المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الشيخ شلتوت أول من قال: أنا سُنّي .. وأحب الشيعة



yasmeen
02-05-2006, 08:41 AM
أسرار وحكايات من حياة آخر الأئمة المجتهدين

يكشفها - حسن عبدالله


http://www.alwatan.com.kw/Data/site1/News/Issues200602/lc12-020506.pc.jpg



لم تعرف الأمة الاسلامية عالما ملأ الساحة علما وفقها واجتهادا مثل الامام الاكبر الشيخ محمود شلتوت، فقد وصفوه بانه «اخر الأئمة المجتهدين»، وفي مدرسته تربى علماء وفقهاء عصرنا هذا: الشيخ محمد الغزالي ود. يوسف القرضاوي والشيخ سابق سابق وشيخ الازهر الحالي د. محمد سيد طنطاوي وغيرهم من العلماء الذين حملوا فقه الاسلام الى ابناء هذا الزمن.. سهلا مستنيرا ميسرا، وللمرة الاولى في تاريخ الاسلام منذ بداية الخلاف بين السنة والشيعة، اصدر فتوى باسمه وباسم الازهر تقرر بان الشيعة مذهب اسلامي يجوز التعبد بفقهه لاي من المسلمين، وادخل دراسة الفقه الجعفري والزيدي «الشيعيين» الى المناهج بجامعة الازهر، مغلقا الباب امام اي صراع مذهبي وفاتحا الساحة امام وحدة اسلامية شاملة 70 عاما قضاها الشيخ محمود شلتوت حارب فيها الخرافات والاسرائيليات والجمود، ودعا الى مقاومة الصهيونية باعتبارها العدو الاول للاسلام، وطالب باعطاء المرأة المسلمة الحقوق التي فرضها لها الاسلام، وحددها بشكل واضح في مؤلفاته.

زرنا اسرة الشيخ محمود شلتوت، وقلبنا مع ابنائه واحفاده اوراقه الخاصة، وتعرفنا على الملامح الانسانية والعلمية لاول شيخ حمل لقب «الامام الاكبر» بعد صدور قانون تطوير الازهر، لم يتوقف الامام الاكبر الشيخ محمود شلتوت عن محاربة الجمود والغلو طوال حياته، وكانت اراؤه من النفاذ والقوة بحيث تجاوزت حدود مصر الى بلاد العروبة والاسلام، فقد ترجمت كتبه الى عشرات اللغات، وبفضل فقهه وعلمه نالت الشريعة الاسلامية مكانتها في المحافل القانونية والتشريعية الدولية، وفتح باب الاجتهاد واسعا داعيا الى محاربة العصبية المذهبية التي جعلت من المذاهب اديانا، ومرسيا قواعد الفقه الذي يستمد احكامه من ضرورات الواقع واحكامه، ومطالعا العالم الاسلامي من حوله بآرائه الاصلاحية التي قدمت الاسلام سهلا عذبا للمسلمين.

ووسط كل هذا كان الامام الاكبر الشيخ محمود شلتوت يعيش حياته وسط ابنائه كأي رب اسرة مسلم، يرعى ابناءه ويحنو عليهم، ويتبسط لهم ومعهم، ويرى التفاف ابنائه واحفاده من حوله نعمة من نعم الله يحمده عليها.

ولد الشيخ شلتوت في الثالث والعشرين من ابريل عام 1893 ببلدية منية بني منصور مركز ايتاي البارود بمحافظة البحيرة، واتم حفظ القرآن في سن مبكرة والتحق بمعهد الاسكندرية الديني وكان اول فرقته في جميع سنوات الدراسة، ونال شهادة العالمية عام 1918 وكان ترتيبه الاول على ابناء دفعته، وبعد تخرجه عين مدرسا بمعهد الاسكندرية الديني عام 1919، وتابع نشاطه العلمي في المعهد، والاوساط العلمية، وراح يكتب في الصحافة مناديا بوجود اصلاح الأزهر واستقلاله عن الجهات التي كان يخضع لها.

رحلة الشيخ

«كنت مع الامام الاكبر في رحلته منذ البداية وحتى اللحظات الاخيرة في حياته»
يقول الشيخ احمد نصار زوج ابنة الشيخ شلتوت ومدير مكتبه وسكرتيره الخاص ويضيف: تعلقت بالشيخ محمود شلتوت منذ الثلاثينات حيث كنا ننتظر مقالته في مجلة الرسالة ونحن طلاب بالثانوي، كان يكتب كثيرا عن اصلاح الازهر مؤيدا للشيخ المراغي، وعندما انتهت دراستي الثانوية انتقلت الى الدراسة بكلية اللغة العربية وكان الشيخ شلتوت يلقى محاضراته في كلية الشريعة في مبنى تفسير القرآن الكريم وكانت الكليتان في مبنى واحد بشارع البراموني، فكنا نحضر له محاضراته وتوثقت العلاقة لانني كنت اسكن بجوار اقارب الشيخ شلتوت في قرية «صفط جذام» بالمنوفية وزرت الشيخ في منزله وعلمت ان عنده فتاة هي اصغر اولاده فتقدمت لخطبتها وكان من حسن حظي انني صاهرت الشيخ شلتوت ومن هنا كنت احضر للشيخ شلتوت جلساته العلمية وكان ايضا يحضرها الشيخ يوسف القرضاوي والشيخ احمد العسال، وكانا من تلاميذه الذين لم يدرسوا عليه، وانما كانا من المقربين منه، اما تلاميذه الذين درسوا عليه في معهد الاسكندرية فمنهم د.محمد البهي ود.محمد عبدالله ماضي وجاء من بعدهم الشيخ محمد الغزالي، وظلت علاقة الامام الاكبر مع الشيخ سيد سابق والشيخ الغزالي حتى اخر حياته كنت قد عُينت مدرسا في وزارة التربية والتعليم فطلب الشيخ شلتوت من الاخ كمال الدين حسين ان ينقلني من الوزارة الى الازهر، فنقلت الى معهد القاهرة الثانوي ثم انتدبني الامام الاكبر مديرا لمكتبه سنة 1959 وكان الشيخ شلتوت من محبي الامام محمد عبده، ومن تلاميذ مدرسته الفكرية الاصلاحية لذلك عندما تولى مشيخة الازهر اطلق اسم الامام محمد عبده على قاعة محاضرات مازالت موجودة حتى الآن.

بين الإمامين

«أعتقد ان الامام الاكبر الشيخ محمود شلتوت احد اهم اعلام الاجتهاد في العصر الحديث».. يعلق الامام الاكبر د.محمد سيد طنطاوي شيخ الازهر ويقول: كان فضيلته-رحمه الله- من المع العقليات الفقهية التي اشتغلت بالفقه وتفسير القرآن الكريم، وكانت له آراؤه ونظراته الاجتهادية في الاحكام الفقهية، لم يكتف فيها بمجرد النقل عن الكتب وانما كان له رأيه الذي جهر به، بعد ان درس وطالع، ووازن ورجح معتمدا على النصوص الشرعية الصحيحة، وعلى ما منحه الخالق عزوجل من عقل راجح ومن فكر ثاقب ومن شجاعة في تبليغ كلمة الحق دون ان يخشى احدا سوى اللهسبحانه ولقد كانت فتواه -رحمه الله وطيب ثراه- في حل ارباح صناديق التوفير من اعظم فتاواه التي تدل على رجاحه عقله، وسداد تفكيره وشجاعة قلبه، وصحة اجتهاده، وفهمه السليم لشؤون دينه ودنياه، وهي مسجلة في كتابه «الفتاوى» وفيها يقول: «الربح الذي تدفعه مصلحة البريد لاصحاب الاموال المودعة في صندوق التوفير حلال لا حرمة فيه، ذلك ان المال المودع لم يكن دينا لصاحبه على صندوق التوفير ولم يقترضه صندوق التوفير منه، وانما تقدم به صاحبه الى مصلحة البريد من تلقاء نفسه طائعا مختارا، ملتمسا قبول المصلحة اياه، وهو يعرف ان المصلحة تستغل الاموال المودعة لديها في مواد تجارية ويندر فيها -ان لم يعدم- الكساد والخسران وقد قصد بهذا الايداع

أولا: حفظ ماله من الضياع، وتعويد نفسه على التوفير والاقتصاد
ثانيا: إمداد المصلحة بزيادة رأس مالها، ليتسع نطاق معاملاتها، وتكثر ارباحها فينتفع العمال والموظفون وتنتفع الحكومة بفاضل الارباح.

ولاشك ان هذين الامرين، غرضان شريفان كلاهما خير وبركة ويستحق صاحبهما التشجيع فاذا ما عينت المصلحة لهذا التشجيع قدرا من ارباحها منسوبا الى المال المودع اي نسبة تريد، وتقدمت به الى صاحب المال، كانت دون شك معاملة ذات نفع تعاوني مشترك، وليس فيها مع هذا النفع العام ادنى شائبة لظلم احد او استغلال لحاجة احد، ولا يتوقف حل هذه المعاملة على ان تندمج في نوع من انواع الشركات التي عرفها الفقهاء وتحدثوا عنها وعن احكامها فهذه المعاملة بكيفيتها وبظروفها كلها وبضمان ارباحها، لم تكن معروفة لفقهائنا الاولين وقت ان بحثوا الشركة ونوعوها، واشترطوا فيها ما اشترطوا وليس من ريب في ان التقدم البشري احدث في الاقتصاديات انواعا من العقود والاتفاقات المركزة على اسس صحيحة لم تكن معروفة من قبل، ومادام الميزان الشرعي في حل التعامل وحرمته قائما في كتاب الله «والله يعلم المفسد من المصلح» «لا تظلمون ولا تظلمون» فما علينا ان نحكمه ونسير على مقتضاه.
أرأيت- يكمل د.طنطاوي- كيف ان الشيخ الجليل شلتوت من اعلام الاجتهاد في العصر الحديث، وانه من اصحاب العقائد السليمة، والعقول الثابتة، والاخلاص في خدمة دينه وامته!!

وفاء الشيخ

«الوفاء كان اهم صفات الامام الاكبر الشيخ شلتوت» يعود الشيخ أحمد نصار مدير مكتبه وزوج ابنته ليقول ويكمل: عملت مع الشيخ شلتوت حتى وفاته في ديسمبر 1963، فكنت لا اتركه ولا يتركني، وأذكر جيدا انه كان صديقا للمرحوم الشيخ محمد عبداللطيف دراز، منذ ان كانا طالبين، وامتدت العلاقة الى الشيخ المراغي فأصبحت متينة لكن فترت هذه العلاقة في بعض الأوقات خصوصاً في السنين التي تلت عودة الشيخ المراغي لمشيخة الازهر، كما ان الشيخين - دراز والمراغي - كانا يهتمان بالسياسة، في حين ان الشيخ شلتوت كان يهتم بالنواحي العلمية والبحثية، وكانت له صداقات مع بعض المنتسبين الى الاحزاب مثل وزير العدل صبري ابو علم، ود.طه حسين، الذي كان زميله في مجمع اللغة العربية، والمرحوم فؤاد سراج الدين الذي كان على علاقة قوية بالشيخ شلتوت نظراً لأنهما كانا يراجعان ميزانية الازهر معاً أيام الشيخ عبد المجيد سليم. المهم انني نقلت للشيخ شلتوت بعض الأقوال المسيئة التي يشيعها البعض ضد الشيخ دراز - صديقه القديم - فما كان منه الا ان سألني: كيف تنزلني منك؟ قلت: الأستاذ والوالد. فقال: هكذا تكون مكانة الشيخ دراز. فأنا لا احب الاساءة للشيخ دراز لأي سبب من الأسباب.

لكن الشيخ شلتوت - يضيف سكرتيره الخاص - كان يغضب من عدم وفاء بعض تلاميذه وخصوصاً العلميين، وموقف تلميذه وابنه الروحي د.محمد البهي كان اكثر المواقف التي اغضبته في حياته وجعلته يقدم استقالته من الازهر.فالشيخ شلتوت هو الذي رشح د.البهي - تلميذ الشيخ- لبعثة الى الخارج قدمتها مديرية البحيرة وقتها باسم الامام محمد عبده، ولما عاد عين عن طريق الشيخ شلتوت استاذاً بكلية اصول الدين وظل الشيخ يرعاه حتى أنه عندما تولى مشيخة الازهر، عين د.البهي مديراً عاماً لإدارة البحوث ثم وكيلاً لجامعة الأزهر ثم عميداً لجامعة الأزهر - بعد صدور قانون التطوير ولمعرفة رجال الثورة بهذه الصلة القوية جاء تعيين د.محمد البهي وزيراً للأوقاف وشؤون الأزهر.

وهذا ما سمعته بنفسي من السيد حسين الشافعي نائب رئيس الجمهورية الراحل آنذاك ولأن قانون تطوير الأزهر لم ينص على سلطات لشيخ الأزهر، وإنما لوزير شؤون الأزهر، فقد بدأ الخلاف مع د.البهي، فقد جرى العرف حتى بعد صدور قانون التطوير ان شيخ الازهر هو رأس السلطة الادارية، وظل معمولاً بهذا مع الوزراء والمسؤولين الثلاثة قبل د. البهي وهم: كمال رفعت، وكمال الدين حسين، وحسين الشافعي، فلم يعترض احد منهم على حق شيخ الأزهر في النواحي الادارية، وكانوا يتعاملون مع الامام الاكبر الشيخ شلتوت بكل الحب والتقدير والاحترام الا انه عندما عين د. محمد البهي وزيراً لشؤون الازهر بدأ يتدخل في الشؤون الادارية، وصدرت منه بعض التصرفات التي أغضبت الشيخ، فحاول اصلاح الموضوع مع السيد علي صبري رئيس الوزراء وقتها ولم يفلح فكان لابد ان يقف الموقف الاخير والحاسم، فقدم استقالته للرئيس جمال عبد الناصر وقال فيها:

«أسندت وزارة شؤون الازهر الى السيد الدكتور محمد البهي فسار بها في طريق لا يتفق مع رسالة الازهر، وما يبتغيه طلاب الاصلاح له، حتى مس كيانه، وصدعّ بنيانه، وفي هذه الفترة الاخيرة التي جاوزت العشرة شهور ظللت من جانبي احاول علاج ما ترتب على طريق سيره من مشكلات، وادفع بقدر الاستطاعة عن حرمة الازهر وحماه، ولم ادع فرصة الا التجأت فيها الى المختصين عسى ان يهيئ الله من الظروف ما يستقيم معه المعوج وينصلح به الفاسد، ولكن الامور افلت زمامها من يدي، وانتقلت من سيئ الى اسوأ، حتى تحول الازهر فعلا عن رسالته ولم يصبح لمشيخة الازهر وجود او كيان، وازاء هذه الظروف السابقة المتجمعة اجد نفسي امام واحد من امرين: اما ان اسكت على تضييع امانة الازهر- وهو ما لا اقبله على ديني وكرامتي، واما ان اتقدم اسفا في هذه الظروف بطلب اعفائي من حمل هذه الامانة التي اعتقد عن يقين انكم تشاركونني المسؤولية في حملها امام الله والتاريخ ولذلك فليس امامي الا ان اضع استقالتي من مشيخة الازهر بين ايديكم بعد ان حيل بيني وبين القيام بامانتها».

في ذمة الله

ورفض عبدالناصر الاستقالة، وبعدها بحوالي اربعة شهور دخل الشيخ شلتوت مستشفى الجمعية الخيرية لاجراء عملية البروستاتا، ونجحت العملية بالفعل، وراح الشيخ يداعب احفاده الذين كانوا يلتفون حوله، وكان ذلك يوم الخميس 12 ديسمبر 1963م -26 رجب 1383هـ ولكنه شعر اخر النهار ببعض التعب ولم تمر الساعة التاسعة مساء حتى وافته المنية ليلة الجمعة 27 رجب نتيجة لأزمة قلبية طارئة، وكان يذاع له وقتها حديث في الاذاعة عن الاسراء والمعراج. وشيعت جنازته من الازهر يوم 13 ديسمبر 27 رجب، وسار خلفه وحوله اكثر من مائة الف شخص.

هل يعني هذا ان علاقة الشيخ شلتون بالثورة ورجالها كانت متوترة؟

- بالعكس كانت طيبة يجيب الشيخ احمد نصار ويكمل - كان الضباط يحترمونه جدا، وحضر الشيخ شلتوت حفل زواج بنت السيد وجيه اباظة وعقد قرانها، ودخل الرئيس عبدالناصر، وهم الشيخ شلتوت بالوقوف لمصافحة الرئيس، فسارع عبدالناصر ووضع يده على كتف الامام الاكبر واجلسه وانحنى هو ليصافح الشيخ شلتوت وهو جالس. لم تكن هناك خلافات كبيرة الا ان الشيخ شلتوت كان يأخذ على رجال الثورة انهم لم يدرسوا قانون تطوير الازهر جيدا قبل ان يقروه. فقد عرض القانون في ليلة واحدة، وكانت آخر جلسة في مجلس الامة الموحد بين مصر وسورية الذي كان يرأسه محمد انور السادات، وطلب من الاعضاء ان ينتهوا من اقرار هذا القانون في هذه الجلسة، لأنها كانت نهاية الفصل التشريعي، وكان كمال الدين حسين قد جاء قبلها وعرض مشروع القانون على الامام الاكبر، فكان من رأيه ان ندرس القانون دراسة جيدة، وألا نتعجل اصداره بهذه الصورة، لأن الازهر ليس ملكا لمصر وانما للعالم الاسلامي كله، فاقترح كمال الدين حسين ان يحضر الشيخ شلتوت الى مجلس الامة ويحضر مناقشة القانون، الا ان الامام الاكبر كان متعبا فلم يذهب، لكن مقترحات تطوير الازهر كلها كانت تسير وفق خطة ورؤية وضعها شيخ الازهر محمود شلتوت، فهو اول من ادخل تدريس اللغات الاجنبية بالازهر، ودخلت الفتيات الازهر، وانتظمت فيه بأعداد كبيرة للمرة الاولى في التاريخ وزار الشيخ بنفسه اول معهد للفتيات بالمعادي، وانشئ مجمع البحوث الاسلامية - الشكل الجديد لجماعة كبار العلماء، وانشئت مدينة البعوث الاسلامية التي جمعت ابناء اكثر من 80 جنسية من جنسيات الشعوب والاقطار الاسلامية، ودرس القانون المقارن في كليات الشريعة بجامعة الازهر واصبح اسم هذه الكليات الشريعة والقانون، ودرس الفقه الشيعي الى جوار فقه المذاهب السنية.

والمذاهب الفقهية الموثقة مصادرها، واصبحت المعاهد الدينية الابتدائية والاعدادية والثانوية، تغطي كل قرى مصر، كما اصبحت كليات جامعة الازهر تغطي سائر المحافظات، وكان الشيخ شلتوت هو صاحب الرؤية والفكر اللذين تجسدا في هذا الانجاز الكبير.

من هنا - يشرح الشيخ احمد نصار - كان هذا الخلاف مع رجال الثورة، الا ان علاقة الشيخ شلتوت برجال الثورة كانت طيبة بشكل عام، فالامام الاكبر كان على علاقة وثيقة بوالد الرئيس جمال عبدالناصر، اذ انهما اديا معا فريضة الحج - مصادفة - في سنة واحدة، وكان والد الرئيس يزور الشيخ في مشيخة الازهر وفي بيته من وقت الى آخر، وكان الشيخ شلتوت على صلة طيبة - قبل الثورة - بوالد زكريا محيي الدين، وبزكريا نفسه بعد الثورة، فالشيخ لم يكن يميل الى السياسة أو الحزبية. ولذلك لم يقبل عبدالناصر استقالة الشيخ شلتوت، وارسل اليه حسين الشافعي - الذي كان الشيخ يحبه ويميل اليه لتدينه - ليقنعه بالعودة، الا ان الشيخ تمسك برأيه، ولم يقبل النزول الى الازهر وليس له فيه أي سلطة. فهذا نظام متبع حتى ان الشيخ الشعراوي عندما اصبح وزيرا ترك ادارة الازهر للدكتور عبدالحليم محمود، وهكذا فعل د.عاطف عبيد مع شيخ الازهر الحالي د.محمد سيد طنطاوي.

ضد الاسرائيليات

«كان وجهه يمتلئ بالبشر والسرور ونحن من حوله» يقول مهدي شلتوت احد احفاد الامام الاكبر الذين بلغ عددهم الآن 40 حفيدا ويكمل: كان يسر كثيرا لهذا الاجتماع العائلي ويبدو وسطنا رقيقا يحنو على الجميع، وهذا لأنه كان مشغولا بالمحاضرات والكتابة والابحاث والاذاعة والفتاوى وكان معروفا عنه انه لم يترك المراجعة الفقهية أو التفسيرية أو العلوم الدينية طوال حياته، ولذلك كان ملما إلماما كبيرا بأهداف الاسلام، وافاء الله تعالى عليه بعقل وفهم للاسلام على حقيقته من هنا كان يحارب الخرافات والبدع، وكان من ضمن مشروعاته في جماعة كبار العلماء تنقية التفسير من الاسرائيليات وتجده في تفسيره الذي نشر بعد ذلك للاجزاء الاوائل من القرآن الكريم، كان موضوعياً ولم يكن يتطرق مطلقاً الى مثل هذه الاسرائيليات، وهو اول من دعا الى التفسير الموضوعي للقرآن كي يخرجه من دائرة الاسرائيليات.

yasmeen
02-05-2006, 08:45 AM
وحدة اسلامية

فالشيخ شلتوت - كما يقول د. محمد عمارة - كان يغار على الاسلام ويسعى الى توحيد كلمة المسلمين. وفتواه في التقريب بين المذاهب تؤكد هذا المعنى. فقد اجتمعت كوكبة من كبار العلماء والمفكرين على تأسيس جماعة للتقريب بين الشيعة والسنة، وكان الشيخ محمود شلتوت واحداً من انشط العلماء الذين بذلوا الجهود الكبيرة في تأسيس وتدعيم هذه الجماعة التي رأسها الزعيم المصلح محمد علي علوبة والتي ضمت أئمة مشيخة الازهر: الشيخ عبدالمجيد سليم، والشيخ مصطفى المراغي، والشيخ مصطفى عبدالرازق، ومن كبار علمائه: الشيخ علي الخفيف والشيخ عبدالعزيز عيسى والشيخ محمد المدني، والشيخ سيد سابق، والامام الاكبر الحاج اقاحسين البروجردي، والسيد محد تقي الدين القمي - الامين العام للجماعة - وغيرهم..

ولكسر اي عصبية مذهبية اصدر الامام الاكبر شيخ الازهر الشيخ محمود شلتوت فتواه التاريخية التي جاءت رداً على سؤال يقول: إن بعض الناس يرى انه يجب على المسلم لكي تقع عبادته ومعاملاته على وجه صحيح، ان يقلد احد المذاهب الاربعة المعروفة، وليس من بينها مذاهب الشيعة فهل توافقون فضيلتكم على هذا الرأي على اطلاقه، فتمنعون مذهب الشيعة الاثنا عشرية.

فكان جواب الشيخ شلتوت: «ان الاسلام لا يوجب على احد اتباع مذهب معين، بل نقول: ان لكل مسلم الحق في ان يقلد بادئ ذي بدء اي مذهب من المذاهب المنقولة نقلاً صحيحاً، والمدونة احكامها في كتبها الخاصة، ولمن قلد مذهباً من هذه المذاهب ان ينتقل الى غيره - اي مذهب كان - ولا حرج عليه في شيء. ان مذهب الجعفرية المعروف بمذهب الشيعة الامامية الاثنا عشرية، مذهب يجوز التعبدية شرعاً كسائر مذاهب اهل السنة، فينبغي للمسلمين ان يعرفوا ذلك، وان يتخلصوا من العصبية بغير الحق لمذاهب معينة، فما كان دين الله وما كانت شريعته تابعة لمذهب او مقصورة على مذهب، فالكل مجتهدون مقبولون عند الله تعالى، يجوز - لمن ليس اهلاً للنظر والاجتهاد - تقليدهم والعمل بما يقررونه في فقههم، ولا فرق في ذلك بين العبادات والمعاملات».

ويعلق الشيخ احمد نصار: بعد صدور هذه الفتوى جاء وفد كبير من علماء ايران لزيارة الشيخ شلتوت في منزله ومكتبه تكريماً وتعظيماً لهذه الفتوى التي فتحت الباب امام اسلام واحد بلا مذاهب، وقد انشأت ايران مجمعاً للتقريب بين السنة والشيعة، ومدير المجمع سني وهو الذي اقام حفل تكريم في مارس 2001 للشيخ شلتوت والامام البروجردي من علماء ايران.

امام شيعي

لقد كان الشيخ شلتوت لا يعترف بالتفرقة المذهبية. فقد رأيته وكان معنا الشيخ د. القمي - وكان من علماء ايران - فإذا حضرت الصلاة كان الامام الاكبر الشيخ شلتوت يقدم د. القمي الشيعي للامامة في الصلاة دون اي حرج، وصلى بنا القمي مرات ومرات. فالشيخ شلتوت يعبر عن سماحة الاسلام. وكل فتاواه تعتمد على الاصول اي الكتاب والسنة وفي الكثير من المسائل كان يقدم ادلة المذاهب ثم يقول بشجاعة ورأيي فيها كذا وكذا.. من هنا احببنا الشيخ شلتوت ونحن طلاباً.

وما زلت اذكر مقاله الذي اثار ضجة في الاربعينات وكان بعنوان «شخصيات الرسول» فرق فيه بين الرسول كرسول معصوم يوحى إليه، والرسول كبشر يعتريه ما يعتري اي بشر من عوارض. وقد هاجمه علماء الازهر لكنه لم يكن يلتفت لمثل هذه الامور.

ايضاً جاء سؤال للشيخ المراغي من الهند يقول: هل يخرج من الاسلام من يعتقد ان عيسى عليه السلام قد توفي؟ فحول السؤال الى الشيخ شلتوت الذي اجاب نفى الكفر عمن يعتقد في ذلك واستشهد بالآيات القرآنية ومنها «فلما توفيتني كنت انت الرقيب عليهم» وهاجمه علماء الازهر، فكتب في مجلة «الرسالة» مقالات تحت عنوان «ثبوت العقيدة» وبين فيها ان العقيدة بنبغي ان تثبت بدليل قطعي الثبوت، اما الادلة الظنية فلا تصنع عقيدة. وهو يقول: ان الطريق الوحيد لثبوت العقائد هو القرآن الكريم، وذلك فيما كان من آياته قطعي الدلالة (لا يحتمل معنيين فأكثر) وأما ما كان غير قطعي في دلالته محتملا المعنيين فأكثر، فهذا لا يصح ان يتخذ دليلا على عقيدة يحكم على منكرها بأنه كافر، وذلك كالآيات التي استدل بها بعض العلماء على رؤية الله بالأبصار في الدار الآخرة.. وكل القرآن قطعي الورود.

والظنية تلحق السنة من جهتي الورود والدلالة، ومتى لحقت الظنية الحديث - ظنية الورود او ظنية الدلالة، او هما معا، فلا يمكن ان تثبت به عقيدة يكفر منكرها، إنما يثبت الحديث العقيدة وينهض حجة عليها اذا كان قطعيا في وروده ودلالته، اي متواترا يبلغ الرواة له حدا من الكثرة تحيل العادة معه تواطؤهم على الكذب، وان يتحقق ذلك من جميع طبقاته: اوله ومنتهاه ووسطه، وهو عند التحقيق رواية الكافة عن الكافة

تقوى ثائرة

لقد كان الشيخ شلتوت يقول ما لا يجرؤ احد من العلماء على ان يقوله، فالإمام الاكبر كان مجتهدا عاقلا وشجاعا وتقيا.
فها هو الشاعر الكبير كامل الشناوي يرثيه عند وفاته: «كنت كلما التقيت بالإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت احسست اني اواجه تقوى ثائرة.. تؤمن بالله والإنسانية والحياة، فقد كانت عقليته متفتحة للمعرفة على اختلافها، وكان تبحره في العلوم الاسلامية، وفهمه لحقائق الدين يثير الانتباه إليه، ولم اعرف بين رجال الدين من يفوقه في قوة الجدل، وسلامة المنطق، والقدرة على الاقناع، والاستعداد للإصغاء الى الرأي المعارض له بسماحة ذهنية وصدر رحب.

اما اديبنا العملاق عباس محمود العقاد فقد وصف الشيخ شلتوت بأنه: «إمام التوفيق والتقريب».
وقد تسابقت كل التيارات والاتجاهات في ايران، بداية من مرشد الثورة آية الله على خامنئي مرورا بالرئيسين السابقين رفسنجاني وخاتمي وآيات الله والمرجعيات الدينية في إيران، تسابقوا جمعيا على الاحتفال بالشيخ محمود شلتوت وإقامة الملتقيات الدولية للتذكير بفتواه ومواقفه التوحيدية بين السنة والشيعة، بل ان المسلمين في اندونيسيا والفلبين وماليزيا وغيرهم مازالوا يذكرون فقه الشيخ شلتوت وزياراته التي ربطتهم بالعالم الاسلامي.

وعام 1959 راح الشاعر الكبير كامل الشناوي يسأل الشيخ محمود شلتوت في مكتبه بمشيخة الازهر - وكان الناس في انحاء العالم يتحدثون عن محاولات الوصول الى القمر، وما أكثر الذين ارتجفت عقائدهم من هذه المحاولات لأنهم رأوا فيها انتهاكا لسر خطير من اسرار الله. هل يمكن ان يقال ان الوصول الى القمر ليس هزيمة للعقيدة؟

فأجاب الشيخ شلتوت: بل يجب ان يقال انه نصر للعقيدة والدين وآية كبرى من آيات الله.. ولما سألته.. يقول كامل الشناوي: ماذا يكون موقفكم اذا وجهت إليكم دولة القمر الدعوة الى زيارتها؟.. فقال الإمام الاكبر الشيخ شلتوت: اذا ساعدتني صحتي على السفر فإني لن اتردد في الذهاب الى القمر وأنا اتمنى ذلك، بل اريده، لكي ارى بعيني اثرا من اثار القدرة الباهرة، قدرة الله الفعال لما يريد.
كان يحب ان يتصل بالمسلمين في كل مكان...

وكان يسعى الى توحيد كلمتهم على القرآن.

يقول زوج ابنته وسكرتيره الخاص الشيخ احمد نصار الذي مازال يبكي كلما حكى شيئا عن سيرة الشيخ ثم يكمل: كان الشيخ الجليل مصابا بالفالج ـ اي الشلل ـ في نصفه الأيسر ، وكان يسير بصعوبة وجاءته الدعوة لزيارة بعض بلدان العالم الإسلامي، وتصورت انه سيرفض متعللا بمرضه، الا انني فوجئت به يجهز نفسه للسفر، وبالفعل زرنا سنغافورة ثم الفلبين وماليزيا واندونيسيا، واستشهد محافظ «سور ابابا» وهي مقاطعة بالقسم الشرقي بقوة الإيمان التي حملت الشيخ شلتوت على السفر آلاف الاميال وهو على هذه الحالة، اما رئيس الفلبين وقتها فقد وضع طائرته الخاصة تحت تصرف الشيخ في سفره الى «مندناو» التي يسكنها المسلمون في جنوب الفلبين عندما رأى حالته الصحية واصراره على تفقد احوال المسلمين في الفلبين.. لم تكن الطائرات مريحة كالآن.

وانما كانت السلالم بجوار الطائرة، وكان الشيخ شلتوت يرفع قدمه اليمنى السليمة ويسحب اليسرى المصابة فيما اسنده انا من يده. اليسرى المشلولة سندة خفيفة، ثم ان المسلمين في كل مكان كانوا يتكالبون عليه، يقبلون يده ويصافحونه، وقد اضطر د. اشرف غربال الذي عينته الخارجية مرافقا للبعثة الى احتضان الشيخ لحمايته من الزحام.

يضيف الشيخ احمد نصار: وفي عام 1963 قام الشيخ شلتوت برحلة الى قطاع غزة الذي كان تحت الإدارة المصرية كان الشيخ قد قدم استقالته من مشيخة الأزهر، وشعر البعض من الضباط بالحرج امام الزائرين الاجانب الذين يلحون في طلب زيارة الشيخ شلتوت، فاشاعوا انه اعتزل الحضور الى الازهر لأنه مريض، فما كان من الشيخ شلتوت الا ان طلب مني ترتيب زيارة الى غزة ليتفقد احوال اهلها، وسافر بالفعل، وتجول في انحاء القطاع بسيارة جيب، وسائرا على قدمه، وعاد مهموما كما لم اره من قبل، وجاءه وفد من اساتذة الجامعات الامريكية لزيارته في منزله ، فارتفع صوت الامام الاكبر مدويا وهو يقول لهم: لقد زرت قطاع غزة، ورأيت الظلم مجسما، ورأيت المشردين في الفيافي والقفار، ورأيت الجياع والعرايا ، ورأيت ظلم الإنسان لاخيه الانسان. انها العنصرية الصهيونية التي اخرجتهم من ديارهم وجعلتهم كطائفة من الحيوانات.. انتم العلماء والأساتذة ..بلّغوا حكومتكم ما قلته لكم عما رأيت من جياع ومشردين سُلبوا اوطانهم وحيُرموا حق الحياة الكريمة.. قولوا لبلدكم.. بلد الحرية .. حرام ان يظل هؤلاء على هذا الحال، والعدو سائر في غيّه بلا رادع ولا وازع من ضمير وإني ادعوكم لنصرة المظلوم من عسف الظالم في فلسطين السليبة الحبيبة.

المشيخة في منزل الشيخ

استقال الامام الاكبر الشيخ محمود شلتوت من مشيخة الأزهر، فتحول منزله الى ملتقى للعلماء والوزراء والرؤساء، وكان الكل يصر على لقائه وسماعه، وكان الشيخ حريصا على حضور والتفاف اولاده واحفاده من حوله في هذه اللقاءات.

«جدي كان يحبنا بشدة ولذا كان يعاملنا معاملة اكثر من رائعة».
تقول اكبر احفاده السيدة هدى شلتوت وتكمل: انجب جدي 4 اولاد و4 بنات، اكبرهم والدي العميد ايهاب شلتوت الذي كان قائد القوات المصرية في غزة قبل حرب 1967 ..والثاني المهندس سعيد شلتوت مسؤول عن شركة المقاولات بالسعودية، والثالث احمد شلتوت بشركة البترول والرابع جلال شلتوت موجه علوم الأزهر..

وقد اصبح لجدي الشيخ شلتوت 40 حفيدا.

كان عمري (14 سنة) عندما توفي جدي واذكر اننا كنا نذهب اليه في الفيلا كل يوم خميس.. كان يرتدي جلبابه الابيض وطاقية بيضاء. وقبل ان يضع يده في الطعام يسأل جدتي:هل اطعمتم الخدم؟ .. ثم يبدأ في إطعامنا بيده ويداعبنا برقة متناهية، كان يحب أكل اللحم المسلوق مع الارز او الفتة، ولم يكن يأكل كثيرا، وفي العصاري يجلس في البلكونة ونملأ له براد شاي ونرص معه في صينية عدة اكواب، ونراه يدعو كل من يمشي امام البلكونة لشرب الشاي حتى باعة الخضار والجرائد، كانوا يقفون معه لشرب الشاي والتحدث في كل شيء دون ان يتذمر شيخ الازهر من سذاجة بعضهم أو بساطتهم، وكان يصغي اليهم بانتباه، ويصب لهم الشاي بيده امام الفيلا فكانت - وما زالت- هناك مدرسة للراهبات اللاتي يعرفن ان شيخ الازهر يسكن في مواجهتهن فكن يترددن في الحديث معه حتى بادر هو بزيارة المدرسة والحديث الى الراهبات، وبعدها اصبحن يعرفنه جيدا، حيث كن يحضرن اليه في الفيلا ويسألنه عن بعض الامور الدينية.ومازالت صورة جدي الشيخ شلتوت معلقة في برواز داخل المدرسة الى جوار صور القساوسة والرهبان، لانهن كن يعتبرنه افضل شيخ يعبر عن سماحة الاسلام وروحه في الود والتواصل مع الآخرين.

وثمة أمر آخر - تضيف هدى شلتوت: كان يميز شخصية الجد الامام الاكبر.. فالشيخ شلتوت كان يرفض كل صور الاكراه او الضغط على احد من اجل دفعه لقرار ما، وما زلت اذكر وانا صغيرة لا يتجاوز عمري الرابعة عشرة ان ابي واعمامي اختاروا لي عريسا واصروا على زواجي منه، ولكني رفضت ولجأت الى جدي لكي احتمي به، وبالفعل قال لهم: البنت ما زالت صغيرة،واتركوها تقرر ما تريد وتختار من تشاء، وذهب العريس وبقيت في نفسي هذه الروح الطيبة لجدي صاحب العقل المتفتح والفاهم لروح الاسلام ومبادئه.

الحفيدة الثانية للشيخ شلتوت السيدة هدية شلتوت مازالت تذكر مواكب الزائرين لبيت جدها الامام الاكبر: كان جدي قد اعلن اعتكافه واستقالته من المشيخة، فاصبح الرؤساء يحضرون اليه في المنزل وينادي هو علينا لنجلس معه ومعهم.. الإمبراطور الأثيوبي هيلاسلاسي زارنا في المنزل واعطى كل واحد من أبناء الشيخ واحفاده جنيها ذهبيا، ومازلت اذكر زيارة الرئيس العراقي عبد السلام عارف واليمني عبد الله السلال وغيرهم من الرؤساء والوزراء الذين كانوا يصرون على لقاء الشيخ والتحاور معه.

الشيخ والمرأة

في خطوة جريئة، لم يخطها احد بعد الإمام محمد عبده، تقدم الشيخ شتلوت نحو المطالبة بحقوق المرأة كما أقرها القرآن الكريم وفي الوقت الذي كان البعض فيه يعامل المرأة على انها ناقصة الأهلية، كان الإمام الاكبر الشيخ محمود شلتوت يطرح رؤية قرآنية واضحة للمرأة كإنسان كامل الأهلية والشخصية والمسؤولية.

يقول الشيخ شلتوت: عرض القرآن للمرأة في عشر سور او اكثر تحدث فيها القرآن عن الاصل الذي تكاثر منه الإنسان، وجعل المرأة شريكة الرجل في تكوين ذلك الأصل، وجعله نعمة توجب على الإنسان.. التقوى والمراقبة.. انظر قوله تعالى في سورة النساء: (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء، واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام، ان الله كان عليكم رقيباً).

وجعل للمرأة الحق في المبايعة على السمع والطاعة والقيام بحدود الشريعة واحكامها.. انظر قوله تعالى في سورة الممتحنة: (يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك. على أن لا يشركن بالله شيئاً ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن اولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين ايديهن وارجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله، ان الله غفور رحيم).

ومن لطيف ما يروى في شأن مبايعة النبي صلى الله عليه وسلم - ذلك الحديث الطويل الذي جرى بينه وبين هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان، فإنك تلمح دلائل «الزعامة النسائية».. مرسومة على وجه هند، واذا علمت ان التي روت هذا الحديث ـ الحوار هي أميمة بنت رقية لا يبعد ان تلمح على وجهها هي الاخرى دلائل: «سكرتيرة الحركة النسائية».. فما اشبه الليلة بالبارحة، وانظر الى هذه الظاهرة العظيمة، ظاهرة حرية المرأة في نقاشها، وحوارها للنبي.. حرية لا يحلم بها الرجال عند اعظم ملوك الارض ديموقراطية.

ولعلك تأخذ من مبايعة النبي صلى الله عليه وسلم للنساء مبايعة مستقلة عن الرجل، ان الاسلام يعتبرهن مسؤولات عن انفسهن مسؤولية خاصة مستقلة عن مسؤولية الرجل، فالمرأة في القرآن لا يؤثر عليها وهي صالحة فساد الرجل وطغيانه، ولا ينفعها وهي طالحة صلاح الرجل وتقواه، فإنها ذات مسؤولية مستقلة فيما يتعلق بشوونها أمام الله، ولقد كان من لوازم استقلالها في المسؤولية ان تكون كالرجل في درجات المثوبة على فعل الخير ودرجات العقوبة على فعل الشر.
اقرأ قوله تعالى: (ومن يعمل من الصالحات من ذكر او انثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يُظلمون نقيراً).

يضيف الشيخ محمود شلتوت: فلقد رفع القرآن من شأن المرأة الى درجة لم تكن تحلم بها من قبل، ولم تصل اليها من بعد في غير جو الاسلام، جعل لها حقاً في المال كالرجل، ومنحها حق التصرف فيه دون رقابة او ولاية، وجعل اذنها شرطاً في صحة زواجها، وجعل لها من حقوق الزوجية مثل ما عليها، وجعلها ذات مسؤولية مستقلة في العبادات والمدنيات والجنائيات.

ويتكلم الشيخ شلتوت في وضوح، نعم تكلم الفقهاء في مباشرتها عقد الزواج.. فمنهم من منع ومنهم من اباح ولكنا قد التزمنا التحدث عن حقوق المرأة اخذاً من القرآن وكما يفهم من القرآن، ونحن اذا رجعنا الى القرآن في هذه المسألة وجدناه يضيف هذا التصرف الى المرأة نفسها.
انظر الى قوله تعالى في سورة الاحزاب: (وامرأة مؤمنة ان وهبت نفسها للنبي ان اراد النبي ان يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين».

ويقول في سورة البقرة: «فإذا بلغن اجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في انفسهن بالمعروف».
وهذه الآيات ظاهرة في ان زواج المرأة ورجوعها الى زوجها مضاف اليها صادر عنها.. وفي ان آثاره تترتب عليها من غير ان يتوقف على مباشرة وليها لهذه التصرفات او إذنه به.

ويقتحم الامام الاكبر الشيخ محمود شلتوت بجرأة المنطقة الشائكة في موضوع المرأة وهي الميراث والشهادة فيقول: «فوضع الرجل والمرأة في الميراث لا علاقة له بالإنسانية التي يشتركان فيها على حد سواء، وكذلك الشهادة.. فقول الله تعالى: «فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان».
ليس وارداً في مقام الشهادة التي يقضي بها القاضي ويحكم، وانما هو وارد في مقام الارشاد الى طرق الاستيثاق والاطمئنان على الحقوق بين المتعاملين وقت التعامل.

(يا أيها الذين آمنوا اذا تداينتم بدين الى اجل مسمى فاكتبوه)، الى ان قال (واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء ان تضل احداهما فتذكر احداهما الاخرى).
فالمقام مقام استيثاق على الحقوق، لا مقام القضاء بها.. والآية ترشد الى افضل انواع الاستيثاق الذي تطمئن به نفوس المتعاملين على حقوقهما وليس معنى هذا ان شهادة المرأة الواحدة او شهادة النساء اللاتي ليس معهن رجل، لا يثبت بها الحق، ولا يحكم بها القاضي، فان اقصى ما يطلبه القضاء هو البينة وقد حقق العلامة ابن القيم ان البينة في الشرع اعم من الشهادة وان كل ما يتبين به الحق ويشهره هو بينة يقضى بها القاضي ويحكم واعتبار المرأتين في الاستيثاق كالرجل الواحد ليس لضعف عقلها الذي يتبع نقص انسانيتها ويكون اثرا له، وانما هو لان المرأة كما قال الشيخ محمد عبده، ليس من شأنها الاشتغال بالمعاملات المالية ونحوها من المعارضات ومن هنا تكون ذاكرتها فيها ضعيفة، ولا تكون كذلك في الامور المنزلية التي هي شغلها فانها فيها اقوى ذاكرة من الرجل.

تقول اصغر بنات الشيخ شلتوت السيدة فوزية التي صاغت كلامها في لغة عربية فصحى علمها لها والدها وتوضح ابي الامام الاكبر كان رجلا عصريا جدا، كان يحب بناته ويحرص على تعليمهن وكان شعاره «لازواج قبل الحصول على الشهادة» واذا رأى من يتذمر او يعترض على انجاب البنات كان ينهره ويذكره بفضل البنات وانهن نعمة من الله، وان البنت هي الابنة والام والزوجة.

اما امي - وكانت من طراز الهوانم - فكانت تقوم على خدمة ابي الشيخ روحيا، كان يحضر من عمله فتسأله عن كل ما حدث له في يومه، وتطمئن على احواله وهو يجيبها ببساطة وحب شديدين، وهو بدوره وكان يستشيرها في كل شيء، ويحبها جدا ولم نسمعه مرة واحدة يتحدث عن امرأة غير امي، بل كان يقول لها «كل نساء الدنيا عندي في البيت وهن انت» وكان يزورنا في البيت سيدات كثيرات افريقيات واوروبيات البعض منهن يشهر اسلامه، والبعض الاخر للتعرف على الشيخ، وكانت امي تحضر بعض هذه اللقاءات.

في الغناء والموسيقا

لقد فاجأ الامام الاكبر الشيخ شلتوت المسلمين في مصر والعالم ليس فقط بإباحة الغناء والموسيقا بكل الوانها، ولكن بالدعوة الى تعلمها ومعرفة اصولها فالغناء والموسيقا: الاصل فيهما الحًلّ.. والحرمة عارضة، وحب اللذة: غريزة فطرية في الانسان.. والشرع ينظمها دون قمع، ودون افراط، ومرويات التحريم: ضعيفة او تتحدث عن توظيف الغناء والعزف في المحرمات.. يقول الشيخ محمود شلتوت: «ان الاصل الذي ارجو ان يتنبه الناس اليه.. هو ان الله خلق الانسان بغريزة يميل بها الى المستلذات والطيبات التي يجد لها اثرا في نفسه، به يهدأ، وبه يرتاح، وبه ينشط، وبه تسكن جوارحه فتره ينشرح صدره بالمناظر الجميلة كالخضرة المنسقة والماء الصافي الذي تلعب امواجه والوجه الحسن الذي تنبسط اساريره، ينشرح صدره بالروائح الزكية التي تحدث خفة في الجسم والروح، وينشرح صدره بلمس النعومة التي لا خشونة فيها، وينشرح بلذة المعرفة في الكشف عن عدل مخبوء..

ولعل قيام الانسان بمهمته في هذه الحياة ما كان ليتم على الوجه الذي لاجله خلقه الله الا اذا كان ذا عاطفة غريزية، توجهه نحو المشتهيات وتلك المتع التي خلقها الله معه في الحياة فيأخذ منها القدر الذي يحتاجه وينفعه والشريعة توجه الانسان في مقتضيات الغريزة الى الحد الوسط، فهي لم تنزل لانتزاع الغريزة من حب المناظر الطبيعية ولا المسموعات المستلذة وانما نزلت بتهذيبها وتعديلها على ما لا ضرر منه ولا شر وبهذا يتضح ان تعلم الموسيقا مع الحرص على الفرائض والتكاليف نابع من الغريزة التي حكمها العقل بشرع الله وحكمه، فنزلت على ارادته، وهذا هو اسمى ما تطلبه الشرائع السماوية من الناس في هذه الحياة.

ولقد كنت ارى ان هذا القدر -يضيف الشيخ شلتوت- كاف في معرفة حكم الشرع في الموسيقا، وفي سائر ما يحب الانسان ويهوى بمقتضى غريزته لولا ان كثيرا من الناس لا يكتفون بل ربما لا يؤمنون بهذا النوع من التوجيه في معرفة الحلال والحرام وانما يقنعهم عرض ما قيل في الكتب واثر عن الفقهاء، واذا كان ولابد فليعلموا ان الفقهاء اتفقوا على اباحة السماع في اثارة الشوق الى الحج، وفي تحريض الفاتحين على القتال، وفي مناسبات السرور المألوفة كالعيد، والعرس، وقدوم الغائب وما اليها ورأيناهم فيما وراء ذلك على رأيين: يقرر أحدهما الحرمة، ويستند الى احاديث وآثار، ويقرر آخر الحل ويستند كذلك الى حديث وآثار وكان من قول القائل بالحل «انه ليس في كتاب الله، ولا سنة رسوله، ولا في معقولهما من القياس والاستدلال ما يقتضي تحريم مجرد سماع الاصوات الطيبة الموزونة مع آلة من الآلات» وقد تعقبوا جميع ادلة القائلين بالحرمة، وقالوا: انه لم يصح منها شيء.

وقد نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم كثير من الصحابة والتابعين والائمة والفقهاء انهم كانوا يسمعون ويحضرون مجالس السماع البريئة من المجون والمحرم.

تاريخ النشر: الاحد 5/2/2006

زوربا
04-13-2009, 02:10 AM
رحم الله الشيخ شلتوت الذي كان يصلي خلف القمي الشيعي من غير حرج

بودي ان ارى هذا المنظر مرة اخرى في وفتنا الحاضر حتى تتعلم الاجيال بانه لا فرق بين شيعي ولا

سني الا بالتقوى