yasmeen
02-05-2006, 08:41 AM
أسرار وحكايات من حياة آخر الأئمة المجتهدين
يكشفها - حسن عبدالله
http://www.alwatan.com.kw/Data/site1/News/Issues200602/lc12-020506.pc.jpg
لم تعرف الأمة الاسلامية عالما ملأ الساحة علما وفقها واجتهادا مثل الامام الاكبر الشيخ محمود شلتوت، فقد وصفوه بانه «اخر الأئمة المجتهدين»، وفي مدرسته تربى علماء وفقهاء عصرنا هذا: الشيخ محمد الغزالي ود. يوسف القرضاوي والشيخ سابق سابق وشيخ الازهر الحالي د. محمد سيد طنطاوي وغيرهم من العلماء الذين حملوا فقه الاسلام الى ابناء هذا الزمن.. سهلا مستنيرا ميسرا، وللمرة الاولى في تاريخ الاسلام منذ بداية الخلاف بين السنة والشيعة، اصدر فتوى باسمه وباسم الازهر تقرر بان الشيعة مذهب اسلامي يجوز التعبد بفقهه لاي من المسلمين، وادخل دراسة الفقه الجعفري والزيدي «الشيعيين» الى المناهج بجامعة الازهر، مغلقا الباب امام اي صراع مذهبي وفاتحا الساحة امام وحدة اسلامية شاملة 70 عاما قضاها الشيخ محمود شلتوت حارب فيها الخرافات والاسرائيليات والجمود، ودعا الى مقاومة الصهيونية باعتبارها العدو الاول للاسلام، وطالب باعطاء المرأة المسلمة الحقوق التي فرضها لها الاسلام، وحددها بشكل واضح في مؤلفاته.
زرنا اسرة الشيخ محمود شلتوت، وقلبنا مع ابنائه واحفاده اوراقه الخاصة، وتعرفنا على الملامح الانسانية والعلمية لاول شيخ حمل لقب «الامام الاكبر» بعد صدور قانون تطوير الازهر، لم يتوقف الامام الاكبر الشيخ محمود شلتوت عن محاربة الجمود والغلو طوال حياته، وكانت اراؤه من النفاذ والقوة بحيث تجاوزت حدود مصر الى بلاد العروبة والاسلام، فقد ترجمت كتبه الى عشرات اللغات، وبفضل فقهه وعلمه نالت الشريعة الاسلامية مكانتها في المحافل القانونية والتشريعية الدولية، وفتح باب الاجتهاد واسعا داعيا الى محاربة العصبية المذهبية التي جعلت من المذاهب اديانا، ومرسيا قواعد الفقه الذي يستمد احكامه من ضرورات الواقع واحكامه، ومطالعا العالم الاسلامي من حوله بآرائه الاصلاحية التي قدمت الاسلام سهلا عذبا للمسلمين.
ووسط كل هذا كان الامام الاكبر الشيخ محمود شلتوت يعيش حياته وسط ابنائه كأي رب اسرة مسلم، يرعى ابناءه ويحنو عليهم، ويتبسط لهم ومعهم، ويرى التفاف ابنائه واحفاده من حوله نعمة من نعم الله يحمده عليها.
ولد الشيخ شلتوت في الثالث والعشرين من ابريل عام 1893 ببلدية منية بني منصور مركز ايتاي البارود بمحافظة البحيرة، واتم حفظ القرآن في سن مبكرة والتحق بمعهد الاسكندرية الديني وكان اول فرقته في جميع سنوات الدراسة، ونال شهادة العالمية عام 1918 وكان ترتيبه الاول على ابناء دفعته، وبعد تخرجه عين مدرسا بمعهد الاسكندرية الديني عام 1919، وتابع نشاطه العلمي في المعهد، والاوساط العلمية، وراح يكتب في الصحافة مناديا بوجود اصلاح الأزهر واستقلاله عن الجهات التي كان يخضع لها.
رحلة الشيخ
«كنت مع الامام الاكبر في رحلته منذ البداية وحتى اللحظات الاخيرة في حياته»
يقول الشيخ احمد نصار زوج ابنة الشيخ شلتوت ومدير مكتبه وسكرتيره الخاص ويضيف: تعلقت بالشيخ محمود شلتوت منذ الثلاثينات حيث كنا ننتظر مقالته في مجلة الرسالة ونحن طلاب بالثانوي، كان يكتب كثيرا عن اصلاح الازهر مؤيدا للشيخ المراغي، وعندما انتهت دراستي الثانوية انتقلت الى الدراسة بكلية اللغة العربية وكان الشيخ شلتوت يلقى محاضراته في كلية الشريعة في مبنى تفسير القرآن الكريم وكانت الكليتان في مبنى واحد بشارع البراموني، فكنا نحضر له محاضراته وتوثقت العلاقة لانني كنت اسكن بجوار اقارب الشيخ شلتوت في قرية «صفط جذام» بالمنوفية وزرت الشيخ في منزله وعلمت ان عنده فتاة هي اصغر اولاده فتقدمت لخطبتها وكان من حسن حظي انني صاهرت الشيخ شلتوت ومن هنا كنت احضر للشيخ شلتوت جلساته العلمية وكان ايضا يحضرها الشيخ يوسف القرضاوي والشيخ احمد العسال، وكانا من تلاميذه الذين لم يدرسوا عليه، وانما كانا من المقربين منه، اما تلاميذه الذين درسوا عليه في معهد الاسكندرية فمنهم د.محمد البهي ود.محمد عبدالله ماضي وجاء من بعدهم الشيخ محمد الغزالي، وظلت علاقة الامام الاكبر مع الشيخ سيد سابق والشيخ الغزالي حتى اخر حياته كنت قد عُينت مدرسا في وزارة التربية والتعليم فطلب الشيخ شلتوت من الاخ كمال الدين حسين ان ينقلني من الوزارة الى الازهر، فنقلت الى معهد القاهرة الثانوي ثم انتدبني الامام الاكبر مديرا لمكتبه سنة 1959 وكان الشيخ شلتوت من محبي الامام محمد عبده، ومن تلاميذ مدرسته الفكرية الاصلاحية لذلك عندما تولى مشيخة الازهر اطلق اسم الامام محمد عبده على قاعة محاضرات مازالت موجودة حتى الآن.
بين الإمامين
«أعتقد ان الامام الاكبر الشيخ محمود شلتوت احد اهم اعلام الاجتهاد في العصر الحديث».. يعلق الامام الاكبر د.محمد سيد طنطاوي شيخ الازهر ويقول: كان فضيلته-رحمه الله- من المع العقليات الفقهية التي اشتغلت بالفقه وتفسير القرآن الكريم، وكانت له آراؤه ونظراته الاجتهادية في الاحكام الفقهية، لم يكتف فيها بمجرد النقل عن الكتب وانما كان له رأيه الذي جهر به، بعد ان درس وطالع، ووازن ورجح معتمدا على النصوص الشرعية الصحيحة، وعلى ما منحه الخالق عزوجل من عقل راجح ومن فكر ثاقب ومن شجاعة في تبليغ كلمة الحق دون ان يخشى احدا سوى اللهسبحانه ولقد كانت فتواه -رحمه الله وطيب ثراه- في حل ارباح صناديق التوفير من اعظم فتاواه التي تدل على رجاحه عقله، وسداد تفكيره وشجاعة قلبه، وصحة اجتهاده، وفهمه السليم لشؤون دينه ودنياه، وهي مسجلة في كتابه «الفتاوى» وفيها يقول: «الربح الذي تدفعه مصلحة البريد لاصحاب الاموال المودعة في صندوق التوفير حلال لا حرمة فيه، ذلك ان المال المودع لم يكن دينا لصاحبه على صندوق التوفير ولم يقترضه صندوق التوفير منه، وانما تقدم به صاحبه الى مصلحة البريد من تلقاء نفسه طائعا مختارا، ملتمسا قبول المصلحة اياه، وهو يعرف ان المصلحة تستغل الاموال المودعة لديها في مواد تجارية ويندر فيها -ان لم يعدم- الكساد والخسران وقد قصد بهذا الايداع
أولا: حفظ ماله من الضياع، وتعويد نفسه على التوفير والاقتصاد
ثانيا: إمداد المصلحة بزيادة رأس مالها، ليتسع نطاق معاملاتها، وتكثر ارباحها فينتفع العمال والموظفون وتنتفع الحكومة بفاضل الارباح.
ولاشك ان هذين الامرين، غرضان شريفان كلاهما خير وبركة ويستحق صاحبهما التشجيع فاذا ما عينت المصلحة لهذا التشجيع قدرا من ارباحها منسوبا الى المال المودع اي نسبة تريد، وتقدمت به الى صاحب المال، كانت دون شك معاملة ذات نفع تعاوني مشترك، وليس فيها مع هذا النفع العام ادنى شائبة لظلم احد او استغلال لحاجة احد، ولا يتوقف حل هذه المعاملة على ان تندمج في نوع من انواع الشركات التي عرفها الفقهاء وتحدثوا عنها وعن احكامها فهذه المعاملة بكيفيتها وبظروفها كلها وبضمان ارباحها، لم تكن معروفة لفقهائنا الاولين وقت ان بحثوا الشركة ونوعوها، واشترطوا فيها ما اشترطوا وليس من ريب في ان التقدم البشري احدث في الاقتصاديات انواعا من العقود والاتفاقات المركزة على اسس صحيحة لم تكن معروفة من قبل، ومادام الميزان الشرعي في حل التعامل وحرمته قائما في كتاب الله «والله يعلم المفسد من المصلح» «لا تظلمون ولا تظلمون» فما علينا ان نحكمه ونسير على مقتضاه.
أرأيت- يكمل د.طنطاوي- كيف ان الشيخ الجليل شلتوت من اعلام الاجتهاد في العصر الحديث، وانه من اصحاب العقائد السليمة، والعقول الثابتة، والاخلاص في خدمة دينه وامته!!
وفاء الشيخ
«الوفاء كان اهم صفات الامام الاكبر الشيخ شلتوت» يعود الشيخ أحمد نصار مدير مكتبه وزوج ابنته ليقول ويكمل: عملت مع الشيخ شلتوت حتى وفاته في ديسمبر 1963، فكنت لا اتركه ولا يتركني، وأذكر جيدا انه كان صديقا للمرحوم الشيخ محمد عبداللطيف دراز، منذ ان كانا طالبين، وامتدت العلاقة الى الشيخ المراغي فأصبحت متينة لكن فترت هذه العلاقة في بعض الأوقات خصوصاً في السنين التي تلت عودة الشيخ المراغي لمشيخة الازهر، كما ان الشيخين - دراز والمراغي - كانا يهتمان بالسياسة، في حين ان الشيخ شلتوت كان يهتم بالنواحي العلمية والبحثية، وكانت له صداقات مع بعض المنتسبين الى الاحزاب مثل وزير العدل صبري ابو علم، ود.طه حسين، الذي كان زميله في مجمع اللغة العربية، والمرحوم فؤاد سراج الدين الذي كان على علاقة قوية بالشيخ شلتوت نظراً لأنهما كانا يراجعان ميزانية الازهر معاً أيام الشيخ عبد المجيد سليم. المهم انني نقلت للشيخ شلتوت بعض الأقوال المسيئة التي يشيعها البعض ضد الشيخ دراز - صديقه القديم - فما كان منه الا ان سألني: كيف تنزلني منك؟ قلت: الأستاذ والوالد. فقال: هكذا تكون مكانة الشيخ دراز. فأنا لا احب الاساءة للشيخ دراز لأي سبب من الأسباب.
لكن الشيخ شلتوت - يضيف سكرتيره الخاص - كان يغضب من عدم وفاء بعض تلاميذه وخصوصاً العلميين، وموقف تلميذه وابنه الروحي د.محمد البهي كان اكثر المواقف التي اغضبته في حياته وجعلته يقدم استقالته من الازهر.فالشيخ شلتوت هو الذي رشح د.البهي - تلميذ الشيخ- لبعثة الى الخارج قدمتها مديرية البحيرة وقتها باسم الامام محمد عبده، ولما عاد عين عن طريق الشيخ شلتوت استاذاً بكلية اصول الدين وظل الشيخ يرعاه حتى أنه عندما تولى مشيخة الازهر، عين د.البهي مديراً عاماً لإدارة البحوث ثم وكيلاً لجامعة الأزهر ثم عميداً لجامعة الأزهر - بعد صدور قانون التطوير ولمعرفة رجال الثورة بهذه الصلة القوية جاء تعيين د.محمد البهي وزيراً للأوقاف وشؤون الأزهر.
وهذا ما سمعته بنفسي من السيد حسين الشافعي نائب رئيس الجمهورية الراحل آنذاك ولأن قانون تطوير الأزهر لم ينص على سلطات لشيخ الأزهر، وإنما لوزير شؤون الأزهر، فقد بدأ الخلاف مع د.البهي، فقد جرى العرف حتى بعد صدور قانون التطوير ان شيخ الازهر هو رأس السلطة الادارية، وظل معمولاً بهذا مع الوزراء والمسؤولين الثلاثة قبل د. البهي وهم: كمال رفعت، وكمال الدين حسين، وحسين الشافعي، فلم يعترض احد منهم على حق شيخ الأزهر في النواحي الادارية، وكانوا يتعاملون مع الامام الاكبر الشيخ شلتوت بكل الحب والتقدير والاحترام الا انه عندما عين د. محمد البهي وزيراً لشؤون الازهر بدأ يتدخل في الشؤون الادارية، وصدرت منه بعض التصرفات التي أغضبت الشيخ، فحاول اصلاح الموضوع مع السيد علي صبري رئيس الوزراء وقتها ولم يفلح فكان لابد ان يقف الموقف الاخير والحاسم، فقدم استقالته للرئيس جمال عبد الناصر وقال فيها:
«أسندت وزارة شؤون الازهر الى السيد الدكتور محمد البهي فسار بها في طريق لا يتفق مع رسالة الازهر، وما يبتغيه طلاب الاصلاح له، حتى مس كيانه، وصدعّ بنيانه، وفي هذه الفترة الاخيرة التي جاوزت العشرة شهور ظللت من جانبي احاول علاج ما ترتب على طريق سيره من مشكلات، وادفع بقدر الاستطاعة عن حرمة الازهر وحماه، ولم ادع فرصة الا التجأت فيها الى المختصين عسى ان يهيئ الله من الظروف ما يستقيم معه المعوج وينصلح به الفاسد، ولكن الامور افلت زمامها من يدي، وانتقلت من سيئ الى اسوأ، حتى تحول الازهر فعلا عن رسالته ولم يصبح لمشيخة الازهر وجود او كيان، وازاء هذه الظروف السابقة المتجمعة اجد نفسي امام واحد من امرين: اما ان اسكت على تضييع امانة الازهر- وهو ما لا اقبله على ديني وكرامتي، واما ان اتقدم اسفا في هذه الظروف بطلب اعفائي من حمل هذه الامانة التي اعتقد عن يقين انكم تشاركونني المسؤولية في حملها امام الله والتاريخ ولذلك فليس امامي الا ان اضع استقالتي من مشيخة الازهر بين ايديكم بعد ان حيل بيني وبين القيام بامانتها».
في ذمة الله
ورفض عبدالناصر الاستقالة، وبعدها بحوالي اربعة شهور دخل الشيخ شلتوت مستشفى الجمعية الخيرية لاجراء عملية البروستاتا، ونجحت العملية بالفعل، وراح الشيخ يداعب احفاده الذين كانوا يلتفون حوله، وكان ذلك يوم الخميس 12 ديسمبر 1963م -26 رجب 1383هـ ولكنه شعر اخر النهار ببعض التعب ولم تمر الساعة التاسعة مساء حتى وافته المنية ليلة الجمعة 27 رجب نتيجة لأزمة قلبية طارئة، وكان يذاع له وقتها حديث في الاذاعة عن الاسراء والمعراج. وشيعت جنازته من الازهر يوم 13 ديسمبر 27 رجب، وسار خلفه وحوله اكثر من مائة الف شخص.
هل يعني هذا ان علاقة الشيخ شلتون بالثورة ورجالها كانت متوترة؟
- بالعكس كانت طيبة يجيب الشيخ احمد نصار ويكمل - كان الضباط يحترمونه جدا، وحضر الشيخ شلتوت حفل زواج بنت السيد وجيه اباظة وعقد قرانها، ودخل الرئيس عبدالناصر، وهم الشيخ شلتوت بالوقوف لمصافحة الرئيس، فسارع عبدالناصر ووضع يده على كتف الامام الاكبر واجلسه وانحنى هو ليصافح الشيخ شلتوت وهو جالس. لم تكن هناك خلافات كبيرة الا ان الشيخ شلتوت كان يأخذ على رجال الثورة انهم لم يدرسوا قانون تطوير الازهر جيدا قبل ان يقروه. فقد عرض القانون في ليلة واحدة، وكانت آخر جلسة في مجلس الامة الموحد بين مصر وسورية الذي كان يرأسه محمد انور السادات، وطلب من الاعضاء ان ينتهوا من اقرار هذا القانون في هذه الجلسة، لأنها كانت نهاية الفصل التشريعي، وكان كمال الدين حسين قد جاء قبلها وعرض مشروع القانون على الامام الاكبر، فكان من رأيه ان ندرس القانون دراسة جيدة، وألا نتعجل اصداره بهذه الصورة، لأن الازهر ليس ملكا لمصر وانما للعالم الاسلامي كله، فاقترح كمال الدين حسين ان يحضر الشيخ شلتوت الى مجلس الامة ويحضر مناقشة القانون، الا ان الامام الاكبر كان متعبا فلم يذهب، لكن مقترحات تطوير الازهر كلها كانت تسير وفق خطة ورؤية وضعها شيخ الازهر محمود شلتوت، فهو اول من ادخل تدريس اللغات الاجنبية بالازهر، ودخلت الفتيات الازهر، وانتظمت فيه بأعداد كبيرة للمرة الاولى في التاريخ وزار الشيخ بنفسه اول معهد للفتيات بالمعادي، وانشئ مجمع البحوث الاسلامية - الشكل الجديد لجماعة كبار العلماء، وانشئت مدينة البعوث الاسلامية التي جمعت ابناء اكثر من 80 جنسية من جنسيات الشعوب والاقطار الاسلامية، ودرس القانون المقارن في كليات الشريعة بجامعة الازهر واصبح اسم هذه الكليات الشريعة والقانون، ودرس الفقه الشيعي الى جوار فقه المذاهب السنية.
والمذاهب الفقهية الموثقة مصادرها، واصبحت المعاهد الدينية الابتدائية والاعدادية والثانوية، تغطي كل قرى مصر، كما اصبحت كليات جامعة الازهر تغطي سائر المحافظات، وكان الشيخ شلتوت هو صاحب الرؤية والفكر اللذين تجسدا في هذا الانجاز الكبير.
من هنا - يشرح الشيخ احمد نصار - كان هذا الخلاف مع رجال الثورة، الا ان علاقة الشيخ شلتوت برجال الثورة كانت طيبة بشكل عام، فالامام الاكبر كان على علاقة وثيقة بوالد الرئيس جمال عبدالناصر، اذ انهما اديا معا فريضة الحج - مصادفة - في سنة واحدة، وكان والد الرئيس يزور الشيخ في مشيخة الازهر وفي بيته من وقت الى آخر، وكان الشيخ شلتوت على صلة طيبة - قبل الثورة - بوالد زكريا محيي الدين، وبزكريا نفسه بعد الثورة، فالشيخ لم يكن يميل الى السياسة أو الحزبية. ولذلك لم يقبل عبدالناصر استقالة الشيخ شلتوت، وارسل اليه حسين الشافعي - الذي كان الشيخ يحبه ويميل اليه لتدينه - ليقنعه بالعودة، الا ان الشيخ تمسك برأيه، ولم يقبل النزول الى الازهر وليس له فيه أي سلطة. فهذا نظام متبع حتى ان الشيخ الشعراوي عندما اصبح وزيرا ترك ادارة الازهر للدكتور عبدالحليم محمود، وهكذا فعل د.عاطف عبيد مع شيخ الازهر الحالي د.محمد سيد طنطاوي.
ضد الاسرائيليات
«كان وجهه يمتلئ بالبشر والسرور ونحن من حوله» يقول مهدي شلتوت احد احفاد الامام الاكبر الذين بلغ عددهم الآن 40 حفيدا ويكمل: كان يسر كثيرا لهذا الاجتماع العائلي ويبدو وسطنا رقيقا يحنو على الجميع، وهذا لأنه كان مشغولا بالمحاضرات والكتابة والابحاث والاذاعة والفتاوى وكان معروفا عنه انه لم يترك المراجعة الفقهية أو التفسيرية أو العلوم الدينية طوال حياته، ولذلك كان ملما إلماما كبيرا بأهداف الاسلام، وافاء الله تعالى عليه بعقل وفهم للاسلام على حقيقته من هنا كان يحارب الخرافات والبدع، وكان من ضمن مشروعاته في جماعة كبار العلماء تنقية التفسير من الاسرائيليات وتجده في تفسيره الذي نشر بعد ذلك للاجزاء الاوائل من القرآن الكريم، كان موضوعياً ولم يكن يتطرق مطلقاً الى مثل هذه الاسرائيليات، وهو اول من دعا الى التفسير الموضوعي للقرآن كي يخرجه من دائرة الاسرائيليات.
يكشفها - حسن عبدالله
http://www.alwatan.com.kw/Data/site1/News/Issues200602/lc12-020506.pc.jpg
لم تعرف الأمة الاسلامية عالما ملأ الساحة علما وفقها واجتهادا مثل الامام الاكبر الشيخ محمود شلتوت، فقد وصفوه بانه «اخر الأئمة المجتهدين»، وفي مدرسته تربى علماء وفقهاء عصرنا هذا: الشيخ محمد الغزالي ود. يوسف القرضاوي والشيخ سابق سابق وشيخ الازهر الحالي د. محمد سيد طنطاوي وغيرهم من العلماء الذين حملوا فقه الاسلام الى ابناء هذا الزمن.. سهلا مستنيرا ميسرا، وللمرة الاولى في تاريخ الاسلام منذ بداية الخلاف بين السنة والشيعة، اصدر فتوى باسمه وباسم الازهر تقرر بان الشيعة مذهب اسلامي يجوز التعبد بفقهه لاي من المسلمين، وادخل دراسة الفقه الجعفري والزيدي «الشيعيين» الى المناهج بجامعة الازهر، مغلقا الباب امام اي صراع مذهبي وفاتحا الساحة امام وحدة اسلامية شاملة 70 عاما قضاها الشيخ محمود شلتوت حارب فيها الخرافات والاسرائيليات والجمود، ودعا الى مقاومة الصهيونية باعتبارها العدو الاول للاسلام، وطالب باعطاء المرأة المسلمة الحقوق التي فرضها لها الاسلام، وحددها بشكل واضح في مؤلفاته.
زرنا اسرة الشيخ محمود شلتوت، وقلبنا مع ابنائه واحفاده اوراقه الخاصة، وتعرفنا على الملامح الانسانية والعلمية لاول شيخ حمل لقب «الامام الاكبر» بعد صدور قانون تطوير الازهر، لم يتوقف الامام الاكبر الشيخ محمود شلتوت عن محاربة الجمود والغلو طوال حياته، وكانت اراؤه من النفاذ والقوة بحيث تجاوزت حدود مصر الى بلاد العروبة والاسلام، فقد ترجمت كتبه الى عشرات اللغات، وبفضل فقهه وعلمه نالت الشريعة الاسلامية مكانتها في المحافل القانونية والتشريعية الدولية، وفتح باب الاجتهاد واسعا داعيا الى محاربة العصبية المذهبية التي جعلت من المذاهب اديانا، ومرسيا قواعد الفقه الذي يستمد احكامه من ضرورات الواقع واحكامه، ومطالعا العالم الاسلامي من حوله بآرائه الاصلاحية التي قدمت الاسلام سهلا عذبا للمسلمين.
ووسط كل هذا كان الامام الاكبر الشيخ محمود شلتوت يعيش حياته وسط ابنائه كأي رب اسرة مسلم، يرعى ابناءه ويحنو عليهم، ويتبسط لهم ومعهم، ويرى التفاف ابنائه واحفاده من حوله نعمة من نعم الله يحمده عليها.
ولد الشيخ شلتوت في الثالث والعشرين من ابريل عام 1893 ببلدية منية بني منصور مركز ايتاي البارود بمحافظة البحيرة، واتم حفظ القرآن في سن مبكرة والتحق بمعهد الاسكندرية الديني وكان اول فرقته في جميع سنوات الدراسة، ونال شهادة العالمية عام 1918 وكان ترتيبه الاول على ابناء دفعته، وبعد تخرجه عين مدرسا بمعهد الاسكندرية الديني عام 1919، وتابع نشاطه العلمي في المعهد، والاوساط العلمية، وراح يكتب في الصحافة مناديا بوجود اصلاح الأزهر واستقلاله عن الجهات التي كان يخضع لها.
رحلة الشيخ
«كنت مع الامام الاكبر في رحلته منذ البداية وحتى اللحظات الاخيرة في حياته»
يقول الشيخ احمد نصار زوج ابنة الشيخ شلتوت ومدير مكتبه وسكرتيره الخاص ويضيف: تعلقت بالشيخ محمود شلتوت منذ الثلاثينات حيث كنا ننتظر مقالته في مجلة الرسالة ونحن طلاب بالثانوي، كان يكتب كثيرا عن اصلاح الازهر مؤيدا للشيخ المراغي، وعندما انتهت دراستي الثانوية انتقلت الى الدراسة بكلية اللغة العربية وكان الشيخ شلتوت يلقى محاضراته في كلية الشريعة في مبنى تفسير القرآن الكريم وكانت الكليتان في مبنى واحد بشارع البراموني، فكنا نحضر له محاضراته وتوثقت العلاقة لانني كنت اسكن بجوار اقارب الشيخ شلتوت في قرية «صفط جذام» بالمنوفية وزرت الشيخ في منزله وعلمت ان عنده فتاة هي اصغر اولاده فتقدمت لخطبتها وكان من حسن حظي انني صاهرت الشيخ شلتوت ومن هنا كنت احضر للشيخ شلتوت جلساته العلمية وكان ايضا يحضرها الشيخ يوسف القرضاوي والشيخ احمد العسال، وكانا من تلاميذه الذين لم يدرسوا عليه، وانما كانا من المقربين منه، اما تلاميذه الذين درسوا عليه في معهد الاسكندرية فمنهم د.محمد البهي ود.محمد عبدالله ماضي وجاء من بعدهم الشيخ محمد الغزالي، وظلت علاقة الامام الاكبر مع الشيخ سيد سابق والشيخ الغزالي حتى اخر حياته كنت قد عُينت مدرسا في وزارة التربية والتعليم فطلب الشيخ شلتوت من الاخ كمال الدين حسين ان ينقلني من الوزارة الى الازهر، فنقلت الى معهد القاهرة الثانوي ثم انتدبني الامام الاكبر مديرا لمكتبه سنة 1959 وكان الشيخ شلتوت من محبي الامام محمد عبده، ومن تلاميذ مدرسته الفكرية الاصلاحية لذلك عندما تولى مشيخة الازهر اطلق اسم الامام محمد عبده على قاعة محاضرات مازالت موجودة حتى الآن.
بين الإمامين
«أعتقد ان الامام الاكبر الشيخ محمود شلتوت احد اهم اعلام الاجتهاد في العصر الحديث».. يعلق الامام الاكبر د.محمد سيد طنطاوي شيخ الازهر ويقول: كان فضيلته-رحمه الله- من المع العقليات الفقهية التي اشتغلت بالفقه وتفسير القرآن الكريم، وكانت له آراؤه ونظراته الاجتهادية في الاحكام الفقهية، لم يكتف فيها بمجرد النقل عن الكتب وانما كان له رأيه الذي جهر به، بعد ان درس وطالع، ووازن ورجح معتمدا على النصوص الشرعية الصحيحة، وعلى ما منحه الخالق عزوجل من عقل راجح ومن فكر ثاقب ومن شجاعة في تبليغ كلمة الحق دون ان يخشى احدا سوى اللهسبحانه ولقد كانت فتواه -رحمه الله وطيب ثراه- في حل ارباح صناديق التوفير من اعظم فتاواه التي تدل على رجاحه عقله، وسداد تفكيره وشجاعة قلبه، وصحة اجتهاده، وفهمه السليم لشؤون دينه ودنياه، وهي مسجلة في كتابه «الفتاوى» وفيها يقول: «الربح الذي تدفعه مصلحة البريد لاصحاب الاموال المودعة في صندوق التوفير حلال لا حرمة فيه، ذلك ان المال المودع لم يكن دينا لصاحبه على صندوق التوفير ولم يقترضه صندوق التوفير منه، وانما تقدم به صاحبه الى مصلحة البريد من تلقاء نفسه طائعا مختارا، ملتمسا قبول المصلحة اياه، وهو يعرف ان المصلحة تستغل الاموال المودعة لديها في مواد تجارية ويندر فيها -ان لم يعدم- الكساد والخسران وقد قصد بهذا الايداع
أولا: حفظ ماله من الضياع، وتعويد نفسه على التوفير والاقتصاد
ثانيا: إمداد المصلحة بزيادة رأس مالها، ليتسع نطاق معاملاتها، وتكثر ارباحها فينتفع العمال والموظفون وتنتفع الحكومة بفاضل الارباح.
ولاشك ان هذين الامرين، غرضان شريفان كلاهما خير وبركة ويستحق صاحبهما التشجيع فاذا ما عينت المصلحة لهذا التشجيع قدرا من ارباحها منسوبا الى المال المودع اي نسبة تريد، وتقدمت به الى صاحب المال، كانت دون شك معاملة ذات نفع تعاوني مشترك، وليس فيها مع هذا النفع العام ادنى شائبة لظلم احد او استغلال لحاجة احد، ولا يتوقف حل هذه المعاملة على ان تندمج في نوع من انواع الشركات التي عرفها الفقهاء وتحدثوا عنها وعن احكامها فهذه المعاملة بكيفيتها وبظروفها كلها وبضمان ارباحها، لم تكن معروفة لفقهائنا الاولين وقت ان بحثوا الشركة ونوعوها، واشترطوا فيها ما اشترطوا وليس من ريب في ان التقدم البشري احدث في الاقتصاديات انواعا من العقود والاتفاقات المركزة على اسس صحيحة لم تكن معروفة من قبل، ومادام الميزان الشرعي في حل التعامل وحرمته قائما في كتاب الله «والله يعلم المفسد من المصلح» «لا تظلمون ولا تظلمون» فما علينا ان نحكمه ونسير على مقتضاه.
أرأيت- يكمل د.طنطاوي- كيف ان الشيخ الجليل شلتوت من اعلام الاجتهاد في العصر الحديث، وانه من اصحاب العقائد السليمة، والعقول الثابتة، والاخلاص في خدمة دينه وامته!!
وفاء الشيخ
«الوفاء كان اهم صفات الامام الاكبر الشيخ شلتوت» يعود الشيخ أحمد نصار مدير مكتبه وزوج ابنته ليقول ويكمل: عملت مع الشيخ شلتوت حتى وفاته في ديسمبر 1963، فكنت لا اتركه ولا يتركني، وأذكر جيدا انه كان صديقا للمرحوم الشيخ محمد عبداللطيف دراز، منذ ان كانا طالبين، وامتدت العلاقة الى الشيخ المراغي فأصبحت متينة لكن فترت هذه العلاقة في بعض الأوقات خصوصاً في السنين التي تلت عودة الشيخ المراغي لمشيخة الازهر، كما ان الشيخين - دراز والمراغي - كانا يهتمان بالسياسة، في حين ان الشيخ شلتوت كان يهتم بالنواحي العلمية والبحثية، وكانت له صداقات مع بعض المنتسبين الى الاحزاب مثل وزير العدل صبري ابو علم، ود.طه حسين، الذي كان زميله في مجمع اللغة العربية، والمرحوم فؤاد سراج الدين الذي كان على علاقة قوية بالشيخ شلتوت نظراً لأنهما كانا يراجعان ميزانية الازهر معاً أيام الشيخ عبد المجيد سليم. المهم انني نقلت للشيخ شلتوت بعض الأقوال المسيئة التي يشيعها البعض ضد الشيخ دراز - صديقه القديم - فما كان منه الا ان سألني: كيف تنزلني منك؟ قلت: الأستاذ والوالد. فقال: هكذا تكون مكانة الشيخ دراز. فأنا لا احب الاساءة للشيخ دراز لأي سبب من الأسباب.
لكن الشيخ شلتوت - يضيف سكرتيره الخاص - كان يغضب من عدم وفاء بعض تلاميذه وخصوصاً العلميين، وموقف تلميذه وابنه الروحي د.محمد البهي كان اكثر المواقف التي اغضبته في حياته وجعلته يقدم استقالته من الازهر.فالشيخ شلتوت هو الذي رشح د.البهي - تلميذ الشيخ- لبعثة الى الخارج قدمتها مديرية البحيرة وقتها باسم الامام محمد عبده، ولما عاد عين عن طريق الشيخ شلتوت استاذاً بكلية اصول الدين وظل الشيخ يرعاه حتى أنه عندما تولى مشيخة الازهر، عين د.البهي مديراً عاماً لإدارة البحوث ثم وكيلاً لجامعة الأزهر ثم عميداً لجامعة الأزهر - بعد صدور قانون التطوير ولمعرفة رجال الثورة بهذه الصلة القوية جاء تعيين د.محمد البهي وزيراً للأوقاف وشؤون الأزهر.
وهذا ما سمعته بنفسي من السيد حسين الشافعي نائب رئيس الجمهورية الراحل آنذاك ولأن قانون تطوير الأزهر لم ينص على سلطات لشيخ الأزهر، وإنما لوزير شؤون الأزهر، فقد بدأ الخلاف مع د.البهي، فقد جرى العرف حتى بعد صدور قانون التطوير ان شيخ الازهر هو رأس السلطة الادارية، وظل معمولاً بهذا مع الوزراء والمسؤولين الثلاثة قبل د. البهي وهم: كمال رفعت، وكمال الدين حسين، وحسين الشافعي، فلم يعترض احد منهم على حق شيخ الأزهر في النواحي الادارية، وكانوا يتعاملون مع الامام الاكبر الشيخ شلتوت بكل الحب والتقدير والاحترام الا انه عندما عين د. محمد البهي وزيراً لشؤون الازهر بدأ يتدخل في الشؤون الادارية، وصدرت منه بعض التصرفات التي أغضبت الشيخ، فحاول اصلاح الموضوع مع السيد علي صبري رئيس الوزراء وقتها ولم يفلح فكان لابد ان يقف الموقف الاخير والحاسم، فقدم استقالته للرئيس جمال عبد الناصر وقال فيها:
«أسندت وزارة شؤون الازهر الى السيد الدكتور محمد البهي فسار بها في طريق لا يتفق مع رسالة الازهر، وما يبتغيه طلاب الاصلاح له، حتى مس كيانه، وصدعّ بنيانه، وفي هذه الفترة الاخيرة التي جاوزت العشرة شهور ظللت من جانبي احاول علاج ما ترتب على طريق سيره من مشكلات، وادفع بقدر الاستطاعة عن حرمة الازهر وحماه، ولم ادع فرصة الا التجأت فيها الى المختصين عسى ان يهيئ الله من الظروف ما يستقيم معه المعوج وينصلح به الفاسد، ولكن الامور افلت زمامها من يدي، وانتقلت من سيئ الى اسوأ، حتى تحول الازهر فعلا عن رسالته ولم يصبح لمشيخة الازهر وجود او كيان، وازاء هذه الظروف السابقة المتجمعة اجد نفسي امام واحد من امرين: اما ان اسكت على تضييع امانة الازهر- وهو ما لا اقبله على ديني وكرامتي، واما ان اتقدم اسفا في هذه الظروف بطلب اعفائي من حمل هذه الامانة التي اعتقد عن يقين انكم تشاركونني المسؤولية في حملها امام الله والتاريخ ولذلك فليس امامي الا ان اضع استقالتي من مشيخة الازهر بين ايديكم بعد ان حيل بيني وبين القيام بامانتها».
في ذمة الله
ورفض عبدالناصر الاستقالة، وبعدها بحوالي اربعة شهور دخل الشيخ شلتوت مستشفى الجمعية الخيرية لاجراء عملية البروستاتا، ونجحت العملية بالفعل، وراح الشيخ يداعب احفاده الذين كانوا يلتفون حوله، وكان ذلك يوم الخميس 12 ديسمبر 1963م -26 رجب 1383هـ ولكنه شعر اخر النهار ببعض التعب ولم تمر الساعة التاسعة مساء حتى وافته المنية ليلة الجمعة 27 رجب نتيجة لأزمة قلبية طارئة، وكان يذاع له وقتها حديث في الاذاعة عن الاسراء والمعراج. وشيعت جنازته من الازهر يوم 13 ديسمبر 27 رجب، وسار خلفه وحوله اكثر من مائة الف شخص.
هل يعني هذا ان علاقة الشيخ شلتون بالثورة ورجالها كانت متوترة؟
- بالعكس كانت طيبة يجيب الشيخ احمد نصار ويكمل - كان الضباط يحترمونه جدا، وحضر الشيخ شلتوت حفل زواج بنت السيد وجيه اباظة وعقد قرانها، ودخل الرئيس عبدالناصر، وهم الشيخ شلتوت بالوقوف لمصافحة الرئيس، فسارع عبدالناصر ووضع يده على كتف الامام الاكبر واجلسه وانحنى هو ليصافح الشيخ شلتوت وهو جالس. لم تكن هناك خلافات كبيرة الا ان الشيخ شلتوت كان يأخذ على رجال الثورة انهم لم يدرسوا قانون تطوير الازهر جيدا قبل ان يقروه. فقد عرض القانون في ليلة واحدة، وكانت آخر جلسة في مجلس الامة الموحد بين مصر وسورية الذي كان يرأسه محمد انور السادات، وطلب من الاعضاء ان ينتهوا من اقرار هذا القانون في هذه الجلسة، لأنها كانت نهاية الفصل التشريعي، وكان كمال الدين حسين قد جاء قبلها وعرض مشروع القانون على الامام الاكبر، فكان من رأيه ان ندرس القانون دراسة جيدة، وألا نتعجل اصداره بهذه الصورة، لأن الازهر ليس ملكا لمصر وانما للعالم الاسلامي كله، فاقترح كمال الدين حسين ان يحضر الشيخ شلتوت الى مجلس الامة ويحضر مناقشة القانون، الا ان الامام الاكبر كان متعبا فلم يذهب، لكن مقترحات تطوير الازهر كلها كانت تسير وفق خطة ورؤية وضعها شيخ الازهر محمود شلتوت، فهو اول من ادخل تدريس اللغات الاجنبية بالازهر، ودخلت الفتيات الازهر، وانتظمت فيه بأعداد كبيرة للمرة الاولى في التاريخ وزار الشيخ بنفسه اول معهد للفتيات بالمعادي، وانشئ مجمع البحوث الاسلامية - الشكل الجديد لجماعة كبار العلماء، وانشئت مدينة البعوث الاسلامية التي جمعت ابناء اكثر من 80 جنسية من جنسيات الشعوب والاقطار الاسلامية، ودرس القانون المقارن في كليات الشريعة بجامعة الازهر واصبح اسم هذه الكليات الشريعة والقانون، ودرس الفقه الشيعي الى جوار فقه المذاهب السنية.
والمذاهب الفقهية الموثقة مصادرها، واصبحت المعاهد الدينية الابتدائية والاعدادية والثانوية، تغطي كل قرى مصر، كما اصبحت كليات جامعة الازهر تغطي سائر المحافظات، وكان الشيخ شلتوت هو صاحب الرؤية والفكر اللذين تجسدا في هذا الانجاز الكبير.
من هنا - يشرح الشيخ احمد نصار - كان هذا الخلاف مع رجال الثورة، الا ان علاقة الشيخ شلتوت برجال الثورة كانت طيبة بشكل عام، فالامام الاكبر كان على علاقة وثيقة بوالد الرئيس جمال عبدالناصر، اذ انهما اديا معا فريضة الحج - مصادفة - في سنة واحدة، وكان والد الرئيس يزور الشيخ في مشيخة الازهر وفي بيته من وقت الى آخر، وكان الشيخ شلتوت على صلة طيبة - قبل الثورة - بوالد زكريا محيي الدين، وبزكريا نفسه بعد الثورة، فالشيخ لم يكن يميل الى السياسة أو الحزبية. ولذلك لم يقبل عبدالناصر استقالة الشيخ شلتوت، وارسل اليه حسين الشافعي - الذي كان الشيخ يحبه ويميل اليه لتدينه - ليقنعه بالعودة، الا ان الشيخ تمسك برأيه، ولم يقبل النزول الى الازهر وليس له فيه أي سلطة. فهذا نظام متبع حتى ان الشيخ الشعراوي عندما اصبح وزيرا ترك ادارة الازهر للدكتور عبدالحليم محمود، وهكذا فعل د.عاطف عبيد مع شيخ الازهر الحالي د.محمد سيد طنطاوي.
ضد الاسرائيليات
«كان وجهه يمتلئ بالبشر والسرور ونحن من حوله» يقول مهدي شلتوت احد احفاد الامام الاكبر الذين بلغ عددهم الآن 40 حفيدا ويكمل: كان يسر كثيرا لهذا الاجتماع العائلي ويبدو وسطنا رقيقا يحنو على الجميع، وهذا لأنه كان مشغولا بالمحاضرات والكتابة والابحاث والاذاعة والفتاوى وكان معروفا عنه انه لم يترك المراجعة الفقهية أو التفسيرية أو العلوم الدينية طوال حياته، ولذلك كان ملما إلماما كبيرا بأهداف الاسلام، وافاء الله تعالى عليه بعقل وفهم للاسلام على حقيقته من هنا كان يحارب الخرافات والبدع، وكان من ضمن مشروعاته في جماعة كبار العلماء تنقية التفسير من الاسرائيليات وتجده في تفسيره الذي نشر بعد ذلك للاجزاء الاوائل من القرآن الكريم، كان موضوعياً ولم يكن يتطرق مطلقاً الى مثل هذه الاسرائيليات، وهو اول من دعا الى التفسير الموضوعي للقرآن كي يخرجه من دائرة الاسرائيليات.