هاشم
01-16-2006, 01:13 AM
د.عبدالحميد الأنصاري
في كارثة وصفت بأنها الأسوأ على امتداد مواسم الحج عبر (15) عاما حصل تدافع عنيف للحجاج عند مدخل جسر الجمرات الشرقي في ثاني أيام التشريق فسقط بعضهم وماتوا دهسا, توفي (345) حاجا وأصيب (289) بينهم وزير الصحة السعودي, كما توفي بعض رجال الأمن- رحمهم الله جميعا.
وفي موسم الحج الماضي, في صباح يوم العيد, حصل تدافع عند الجمرة الكبرى, فتوفي (251) حاجا.
لماذا أصبح سقوط الضحايا في كل موسم حج قدرا لازما? إلى متى يستمر المسلمون عاجزين عن تنظيم أداء المنسك الخامس بشكل حضاري مشرف? من يتحمل مسؤولية الدماء البريئة? تلك اسئلة تؤرق ضمائرنا وتحملنا المسؤولية وتدفعنا للبحث عن حلول ومخارج لعدم تكرار تلك الظروف المأساوية ونعلم أن هناك من يطرح هذه الأسئلة ليصطاد في الماء العكر وليسيس الموضوع ويتخذها ذريعة لإلقاء اللوم على الدولة الراعية لضيوف الرحمن أملا في إشراف دولي إسلامي مزعوم على المناسك, ولكن هيهات, ولنحمد المولى على عدم حصول ذلك وإلا انقلب الحج موسما سياسيا للصراعات والنزاعات العربية والإسلامية كحال بقية شؤوننا المشتركة التي تعجز عن حلها قممنا العربية والإسلامية. نحن نطرح الأسئلة بهدف التشخيص ورصد الأسباب والعوامل التي أدت إلى وقوع الكارثة, وأتصور أن هناك ثلاثة عناصر متشابكة تسهم في تكرار الحوادث المأساوية كل سنة. وهي:
1- سلوكيات بعض الحجاج غير الحضارية: وهي سلوكيات ناتجة عن ثقافة متخلفة تسودها ورح الأنانية واللامبالاة بالآخرين, (ثقافة التدافع والاقتحام) عندما يعمد بعض الحجاج وفي مجموعة متكاتفة بأجسامهم القوية فيقتحمون الآخرين من الضعفاء وقد يموتون تحت أرجلهم من غير رحمة ويتناسون أنهم في أطهر مكان وبين يدي الرحمن, وقد حصل أنه مع حلول الزوال أن بدأت الأفواج تتدفق على الجسر وكان بعضهم يحمل أمتعته الثقيلة على ظهره, تعجلا لمغادرة (منى) قبل الغروب. ونظرا للتزاحم الشديد والعنيف سقطت الأمتعة ليسقط بعضهم ويتعثر بها فيأتي أصحاب القامات الطويلة والبنية القوية من الأفارقة وغيرهم ليدهسوا أصحاب البنية الضعيفة والقامات القصيرة من جنوب شرق آسيا فيموت بعضهم ويصاب آخرون.
2- الجمود الفقهي:
لقد أجمعت المصادر الرسمية أن شدة التزاحم على الرمي ناتجة عن أمرين:
أ- الإصرار على الرمي بعد الزوال تمسكا بالفتوى السائدة.
ب-تعجل معظم الحجاج للخروج من (منى) قبل غروب الشمس وإلا فإنهم يضطرون للمبيت حتى اليوم الثالث ليرموا الجمرات-تمسكا برأي الجمهور الذي يرى وجوب ذلك.
والسؤال الآن: ما الذي يدفع الحجاج -الأكثرية منهم- إلى الإصرار على الرمي بعد الزوال وإلى التعجل للخروج قبل مغيب الشمس, إنه جمود الفتاوى الفقهية المتمسكة برأي الجمهور في زمن وظروف غير مناسبين إذ لا يزال أكثرية الفقهاء المعاصرين لا يجوزون الرمي قبل الزوال أيام التشريق الثلاث كما أنهم يوجبون المبيت في (منى) على من لم يستطع الخروج قبل مغيب شمس ثاني أيام التشريق, وفي الأمرين بلاء عظيم, إذ يتحول منسك الرمي إلى ساحة معركة رهيبة يسقط فيها الضعفاء والعجزة والنساء وكبار السن, والله سبحانه هو القائل: »وما جعل عليكم في الدين من حرج« و »فاتقوا الله ما استطعتم« ورسوله يقول: (يسروا ولا تعسروا) فأين هؤلاء الفقهاء من مقاصد الشريعة العليا في صيانة أرواح الناس? وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أذن لذوي الحاجة بالرمي قبل الزوال وبعدم المبيت في منى فلماذا التشدد الآن ونحن في ظروف أشد حاجة للتخفيف على الحجاج?
رحم الله الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود, رئيس المحاكم الشرعية في قطر لجرأته المحمودة في انتصاره ودفاعه عن مذهب القائلين بجواز الرمي قبل الزوال مطلقا وبعدم تحديد شمس الغروب سقفا للرمي.
يقول رحمه الله في رسالته التي سماها (يسر الإسلام في أحكام حج بيت الله الحرام) وقد حررها في شعبان عام 1392 ه¯: »إن هذا التحديد -رمي الجمرات- بما بين الزوال إلى الغروب, ليس له أصل من الكتاب ولا من السنة ولا القياس ولا الإجماع, فلا تجوز نسبة القول به إلى الشرع مع عدم ما يدل على صحته«, ولا شك أن في إطالة وقت الرمي سعة للحجاج تخفف من تزاحمهم وتدافعهم, وهو يشير رحمه الله إلى أن هذا التحديد -مابين الزوال إلى الغروب- كان اجتهادا من الفقهاء في القرن الثاني الهجري وأخذ بعضهم ينقل عن بعض القول به حتى ظن بعضهم أن هذا حكم عام لازم مع أن ذلك ليس بلازم ولا خلاف في أنه (وقت فضيلة) فليكن ما قبل الزوال والليل (وقت إباحة) والحالة الآن ضرورة توجب إعادة النظر فيما يزيل الضرر ويؤمن الناس مخاوف خطر الزحام والسقوط تحت الأقدام وهي تزداد عاما بعد عام, وكيف لا نقول بالجواز وبعض الحنابلة والشافعية - قديما - قد ذهبوا إلى القول بأنه لو جمع الجمار كلها بما فيها (عقبة العيد) فرماها في اليوم الثالث أجزأته, لأن أيام (منى) كلها كالوقت الواحد, وكيف نمتنع وقد قال بالجواز طاووس وعطاء والرافعي وأبو حنيفة وابن الجوزي ورواية عن أحمد?
إن على مجامعنا الفقهية وكليات الشريعة سرعة تبني هذا الرأي -قولا واحدا- وحسم القضية لمصلحة المسلمين, لا حرج في الرمي في أية ساعة من أيام التشريق ليلا أو نهارا, ولا مبيت على متعجل في يومين وإن أدركته شمس مغيب (منى) ما دام على نية الخروج والنفرة, وإذا كانت سلوكيات بعض الحجيج لن تتطور ولن ترتقي إلى المستوى الحضاري الإنساني بما يجعلهم يتراحمون ويساعد بعضهم بعضا لأنهم من بيئات وثقافات شتى فلا أقل من أن تتطور الفتاوى الفقهية إلى ما فيه رحمة بالمسلمين وذلك أضعف الإيمان.
3- ضيق المكان: السلطات السعودية وضعت مشروعا هندسيا تطويريا شاملا لمنطقة الجمرات, وهو يشكل حلا جذريا يقوم على تفتيت الكتلة البشرية إلى مداخل متعددة وإنشاء أنفاق سريعة وتعدد الطوابق وتطوير شكل الحوض والشاخص من الدائري إلى البيضاوي, والمشروع قيد التنفيذ وهو يستغرق زمنا وقد انجز بعضه.
ولعل في تطوير الحلين: الفقهي والهندسي ما يعطينا الأمل في تجنب الحوادث المأسوية مستقبلا حيث لا أمل في تطوير سلوكيات بعض الحجاج مطلقا.
*كاتب قطري
في كارثة وصفت بأنها الأسوأ على امتداد مواسم الحج عبر (15) عاما حصل تدافع عنيف للحجاج عند مدخل جسر الجمرات الشرقي في ثاني أيام التشريق فسقط بعضهم وماتوا دهسا, توفي (345) حاجا وأصيب (289) بينهم وزير الصحة السعودي, كما توفي بعض رجال الأمن- رحمهم الله جميعا.
وفي موسم الحج الماضي, في صباح يوم العيد, حصل تدافع عند الجمرة الكبرى, فتوفي (251) حاجا.
لماذا أصبح سقوط الضحايا في كل موسم حج قدرا لازما? إلى متى يستمر المسلمون عاجزين عن تنظيم أداء المنسك الخامس بشكل حضاري مشرف? من يتحمل مسؤولية الدماء البريئة? تلك اسئلة تؤرق ضمائرنا وتحملنا المسؤولية وتدفعنا للبحث عن حلول ومخارج لعدم تكرار تلك الظروف المأساوية ونعلم أن هناك من يطرح هذه الأسئلة ليصطاد في الماء العكر وليسيس الموضوع ويتخذها ذريعة لإلقاء اللوم على الدولة الراعية لضيوف الرحمن أملا في إشراف دولي إسلامي مزعوم على المناسك, ولكن هيهات, ولنحمد المولى على عدم حصول ذلك وإلا انقلب الحج موسما سياسيا للصراعات والنزاعات العربية والإسلامية كحال بقية شؤوننا المشتركة التي تعجز عن حلها قممنا العربية والإسلامية. نحن نطرح الأسئلة بهدف التشخيص ورصد الأسباب والعوامل التي أدت إلى وقوع الكارثة, وأتصور أن هناك ثلاثة عناصر متشابكة تسهم في تكرار الحوادث المأساوية كل سنة. وهي:
1- سلوكيات بعض الحجاج غير الحضارية: وهي سلوكيات ناتجة عن ثقافة متخلفة تسودها ورح الأنانية واللامبالاة بالآخرين, (ثقافة التدافع والاقتحام) عندما يعمد بعض الحجاج وفي مجموعة متكاتفة بأجسامهم القوية فيقتحمون الآخرين من الضعفاء وقد يموتون تحت أرجلهم من غير رحمة ويتناسون أنهم في أطهر مكان وبين يدي الرحمن, وقد حصل أنه مع حلول الزوال أن بدأت الأفواج تتدفق على الجسر وكان بعضهم يحمل أمتعته الثقيلة على ظهره, تعجلا لمغادرة (منى) قبل الغروب. ونظرا للتزاحم الشديد والعنيف سقطت الأمتعة ليسقط بعضهم ويتعثر بها فيأتي أصحاب القامات الطويلة والبنية القوية من الأفارقة وغيرهم ليدهسوا أصحاب البنية الضعيفة والقامات القصيرة من جنوب شرق آسيا فيموت بعضهم ويصاب آخرون.
2- الجمود الفقهي:
لقد أجمعت المصادر الرسمية أن شدة التزاحم على الرمي ناتجة عن أمرين:
أ- الإصرار على الرمي بعد الزوال تمسكا بالفتوى السائدة.
ب-تعجل معظم الحجاج للخروج من (منى) قبل غروب الشمس وإلا فإنهم يضطرون للمبيت حتى اليوم الثالث ليرموا الجمرات-تمسكا برأي الجمهور الذي يرى وجوب ذلك.
والسؤال الآن: ما الذي يدفع الحجاج -الأكثرية منهم- إلى الإصرار على الرمي بعد الزوال وإلى التعجل للخروج قبل مغيب الشمس, إنه جمود الفتاوى الفقهية المتمسكة برأي الجمهور في زمن وظروف غير مناسبين إذ لا يزال أكثرية الفقهاء المعاصرين لا يجوزون الرمي قبل الزوال أيام التشريق الثلاث كما أنهم يوجبون المبيت في (منى) على من لم يستطع الخروج قبل مغيب شمس ثاني أيام التشريق, وفي الأمرين بلاء عظيم, إذ يتحول منسك الرمي إلى ساحة معركة رهيبة يسقط فيها الضعفاء والعجزة والنساء وكبار السن, والله سبحانه هو القائل: »وما جعل عليكم في الدين من حرج« و »فاتقوا الله ما استطعتم« ورسوله يقول: (يسروا ولا تعسروا) فأين هؤلاء الفقهاء من مقاصد الشريعة العليا في صيانة أرواح الناس? وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أذن لذوي الحاجة بالرمي قبل الزوال وبعدم المبيت في منى فلماذا التشدد الآن ونحن في ظروف أشد حاجة للتخفيف على الحجاج?
رحم الله الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود, رئيس المحاكم الشرعية في قطر لجرأته المحمودة في انتصاره ودفاعه عن مذهب القائلين بجواز الرمي قبل الزوال مطلقا وبعدم تحديد شمس الغروب سقفا للرمي.
يقول رحمه الله في رسالته التي سماها (يسر الإسلام في أحكام حج بيت الله الحرام) وقد حررها في شعبان عام 1392 ه¯: »إن هذا التحديد -رمي الجمرات- بما بين الزوال إلى الغروب, ليس له أصل من الكتاب ولا من السنة ولا القياس ولا الإجماع, فلا تجوز نسبة القول به إلى الشرع مع عدم ما يدل على صحته«, ولا شك أن في إطالة وقت الرمي سعة للحجاج تخفف من تزاحمهم وتدافعهم, وهو يشير رحمه الله إلى أن هذا التحديد -مابين الزوال إلى الغروب- كان اجتهادا من الفقهاء في القرن الثاني الهجري وأخذ بعضهم ينقل عن بعض القول به حتى ظن بعضهم أن هذا حكم عام لازم مع أن ذلك ليس بلازم ولا خلاف في أنه (وقت فضيلة) فليكن ما قبل الزوال والليل (وقت إباحة) والحالة الآن ضرورة توجب إعادة النظر فيما يزيل الضرر ويؤمن الناس مخاوف خطر الزحام والسقوط تحت الأقدام وهي تزداد عاما بعد عام, وكيف لا نقول بالجواز وبعض الحنابلة والشافعية - قديما - قد ذهبوا إلى القول بأنه لو جمع الجمار كلها بما فيها (عقبة العيد) فرماها في اليوم الثالث أجزأته, لأن أيام (منى) كلها كالوقت الواحد, وكيف نمتنع وقد قال بالجواز طاووس وعطاء والرافعي وأبو حنيفة وابن الجوزي ورواية عن أحمد?
إن على مجامعنا الفقهية وكليات الشريعة سرعة تبني هذا الرأي -قولا واحدا- وحسم القضية لمصلحة المسلمين, لا حرج في الرمي في أية ساعة من أيام التشريق ليلا أو نهارا, ولا مبيت على متعجل في يومين وإن أدركته شمس مغيب (منى) ما دام على نية الخروج والنفرة, وإذا كانت سلوكيات بعض الحجيج لن تتطور ولن ترتقي إلى المستوى الحضاري الإنساني بما يجعلهم يتراحمون ويساعد بعضهم بعضا لأنهم من بيئات وثقافات شتى فلا أقل من أن تتطور الفتاوى الفقهية إلى ما فيه رحمة بالمسلمين وذلك أضعف الإيمان.
3- ضيق المكان: السلطات السعودية وضعت مشروعا هندسيا تطويريا شاملا لمنطقة الجمرات, وهو يشكل حلا جذريا يقوم على تفتيت الكتلة البشرية إلى مداخل متعددة وإنشاء أنفاق سريعة وتعدد الطوابق وتطوير شكل الحوض والشاخص من الدائري إلى البيضاوي, والمشروع قيد التنفيذ وهو يستغرق زمنا وقد انجز بعضه.
ولعل في تطوير الحلين: الفقهي والهندسي ما يعطينا الأمل في تجنب الحوادث المأسوية مستقبلا حيث لا أمل في تطوير سلوكيات بعض الحجاج مطلقا.
*كاتب قطري