذي ولد في كوسوفو وألبانيا وهاجر محمولاً على الأيدي إلى بلاد الشام حيث نشأ وتعلم، فقد نبغ منه ثلاثة من الكبار الذين تجاوزت شهرتهم بلاد الشام إلى أطراف العالم الإسلامي في النصف الثاني من القرن العشرين، ألا وهم محمد ناصر الدين الألباني وعبدالقادر الأرناؤوط وشعيب الأرناؤوط.
ويلاحظ هنا أن اثنين منهم من ألبانيا (محمد ناصر الدين وشعيب الأرناؤوط) والثالث من كوسوفو (عبدالقادر الأرناؤوط). ومع ذلك يلاحظ أن ما يجمع بينهم أن تكوينهم العلمي كان على النمط القديم (حلقات العلم في المساجد) سواء عند الجيل الأول من العلماء الألبان (نوح نجاتي وسليمان غاوجي وحمدي الأرناؤوط)، أو عند العلماء الشوام ( الشيخ محمد صالح الفرفور وغيره) أو المقيمين في الشام كالشيخ عبد الله الحبشي الهرري الذي أخذ منه عبدالقادر الارناؤوط وشعيب الارناؤوط اجازة في الحديث النبوي. كما يلاحظ أن ما يجمع بينهم هو الاهتمام بدراسة الحديث والاهتمام بتحقيق التراث. وحتى على صعيد بداية العمل في خدمة الحديث والنشر فقد كان يجمعهم العمل في «المكتب الإسلامي» الذي كان قد أسسه زهير الشاويش والذي اكتسب شهرة في المنطقة والعالم الإسلامي بعشرات الكتب التي حققها هؤلاء الثلاثة (سواء ظهرت أسماؤهم فيها أو خفيت), قبل ان يتفرقوا وينشروا ما يحققوه لدى دور النشر الأخرى السورية والسعودية واللبنانية والاردنية.
وعلى الرغم من الاصل الاثني المشترك (الالباني) الا أن العلاقة بين هؤلاء لم تكن على هذا الاساس, ولذلك لم تكن تمنع من الاختلاف والخلاف حول قضايا الحديث والسلف الصالح والسلفية الجديدة , حيث فرقت بينهم بعض الامور التي انعكست على تعليقات في كتبهم على بعضهم البعض أو في ممارسات معينة تتعلق بالعلاقة مع الاخرين/ المخالفين.
ويحاول محمود الأرناؤوط في كتابه المذكور أن يعقد مقارنة بين هؤلاء الثلاثة، الذين أصبح لهم تلاميذ كثر في بلاد الشام وأطراف العالم الإسلامي يأخذون بمنهجهم في العمل الذي اختطوه لأنفسهم، والذي بقي يذكِّر بإسهام هؤلاء الكبار في هذا المجال: الحديث النبوي وتحقيق كتب التراث العربي الإسلامي.
وهكذا يذكر أن الشيخ محمد ناصر الدين الألباني كان «أوسع الشيوخ الثلاثة دائرة في شؤون الحديث النبوي وتمكناً من تتبع الأحاديث وشواهدها والحكم عليها، وإليه يعود الفضل في شق الطريق للمشتغلين بتخريج الحديث النبوي ببلاد الشام على نحو لم يسبق إليه»، على حين أن الشيخ عبدالقادر الأرناؤوط كان «أحفظ الشيوخ الثلاثة لنصوص الأحاديث بمتونها وأسانيدها، وأقواهم في أمر الربط بين نصوص الكتاب والسنة وآراء الفقهاء الكبار وأكثرهم اعتدالاً في شؤون الحكم على الأحاديث التي من خارج الصحيحين تصحيحاً وتضميناً»، بينما الشيخ شعيب الأرناؤوط هو «أعلم الشيوخ الثلاثة في شؤون تحقيق نصوص التراث وضبطها، وأقدر الثلاثة على إخراج مصنفات التراث الإخراج اللائق الممتع، وصاحب فضل عظيم في تخريج جيل من المشتغلين بتحقيق كتب التراث وتخريج الأحاديث النبوية».
وأخيراً تجدر الإشارة إلى أن لدينا أيضاً من الجيل الثاني وهبي غاوجي (ابن الشيخ سليمان غاوجي) الذي اشتغل في التدريس والتأليف، وإبراهيم الأرناؤوط (شقيق شعيب الأرناؤوط) الذي شارك الشيخ عبدالقادر الأرناؤوط والشيخ شعيب الأرناؤوط في تحقيق بعض الكتب مثل «جامع الاصول في أحاديث الرسول» و «الرصف فيما جاء عن النبي من الفعل والوصف» وغيرهما، ولكنه انقطع بعد ذلك عن العمل لأسباب ليس هنا الخوض فيها.
ومع كل هذا يمكن الحديث عن جيل ثالث وآخر رابع قادم على الطريق في مناسبة أخرى.
أستاذ التاريخ الحديث في جامعة آل البيت / الاردن.
الحياة - 28/01/2006
يثير الكتاب الصادر في نهاية 2005 للمحقق والباحث في التراث العربي الإسلامي محمود الأرناؤوط «سيرة العلامة الشيخ عبدالقادر الأرناؤوط» أموراً مهمة وشجوناً حول هجرة أغنت بلاد الشام التي هي غنية في الأصل، بجماعة اثنية جديدة (الألبان) كان لها إسهامها الذي يفوق كثيراً حجمها في مجال لم يكن من المتوقع أن تبرز فيه: علم الحديث وتحقيق التراث العربي الإسلامي. ويكفي القول هنا إن لدينا ثلاثة ممن عرفوا بشيوخ الحديث والتحقيق في بلاد الشام وأطراف العالم الإسلامي، ألا وهم محمد ناصر الدين الألباني (1914-1999) وعبدالقادر الأرناؤوط (1928-2004) وشعيب الأرناؤوط (ولد 1928).
وتجدر الإشارة إلى أن هجرة الألبان إلى بلاد الشام جاءت في بداية القرن العشرين من مصدرين وعهدين مختلفين. أما المصدر الأول فكان من كوسوفو (أو «قصوه» كما كانت تعرف وتكتب) بعد احتلال صربيا لها نتيجة للحرب البلقانية 1912-1913 التي أنهت الحكم العثماني في البلقان. وبسبب ظروف الحرب وممارسات القوات الصربية هناك فقد اضطرت للهجرة أعداد كبيرة من السكان الألبان إلى الشرق، وبالتحديد إلى ما بقي من الدولة العثمانية (الأناضول وبلاد الشام). وقد استمرت هذه الهجرة في العشرينات والثلاثينات، أي بعد أن أصبحت كوسوفو مع صربيا جزءاً من الدولة الجديدة (يوغوسلافيا) التي مارست مختلف الضغوط على المسلمين فيها (من ألبان وبشناق وأتراك) لحملهم على الهجرة منها.
وفي غضون ذلك بدأت هجرة أخرى (وإن كانت صغيرة) من ألبانيا المجاورة، الدولة التي ضمت نصف الألبان بحدودها الحالية منذ 1913 والتي استقرت بهذه الحدود بعد 1920 فقط. وفي تلك الفترة عرفت ألبانيا (ذات الغالبية المسلمة) تحولات كبيرة نتيجة الإصلاحات العلمانية التي قادها أحمد زوغو رئيس الحكومة (1922-1924) ورئيس الجمهورية (1925-1927) وملك ألبانيا (1928-1939). وقد أدى هذا التحول السريع نحو العلمانية إلى اندفاع بعض العائلات ذات التقاليد الدينية إلى الهجرة إلى بلاد الشام تعبيراً عن رفضها لما كان يجرى في ألبانيا آنذاك.
وعلى حين أن هجرة الألبان من كوسوفو حملت في الأساس عائلات ريفية مع عدد محدود جداً من العائلات المدينية ذات الثقافة الدينية، نجد أن الهجرة من ألبانيا اقتصرت تقريباً على عائلات بعض علماء الدين الذين لم يرتضوا البقاء في بلد يتحول إلى العلمانية.
ومن هنا يمكن الحديث عن الجيل الأول من العلماء الألبان الذين هاجروا إلى بلاد الشام واستقروا فيها، حيث كانوا يمثلون وجوه الجالية الألبانية الجديدة التي تمركزت في دمشق. ومن هؤلاء يمكن ذكر أربعة كان لهم دور في تعليم الجيل الثاني من الألبان الذين ولدوا في كوسوفو وألبانيا ونشأوا في بلاد الشام، ألا وهم الشيخ نوح نجاتي والشيخ سليمان غاوجي والشيخ إسماعيل البرشتوي والشيخ حموي الأرناؤوط.
ويلاحظ هنا أن من هؤلاء من بقي على صلة بمسقطه ويكتب في الألبانية كالشيخ إسماعيل البرشتوي (نسبة إلى بريشيتنا عاصمة كوسوفو) الذي نظم خلال وجوده في دمشق «مولداً» أرسله إلى كوسوفو لينشد هناك في الاحتفالات التي تقام في ذكرى المولد النبوي، ومنهم من انقطع وألف في اللغة العربية فقط في القضايا التي كانت تشغل العالم الإسلامي آنذاك كالشيخ سليمان غاوجي الذي نشر في دمشق في 1949 كتاباً بعنوان «نجاة المؤمنين بعدم التشبه بالكافرين».
أما الجيل الثاني الذي ولد في كوسوفو وألبانيا وهاجر محمولاً على الأيدي إلى بلاد الشام حيث نشأ وتعلم، فقد نبغ منه ثلاثة من الكبار الذين تجاوزت شهرتهم بلاد الشام إلى أطراف العالم الإسلامي في النصف الثاني من القرن العشرين، ألا وهم محمد ناصر الدين الألباني وعبدالقادر الأرناؤوط وشعيب الأرناؤوط.
ويلاحظ هنا أن اثنين منهم من ألبانيا (محمد ناصر الدين وشعيب الأرناؤوط) والثالث من كوسوفو (عبدالقادر الأرناؤوط). ومع ذلك يلاحظ أن ما يجمع بينهم أن تكوينهم العلمي كان على النمط القديم (حلقات العلم في المساجد) سواء عند الجيل الأول من العلماء الألبان (نوح نجاتي وسليمان غاوجي وحمدي الأرناؤوط)، أو عند العلماء الشوام ( الشيخ محمد صالح الفرفور وغيره) أو المقيمين في الشام كالشيخ عبد الله الحبشي الهرري الذي أخذ منه عبدالقادر الارناؤوط وشعيب الارناؤوط اجازة في الحديث النبوي. كما يلاحظ أن ما يجمع بينهم هو الاهتمام بدراسة الحديث والاهتمام بتحقيق التراث. وحتى على صعيد بداية العمل في خدمة الحديث والنشر فقد كان يجمعهم العمل في «المكتب الإسلامي» الذي كان قد أسسه زهير الشاويش والذي اكتسب شهرة في المنطقة والعالم الإسلامي بعشرات الكتب التي حققها هؤلاء الثلاثة (سواء ظهرت أسماؤهم فيها أو خفيت), قبل ان يتفرقوا وينشروا ما يحققوه لدى دور النشر الأخرى السورية والسعودية واللبنانية والاردنية.
وعلى الرغم من الاصل الاثني المشترك (الالباني) الا أن العلاقة بين هؤلاء لم تكن على هذا الاساس, ولذلك لم تكن تمنع من الاختلاف والخلاف حول قضايا الحديث والسلف الصالح والسلفية الجديدة , حيث فرقت بينهم بعض الامور التي انعكست على تعليقات في كتبهم على بعضهم البعض أو في ممارسات معينة تتعلق بالعلاقة مع الاخرين/ المخالفين.
ويحاول محمود الأرناؤوط في كتابه المذكور أن يعقد مقارنة بين هؤلاء الثلاثة، الذين أصبح لهم تلاميذ كثر في بلاد الشام وأطراف العالم الإسلامي يأخذون بمنهجهم في العمل الذي اختطوه لأنفسهم، والذي بقي يذكِّر بإسهام هؤلاء الكبار في هذا المجال: الحديث النبوي وتحقيق كتب التراث العربي الإسلامي.
وهكذا يذكر أن الشيخ محمد ناصر الدين الألباني كان «أوسع الشيوخ الثلاثة دائرة في شؤون الحديث النبوي وتمكناً من تتبع الأحاديث وشواهدها والحكم عليها، وإليه يعود الفضل في شق الطريق للمشتغلين بتخريج الحديث النبوي ببلاد الشام على نحو لم يسبق إليه»، على حين أن الشيخ عبدالقادر الأرناؤوط كان «أحفظ الشيوخ الثلاثة لنصوص الأحاديث بمتونها وأسانيدها، وأقواهم في أمر الربط بين نصوص الكتاب والسنة وآراء الفقهاء الكبار وأكثرهم اعتدالاً في شؤون الحكم على الأحاديث التي من خارج الصحيحين تصحيحاً وتضميناً»، بينما الشيخ شعيب الأرناؤوط هو «أعلم الشيوخ الثلاثة في شؤون تحقيق نصوص التراث وضبطها، وأقدر الثلاثة على إخراج مصنفات التراث الإخراج اللائق الممتع، وصاحب فضل عظيم في تخريج جيل من المشتغلين بتحقيق كتب التراث وتخريج الأحاديث النبوية».
وأخيراً تجدر الإشارة إلى أن لدينا أيضاً من الجيل الثاني وهبي غاوجي (ابن الشيخ سليمان غاوجي) الذي اشتغل في التدريس والتأليف، وإبراهيم الأرناؤوط (شقيق شعيب الأرناؤوط) الذي شارك الشيخ عبدالقادر الأرناؤوط والشيخ شعيب الأرناؤوط في تحقيق بعض الكتب مثل «جامع الاصول في أحاديث الرسول» و «الرصف فيما جاء عن النبي من الفعل والوصف» وغيرهما، ولكنه انقطع بعد ذلك عن العمل لأسباب ليس هنا الخوض فيها.
ومع كل هذا يمكن الحديث عن جيل ثالث وآخر رابع قادم على الطريق في مناسبة أخرى.