المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : «نصب الشهيد» تحفة بغدادية باهرة.. سياسيو الحوزة يسعون لإزالتها من الوجود



مرتاح
01-28-2006, 09:24 AM
ما كل أنصاب زمن البعث مجرمة تستحق الإعدام


فاروق يوسف



http://www.asharqalawsat.com/2006/01/25/images/art.344905.jpg


تنهال معاول التدمير على النصب التي أقيمت في زمن البعث، ويتساوى في ذلك تمثال الطاغية والرصافي. ما هدم ذهب وما لم تطله أيدي التدمير ينتظر دوره، دون تمييز بين تراث بات قطعة ثمينة من تاريخ العراق أو مجرد نصب دعائي رخيص. المثير اليوم، أن «نصب الشهداء»، الذي يعتبر من أهم معالم بغداد الفنية هو المستهدف رقم 1 من قبل بعض الجهات، لاعتباره جزءاً من تراث الحرب العراقية ـ الايرانية والذي يجب من وجهة نظرهم أن يستبعد من الذاكرة العراقية.

أضع يدي على قلبي خشية أن يذهب «نصب الشهيد» في بغداد ضحية جهل الغاضبين بقيمته الجمالية والتاريخية. وأتذكر النحات الانجليزي الكبير كينيث ارمتياج، الان بالذات. فقد كان الرجل بيننا في بغداد عام 1986، وكنا نرتقي سلالم المرمر اللامعة التي تؤدي إلى ذلك النصب المهيب الذي صممه الفنان اسماعيل فتاح، حشود من فنانين ومؤرخين ونقاد فن من مختلف انحاء العالم، جمعتهم لحظة خشوع واحدة، بيضاء تماما وخالصة كما لو أنها قدت من النعيم. كانت جماليات اليسر العبقري، حسب تعبير ارمتياج هي التي سحرته، وجعلته يرى في فتاح نحاتا عالميا، صفة كررها غير مرة، وهو لا يجد من الكلمات ما يسعف دهشته.

ذلك لان فتاح من خلاله استطاع ان يستخرج من صفاء العناصر لغة تغنيه عن القول المستفيض، فلا زخارف ولا تفاصيل ولا اشارات ولا أقاويل ولا حكايات. بلاغة هذا العمل مقتضبة وصادمة ومشدودة. اطنان من حديد ومواد مختلفة أخرى لا تقل عنه ثقلا صنعت كتلة أسرت جزءاً من فضاء بغداد، كتلة خفيفة كما لو أنها خفقة جناح لطائر ذاهب الى غيابه. حين انجز نصب الشهيد، شعر فتاح بانه قال أخيرا كلمته، تلك الكلمة التي ستبقي اسمه خالدا في سجل النحت العالمي، كان مطمئنا ولم يشعر بالخوف الذي كنا نشعر به.

كان يعرف أن ذلك النصب هو خط النهاية في مسيرته نحاتا، لذلك لم يعمل على تجاوزه من خلال اعمال نحتية أو نصبية أخرى، بل تفرغ كليا للرسم. كان نصب الشهيد بالنسبة لمبدعه خلاصة حياة متوترة، استطاع من خلالها أن يتحلى بخفة ادواردو شيلدا وليونة ريشارد سيرا وشقاء جياكومتي. بعده ذهب النحات الى خلوته هادئا ليستريح، غير أنه ترك وراءه شغبا ظل عالقا بين اصابع كل النحاتين العراقيين، الذين رأوا في ذلك النصب قمة الجبل، التي يصعب الوصول اليها. فاذا كان «نصب الحرية» لجواد سليم قد الهم العراقيين طوال عقود من الزمان خيال الحكاية، فإن «نصب الشهيد» سيظل يلهمهم حكاية الخيال وهو يقبض على رشقة بروقه وأناشيد رعوده. وإذا كان النحت في العراق قد أحتاج الى أكثر من عقدين من الزمن ليتخلص من عقدة «نصب الحرية» ترى كم سيحتاج من الزمن ليبرأ من هيمنة «نصب الشهيد» عليه؟ كان ذلك السؤال يلح على الجميع، إلا فتاح الذي هرب بعيدا عن صنيعه العملاق.

نصب الشهيد في جزئه الأهم هو عبارة عن قبة مشطورة الى نصفين، متماثلين غير أنهما غير متقابلين. انحراف يسير هو مصدر كل هذه الفوضى التي يشيعها النظر اليه، وهو مصدر كل هذا الدوي من الايقاعات التي تتناسل في اعماق الرائي، كما لو أنه عن طريق ما يرى قد امتطى عجلة الزمن التي تلقي به في مكان لا يخضع لزمن بعينه، زمن مطلق لا حدود له. وهو ما لا يدركه الرعاع ممن يظنون أن ذلك النصب هو جزء من مخلفات نظام البعث. وفي الحقيقة فإن نصب الشهيد كأي عمل فني عظيم هو ابن زمان مطلق، تضيق به الازمنة المحكومة بالزوال ويتسع له الابد. أعمال من هذا النوع تنسل بعيدا عن الزمن الذي انتجها، وهي إذ تقدم شهادتها مجبرة من قلب عصر ما (وهي لا بد أن تفعل ذلك) فانها ترخي ظلال تأملاتها على كل العصور. ونصب الشهيد في حقيقته هو التعبير الخالص عن المنحى الذي اختطه فتاح لسيرته الفنية، والتي اجتهد في أن تكون بعيدة عن اهواء الزمان (السياسية بالاخص).

ذلك لان هذا الفنان وهو واحد من أهم رواد التحول الفني الستيني في العراق (ولد عام 1934 وتوفي عام 2004) كان قد حرص على المسافة التي تفصل بين الفن بقيمه الجمالية والانسانية المزهوة بترفعها وكرامتها وحريتها وبين تحولات الفكر اليومي الطارئة والعابرة. لم تكن منحوتات فتاح جزءاً من الشائعة الاعلامية وكذلك النصب التي صنعت جزءاً من حيز بغداد الجمالي (ابو نواس، الواسطي، التأميم، الرصافي، الشاعر الكاظمي، وهناك نخلته البيضاء التي القيت في شارع حيفا بعد أن طردت من قصر المؤتمرات بأمر شخصي من الرئيس صدام حسين). كل هذا لا يعني شيئا بالنسبة للقراءة الخاطئة، بل المعتزة بخطئها. تلك المنحوتات وسواها انجزت في زمن البعث، وهو زمن طويل، لم تكن فيه الثقافة نائمة. الرغبة في محو ذلك الزمن وهي رغبة ضد التاريخ وضد العقل لا بد أن تمتد اولا الى الشواهد، وهي الانصاب لتدفنها. بدأوا بنصبي المسيرة وأبي جعفر المنصور لمبدعهما خالد الرحال، والمتنبي لمحمد غني، حكمت ونصب الاسرى لطلال عيسى. وكل الظن أن يد التخريب ستمتد إلى جميع النصب التي صنعت لبغداد فضاءها العاطفي وذاكرتها البصرية. فهناك كهرمانة وشهريار وشهرزاد وعنترة و14 تموز والنسور والرياضيون في كورنيش الاعظمية والجندي المجهول. ولكن الشر كله متجه الى نصب الشهيد.

حين سقطت بغداد عام 2003 اثر الغزو الأميركي، كان تحطيم تمثال صدام هو بمثابة الاعلان الرسمي لنهاية عهد طويل، وقد تم ذلك الحدث في ساحة الفردوس. وهي ساحة لم يسمع باسمها عراقيو المنافي. وفي اللحظة العصيبة تلك اكتشف العراقيون أن الساحة تلك هي عينها ساحة الجندي المجهول التي يعرفها كل بغدادي، حيث كان النصب الرائع الذي صممه رفعت الجادرجي يشمخ هناك. لقد اكتشفت لحظة سقوط بغداد أن ذلك النصب لم يعد موجودا على المستوى الفيزيائي. لقد ازيل ليحل محله تمثال الطاغية، الذي ازيل هو الاخر. حكاية نصب الشهيد تشبه الى حد كبير حكاية ذلك النصب. فنصب الشهيد الذي يرى فيه سياسيو الحوزة في العراق جزءاً من تراث الحرب العراقية ـ الايرانية والذي يجب من وجهة نظرهم أن يستبعد من الذاكرة العراقية ليس حجرا ليزال ولا كتابة لتمحى، بل هو فضاء بصري يصنع بابخرته المستعادة لفتة نادرة من لفتات الجمال الانساني الخالد. لقد وهب اسماعيل فتاح بغداده ممرا هوائيا يقود الى جنة خيالية هي عبارة عن كون جمالي صغير، فهل ستتخلى بغداد عن هبة ابنها؟