المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مقبرة أم البشر «حواء» في جدة.. أقاويل وحكايات لا يعرف حقيقتها أحد



سمير
01-27-2006, 02:18 PM
أسطورة شعبية تجسد حياة مدينة

جدة: حليمة مظفر


«ظللت لوقت طويل لا أعرف من هذه المقابر إلا أسوارها، أقف في أحيان متغلباً على خوفي، أتربص من خلال شقوقها، بذلك الفضاء المتسع لرؤية قبور حملت حدبتها بتماسك، وظلت في مواجهة حياة شحيحة، تنثرها أصوات غربان أو أحدية عابرة، وفي أحيان عصافير هاربة».. كان هذا جزءا مما كتبه الروائي السعودي عبده خال على لسان أحد أبطاله في روايته الأخيرة (فسوق)، واصفاً المقبرة التي تكاد تكون بطلاً أسطورياً داخل روايته، تشارك شخوصها الحضور والكلام بصمت.

وإن كانت بطلة رواية الخال هي مقبرة الأسد التي تقع في مدينة جدة وسط البلد، فإن بطلة رواية تاريخ مدينة جدة وحياتها الطويلة، هي مقبرة أم البشر «أمنا حواء»، القابعة في حي العمارية، من الأحياء العتيقة في المدينة، وهي بجوار القشلة القديمة (مركز حرس الحدود)، تحيط بها أسوار عالية، بنية اللون مقاربة للون البرتقالي، وتحيط بها بنايات عملاقة قديمة تطل على المقبرة ببلكوناتها التي تمتلئ برؤوس ملتحفة بالسواد لبعض النسوة إذا ما كانت قد بدأت المقبرة تحتفي باستقبال أحد ضيوفها من الموتى.

ومقبرة «أمنا حواء» استطاعت أن تنسج أسطورة شعبية، إذا ما كانت قد نبعت من حقيقة عالمية لم يثبتها التحقيق البحثي العلمي والتاريخي الدقيق الذي تنتظره، وهذه الأسطورة قد تم تداولها لمئات السنين إن لم تكن لآلاف السنين بين الرحالة وساكني المدينة الصغيرة التي لم تكن تزيد مساحتها عن 1 كلم فقط، تحيطها أسوار عالية تحميها من الغزو البرتغالي الآتي من البحر الأحمر، وقد جسدت دور البطولة في تأسيس هذه المدينة العذراء (جدة)، لتكون حكايتها أكثر الحكايات الشعبية شهرة وارتباطا بأسرار المدينة المراهقة كالتصاق الجنين برحم أمه.

وكما يذكر الكاتب السعودي محمد صادق دياب صاحب كتاب (جدة/ التاريخ والحياة الاجتماعية)، «أنه لو ثبت علمياً أن جدة ذات يوم كانت مسرحاً لحياة أم البشر «حواء» أو حضناً لرفاتها، فإن ذلك من شأنه أن يمنح جدة الأسبقية في الاستيطان البشري على غيرها من المناطق».. وكما ذكر أن من احتمالات تسمية المدينة بجدة، هو نسبة لوجود حواء بها كونها الجدة الكبرى للبشر، وهكذا تبدأ بطولة المقبرة في تكوين حياة مدينة بأكملها لتكون أمنا حواء برفاتها بطلاً رئيساً في رواية الأسطورة.

ويبدو أن هذه المقبرة كانت ضيفاً ثقيلاً على سكان المدينة الصغيرة التي وصل عدد منازلها في عام 1327هـ إلى 3500 بيت مبني بالحجر الجبلي أو الحجر المائي، الذي كانوا يقطعونه من شعاب البحر قديماً، إذ كانت المقبرة تقبع خارج سور المدينة العالي من الجهة الشرقية على مسافة تقارب 1 كلم من بابها الشرقي المسمى بباب مكة.

ويذكر المؤرخ محمد طاهر المكي في كتابه «التاريخ القويم لمكة وبيت الله الكريم»، أن مقبرة «أمنا حواء» كانت ذات سور عال، يفتح بابه من الجهة الغربية، وكانت فترة الحج قديماً فترة خصبة لزيارة المقبرة من قبل الحجاج المسلمين الذين يفدون إليها بعد مناسك الحج للتبرك بها ظناً منهم أن أم البشر مدفونة بها، واستغل ذلك المحتالون ممن كانوا يبيعونهم بعضاً من تراب المقبرة، لأخذه معهم إلى بلادهم، فهو يحوي بركة حواء، أم البشر. ويصف المكي المقبرة التي استند فيها الى وصف البتنوني في كتابه «الرحلة الحجازية»، حيث رحلته إلى الحج التي قام بها عام 1327هـ، إثر دخوله إليها من بابها الغربي «فإذا دخلت من هذا الباب وجدت أمامك رأس قبر طويل ضارب إلى الشمال بمسافة 150م، على ارتفاع 1م، وفي عرض نحو 3 م، وهو ما يسمونه بقبر أمنا حواء».

وكان القبر الطويل الذي قيل انه قبر حواء كما رآه البتنوني في رحلته قد شيد عليه ثلاث قبب، قبة عند رأس حواء، وقبة عند قدميها، وثالثة عند صرتها. ويذكر «عند نهاية القبر ترى أناساً متطوعين لإرشادك عن مكان الرأس أو القدم، وأيديهم ممدودة للسؤال، وفي نحو ثلثي طوله من جهة الرأس قبة يفتح بابها إلى الغرب، وفيها شباكان يشرفان على جهتي القبر، وفي وسطها مقصورة من خشب عليها ستر من الجوخ فيها باب مقابل لباب القبة، فتحه لنا خادم المقصورة قائلاً: هذا مكان الصرة الشريفة، فنظرتُ، فوجدت حجراً من الصوان يبلغ طوله نحو متر، محفوراً من وسطه». ويذكر مكي في كتابه على لسان صاحب الرحلة الحجازية، أن قبر حواء العملاق الذي هيئ للناس أنه يحوي رفات جسدها الطويل الذي يصل طوله بطول القبر 150م، كان من الهياكل المقدسة في الجاهلية «فلما جاء الإسلام ومحا أثر الشرك من هذه البلاد، ودالت به دولة الوثنية وهدمت هياكلها، التي كان من ضمنها بالطبع هذا الهيكل، بقي أثره في نفوس القوم براً بحق الأمومة، وأقاموا له قبة لا ندري متى كان تشييدها لتكون مزاراً للناس».

وهذه القبة التي وجدت على هيكل حواء، كانت موجودة في القرن السابع الهجري، حيث ذكرها ابن بطوطة في رحلته المشهورة، إلا أنه لم يذكر شيئاً عن قبر حواء. أما ابن بجير فقد ذكر هذا القبر في رحلته التي قام بها عام 587هـ، وقال عنه «وبها (يقصد جدة) موضع فيه قبة مشيدة عتيقة، يذكر أنه كان منزلاً لحواء أم البشر عند توجهها إلى مكة، فبني ذلك المبنى عليه، تشهيراً لبركته والله أعلم». وكما يرى الكاتب محمد صادق دياب أن ما قيل عن وجود قبر يحوي هيكل أمنا حواء أو أنه كان منزلا لها اتخذته بعد أن أنزلها الله تعالى هي وآدم من السماء، حيث نزلت في جدة ونزل آدم في الهند، تعتبر حكاية أسطورية لم يتم التحقق منها بشكل علمي وبحثي دقيق، إلا أنه يؤكد أن كتب التاريخ ذكرت وجود القبة على هذا الموضع في مقبرة «أمنا حواء»، واعتقاد الناس بها ويقول «كما يذكر كانت هناك ثلاث قبب، قبة عند الرأس وأخرى عند القدمين وقبة عند الصرة، وهو قبر طويل، إلا أن هذا القبر تمّ هدمه بسبب استخدامه من قِبل بعض المحتالين في النصب والدجل على الحجاج والجهلاء ممن يعتقدون بوجود قبر حواء به». ويذكر مكي أنه عندما «قصد الشريف عون الرفيق، هدم قبتها في ما هدم من قباب بمكة، قام في وجهه قناصل الدولة وحالوا بينه وبينها، بدعوى أنها ليست أم المسلمين وحدهم»، إلا أن هذه القبة تم هدمها عام 1344هـ كما يذكر مكي في كتابه.

ويستدل مكي في كتابه على أن مدينة جدة لم تكن معروفة قبل عهد عثمان بن عفان الذي يعد أول من أسسها كميناء للمسلمين، فقد نقل أن بعض الناس اشتكوا من ميناء الشعيبة لكثرة الشعاب بها، وطلبوا من ابن عفان نقل هذا الميناء إلى جدة، فذهب مع بعض الصحابة، لمعاينة المكان الذي اختاروه، ووجده الأفضل، وحينها أمر بجعله ثغراً لمكة وتمت تسميته بـ «جدة»، التي لم تكن معروفة من قبل، ولو كان القبر الذي يحوي هيكل حواء موجوداً بها، لكان قد تم التعرف عليه حينها ونُقل عنهم ذلك، إلا أنه لم يحصل.

ويؤكد ذلك دياب بقوله «بيننا وبين زمن آدم وحواء عدد من السنوات الطويلة التي لا يعرفها إلا الله، ولا ننسى أن الطوفان الذي لم ينج منه سوى نوح والقليل من المؤمنين الذين رافقوه في السفينة قد أغرق الأرض، فكيف إذا سيبقى هذا القبر من ذلك العهد القديم على حاله، كما أنه لم ينقل شيء عنه من دليل شرعي، ما يستند اليه لتأكيد ذلك من بحث علمي تاريخي، وما هو في اعتقادي سوى أسطورة شعبية تناقلها العامة من الناس حول هذا الموضع».