أبومرتضى
08-26-2003, 03:39 AM
إليكم أعزائي زوار المنتدى محاضرة الدكتور آغاجاري التي حكم عليه بالإعدام في إيران بسببها
البروتستانتية الإسلامية
نحيي الذكرى السنوية الخامسة والعشرين لاستشهاد الأخ والصديق الدكتور علي شريعتي والذي كان كالشمعة التي أضاءت عالما باحتراقها ، وما عساني أن أقول في النور المضيء لهذه الشمعة والذي يغمر وجودكم أيها الأعزاء ، إنها شمعة ليست ميتة وإنما ستعطي نورها للجيل القادم والأجيال اللاحقة على الرغم من اللامروءة واللارحمة التي بدأت في الأيام والسنوات القصيرة من عمره ولا تزال مستمرة حتى أيامنا هذه ، حيث نلاحظ اليوم اهتمام الجيل الحاضر وعودته مرة ثانية إلى شريعتي ، ويلاحظ الجميع التوجه إلى كتابات شريعتي وآثاره .
لقد حاول البعض أن يلطخ الشمس بالطين في عدة أيام ، ولم يتمكنوا أن يطفئوا شمس شريعتي بمختلف الاتهامات ، وعلى العكس من ذلك ازداد الإقبال على شريعتي يوما بعد آخر وأصبح أكثر جديه . قبل خمسة وعشرون عاما وبعد خروجه من السجن الصغير إلى السجن الكبير الذي اسمه إيران لم يستطع البقاء ، ولم يكن أمامه سوى الهجرة لغرض مواصلة الطريق . في ذلك الوقت لم تكن الثورة قد وقعت في إيران ، ولم يفكر أو يتوقع إلا القليل بأن تحولا عظيما سيقع في إيران ، وهو التحول الذي كان شريعتي واحدا من زراعه ومهندسيه الكبار . لقد نبتت البذور التي نثرها شريعتي وأثمرت بسرعة ، ولأن التربة التي زرعها هذا الزارع بالزهور كانت مع الأسف من صنف غير واحدة فقد ظهرت الأشواك بعد بضعة أيام وفي زوايا متفرقة من هذه الحديقة لتضيق على زهور هذه الحديقة ، أما الآن فإننا نلاحظ مرة ثانية نسيم جديد يهب على هذه الزهور لتتنفس بحرية من جديد .
إن موضوع حديثي اليوم هو البروتستانتية الإسلامية والدكتور شريعتي . إن الدكتور شريعتي كان قد قسم كتاباته إلى ثلاثة أقسام هي ما يلي : -
أولا : الصحراويات .
ثانيا : الإسلاميات .
ثالثا : الاجتماعيات .
إن هذا المثلث يعرف طريق واحد وهدف واحد واتجاه واحد ، إن شريعتي هو هذه الأبعاد الثلاثة ولا يمكن فصل أي بعد من هذه الأبعاد الثلاثة وسوف أحاول أن أتحدث في إسلاميات الدكتور .
يقدم الدكتور توضيحات حول نظريات كارل ماركس و ماكس فيبر الاجتماعية ويقول إن سيطرة النظام البرجوازي أدى إلى زوال الثقافة والدين السابقين واللذين لا ينسجمان مع النظام الجديد حيث تخليا عن مكانهما لصالح الثقافة الجديدة والدين الجديد . وبعبارة أخرى فإن الدين الجديد هو البروتستانتية بصفتها النوع الجديد من المسيحية في مقابل الكاثوليكية التي كانت النوع القديم والتاريخي للمسيحية. إن المفكرين المسيحيين الذين عرفوا فيما بعد بالمفكرين البروتستانت قدموا أولا قراءة جديدة من المسيحية وناضلوا ضد الآراء التاريخية للكنيسة وغيروا النظرة الدينية لمجتمعاتهم ليتغير الدين ومن ثم تتغير تبعا لذلك الظروف الاقتصادية ، وهنا تعرف الثقافة بأنها أساس الدين بصفتها البنية التحتية وعلة الاقتصاد فيما نظام الإنتاج يعرف بأنه معلول وعامل فرعي .
وأمام هذين الرأيين لـ ( ماركس و فيبر ) كان الدكتور شريعتي يعتقد بتركيب الرأيين ويقول لا اعتقد بكارل ماركس ولا اعتقد بماكس فيبر وإنما اعتقد بـ (ماركس وفيبر ) .
ومع إن شريعتي كان يعتقد بدور النظرية الاقتصادية في التحولات الاجتماعية إلا انه كان يرتكز بدرجة أكبر على الثقافة ، وكان يعتقد إن الوعي و وعي الجماهير كان له الكلمة الأخيرة في التحولات الاجتماعية . ومن وجهة نظر شريعتي فإن الفقر ليس وحده عنصر أو عامل الثورة ، إذ قد يكون مجتمعا ما فقيرا بصورة كاملة ، ومن الممكن أيضا أن يصل مجتمعا ما إلى أبشع مستويات التناقض الطبقي والاستثمار ، لكن مادام الفقر لم يتبدل أو يتغير إلى إحساس بالفقر ومادامت جماهير هذا المجتمع لم تدرك أو تعي سوء الفقر وعدم إنسانيته ولم يتطور هذا الوعي والإدراك إلى احتجاج على الأوضاع السائدة فإن مجرد وجود الفقر لن يصبح عاملا للثورة في هذا المجتمع
. إن كل مشروع الدكتور شريعتي يتلخص في هاتين الكلمتين ، الوعي و أصل الوعي . لقد أصيب مجتمعنا ومنذ العهد القاجاري بنوع من الازدواجية ، بين مجتمع محافظ على التاريخ القديم وظل متخلفا ولم يشهد التطور في مختلف مجالات الحياة ، وبين التعامل مع عالم جديد كان صاحب علم وتكنيك وصناعة ، وقد أدى ذلك إلى أزمة في أوساط المفكرين الإيرانيين ، أزمة التحديث ، أزمة الطريق المسدود حيث لا تنمية ولا تطور في مختلف المجالات ، وأمام هذا الواقع كان السؤل التالي ، ما العمل وما هو السبيل للخروج من هذا التخلف ؟ ماذا يجب العمل لغرض الخلاص من الفقر والجهل وعدم المساواة والاستبداد والدكتاتورية والاستعمار والتفاوت الطبقي وغياب التنمية ؟
لقد جاءت إجابات كثيرة ومتعددة حول السؤل الذي كان ماذا يجب أن نعمل ؟ إن وجود الشركات الأجنبية في إيران ، ولهذا السبب أيضا دخول ملكم خان على العقود مع الشركات الأجنبية وارتباطه بالرشاوى ، إن الرشاوى في العقود الأجنبية ليس بالأمر الجديد ولا يتعلق بأبناء الذوات في الوقت الحاضر فقط ، فقد كان أبناء الملوك وأبناء الأمراء يأخذون الرشاوى أيضا . وقبل مئة عام كتب منشأ الدولة كتابا عرف النجاة من هذا المأزق بكلمة واحدة فقط هي القانون ، فلو كان لنا في إيران قانون وكان القانون سائدا لجرى حل وتسوية كافة المشاكل ، لكنكم تشاهدون وبعد مئة عام عدم سيادة القانون لحد الآن ، طبعا نحن نأمل أن يسود القانون إن شعار منشأ الدولة وملكم خان كان تطبيق القانون . لقد تم تقديم عدة حلول في هذا المجال ، حتى إن إحدى تلك الحلول كانت الدعوة إلى قيام حكومة استبدادية ، أي بعد الحركة الدستورية ( المشروطة ) ، بعد خمسة عشرة عاما من الثورة داخل المجتمع الإيراني وفي دورة من الهرج والمرج والفوضى وانعدام الأمن وانتشار السرقة في البلاد ..... يصل عدد من النخبة والمفكرين وحتى الروحانيين إلى هذه النتيجة وهي إن طريق خلاص إيران في ظهور حكومة دكتاتورية ، أن تأتي حكومة دكتاتورية تقضي بالقوة على كافة السلطات والقوى المحلية والفوضى وتفرض حكومة مركزية وتبسط الأمن والنظام ، ولم يقتصر القبول بهذا الرأي على قسم من المفكرين والروحانيين وإنما تعدى ذلك إلى عموم الجماهير التي رحبت به . لا تتصوروا إن الدكتاتورية جاءت أو استمرت بالقوة والحراب فقط ، ففي الكثير من الفترات ارتكزت القوة على جدار الجهل ، وفي الكثير من الفترات كان الاستبداد والتعسف شجرة نمت في تربة البلاهة والجهل وكان ذلك الفلسفة الأصلية لبقاء الديكتاتورية والاستبداد . لذلك وببساطة جدا قبل المجتمع الإيراني وبعد خمسة عشر عاما من الحركة الدستورية دكتاتورية رضا خان ومن ثم استبداد رضا شاه .
وفي الفترات اللاحقة طرحت إجابات أخرى ، ففي عقد الأربعينات وعقد الخمسينات ( حسب التقويم الهجري الشمسي الإيراني ) حيث كان يعيش شريعتي ، كان الكفاح المسلح هو الطرح السائد ، أي إسقاط نظام الشاه وإنقاذ إيران بواسطة الكفاح المسلح وهو الحل الذي كانت تتبناه مجموعات المقاومة والكفاح المسلح ، وهذا الخيار لم يفشل فقط في إسقاط النظام وإنما فشل أيضا في الحصول على تأييد الجماهير . إن طريقة العمل المسلح لم تعطي النتيجة المرجوة في التغيير . لقد أكدت التجربة إن أيا من هذه الطرق لم تستطع أن ترفع العقبات الأساسية عن طريق التنمية في إيران . غير أن الدكتور شريعتي كان واحدا من المعدودين الذين لم يقدموا جوابا حول سؤل ماذا يجب أن نعمل في سياق الإجابات السابقة ، إن الدكتور شريعتي لم يكن من أفراد المقاومة المسلحة ولم يؤمن بالنضال المسلح ويدعو إلى تشكيل خلايا العمل المسلح ضد النظام ، ولم يكن مناضلا سياسيا محترفا بحيث يريد جر الجماهير إلى الشارع عن طريق البيان والقلم ويحركهم في إطار إثارة عاطفية في عملية نضالية ضد النظام . لقد كان يؤمن بمشروع ثقافي ، كان يعتقد إن مشكلتنا الأساسية في إيران هي ألبنية التحية ، وإن الثقافة والفكر هي علت العلل لكافة المسائل ، وما دامت ثقافة وفكر وطريقة تفكير المجتمع لم تتغير فسوف تأتي الأنظمة وتذهب دون أن تحل مشكلة من المشاكل .
لقد وجد الدكتور شريعتي وجميع المثقفين إن من واجبهم الدفع بهذا المشروع إلى الأمام . إن الدين يشكل في المجتمع الإيراني أساس النواة الثقافية ، لقد كان المجتمع الإيراني والثقافة الإيرانية في كافة المراحل التاريخية عبارة عن ثقافة دينية سواء قبل الإسلام أو بعده ، قبل الدولة الصفوية إذ لم تكن الأكثرية الإيرانية شيعية أو بعد ذلك . ومن هنا كان الدكتور شريعتي قد وصل إلى مشروع البروتستانتية الإسلامية . لقد وصل إلى هذه النتيجة على ضوء ما لديه من تحليل عن المجتمع الإيراني وما لديه من معرفة عن التجربة البروتستانتية المسيحية . لكن ماذا كانت البروتستانتية المسيحية ؟
كانت عبارة عن ثورة فكرية دينية وقعت في أوربا في القرنيين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين . إن الكنيسة على أساس الطريقة الروحانية التاريخية المسيحية واجهت احتجاجا من المفكرين الذين كان الكثير منهم من الروحانيين ومن القساوسة مثل غالوند بسبب سياسات القهر والقسر الذي مارسته الكنيسة على الجماهير المسيحية في إطار الهيكلية البابوية والروحانية للكنيسة . فمنذ القرن الرابع تحول البابوات وبالاستناد إلى الروايات والنصوص الدينية والمجالس الكنسية إلى نواب عن المسيحية وتحولت الكنيسة إلى طريق واحد للنجاة والخلاص وقالوا لا يوجد طريق خلاص آخر خارج الكنيسة التي يقف على رأسها البابا ، ولن يدخل الجنة من كان خارج الكنيسة وإنما سيدخل النار . لقد كان البابا في هذه الكنيسة بصفته نائبا عن المسيح ، أما الأساقفة والكرادلة فقد جعلوا لأنفسهم نيابة عن الله والمسيح بحيث قاموا بتقسيم الجنة وقد استحكمت ظاهرة الإقرار والاعتراف بالذنوب ، كما كان على الذين يرغبوا في التعلم أن يذهبوا إلى الروحاني وأن يعترفوا أمامه بذنوبهم ويقدموا الصدقات والنذورات والأموال لغرض الحصول على دعائه ليطلب من الله غفران ذنوب هذا المؤمن ، كذلك كان لا يمكن فهم الكتاب المقدس الذي هو التوراة والإنجيل بصورة مباشرة من قبل أي مؤمن مسيحي ، وإن المسيحيين كانوا بحاجة للروحاني لغرض فهم الكتاب المقدس ، كذلك فإن الروحانيين الذين كانوا الواسطة بين الله والناس هم أيضا الواسطة بين المسيحيين والمسيح ، إذ من غير الممكن الارتباط مع الله أو مع المسيح أو مع الكتاب المقدس إلا بواسطة الروحاني ، وكأن هذا الكتاب المقدس وحسب قول القرآن الكريم (لا يمسه إلا المطهرون ) وإن هؤلاء المطهرون هم الروحانيون فقط . لقد جرى تقسيم الناس إلى صنفين هما الروحاني و الجسماني ، الروحاني المطهر والطاهر والجسماني النجس ، وإن هذا الصنف النجس غير الطاهر إذا أراد أن يتطهر عليه أن يلمس ويقبل يد الروحاني ، لقد كان هذا النظام الوساطتي أحد السنن التي استحكمت في الكنيسة . من جهة أخرى فإن هذه الروحانية وبصفتها مقتدية بالسيد المسيح كانت قد منعت الزواج في صفوف الروحانيين ، لم يكن للروحانيين من الرهبان والراهبات حق الزواج ، إن قانون الكنيسة قد أجبرهم على عدم الزواج مدى الحياة ، غير أن الفساد الجنسي كان كبيرا بحيث أن إحصائيات الكنيسة قدرة الشذوذ الجنسي في صفوفهم بأكبر من مستوياته داخل المجتمع . أما نظرة الدين التقليدي فقد كانت نظرة احتقار إلى العمل والحياة وجرى الفصل بين الدين والدنيا ، بين عالم الملك وعالم الملكوت وبين المدينة الدنيوية والمدينة السماوية . إن نظرة المسيحية التقليدية كانت نظرة الهروب من الحياة ، كانت ضد الدنيا ، ضد العمل ومخالفة للحياة الإنسانية ، كما كانت تحتقر العقل والجسم وكل ما كان في تعارض مع ..... كانت تقول إن المقدس أطهر من العقل والعلم ، ويجب عليك تصديق ما يقوله البابا وإن كان متناقضا أو متعارضا مع عقلك . لقد كتب على باب بيت الإيمان (عليك أن تترك عقلك جانبا ومن ثم تدخل بيت الإيمان) ، فيما كان قد كتب على أكاديمية أرسطو (لا يدخلها من لا يعرف الهندسة ) ، كما كتب على باب أكاديمية إفلاطون ( لا يدخلها من لا يعرف المنطق) . كتب على باب الدين الكاثوليكي التقليدي (لا يدخلها من له عقل ، هذا ليس مكان العقلاء ، هذا مكان المؤمنين ، مكان العشاق ، مكان المجانين ، إذا أردت أن تدخل بيت الإيمان عليك أولا أن تعطي عقلك إجازة ومن ثم تدخل البيت ) ، إن بعض الروايات المنسوخة وربما المجعولة في الإسلام أيضا تقول ( إن أكثر أهل الجنة من البلهاء ) أي إذا أردت أن تكون من أهل الجنة عليك أن تكون أبلها ، فالعاقل لا يستطيع أن يدخل الجنة ، إن بعض عرفائنا يفسرون أهل الجنة بما وراء العقل ( هنا تحتج إحدى الأخوات من الحضور وتسأل السيد آقا جاري ، هل انك تتحدث عن الإسلام أم عن المسيحية ) فيقول السيد آقا جاري إن هذه المسائل موجودة في الإسلام وفي المسيحية ، توجد في الاثنين .
تقول الثورة البروتستانتية يجب علينا تحرير المسيحية من يد الروحانية الكنسية التقليدية ويجب إنقاذ الدين من يد البابا ، إن رسالة القس الذاتي ، رسالة غالوند تقول إننا لا نحتاج إلى واسطة للارتباط بالله ولا نحتاج إلى واسطة لفهم الكتاب المقدس ، إن كتاب الله المقدس يخاطب النبي ويخاطبنا جميعا بصورة مباشرة ، المسيح كان يتحدث فيسمع ويفهم حديثه المؤمنون والرهبان ، إن الإنسانية جميعا والمسيحيين والمؤمنين كانوا هدفا مباشرا لخطاب المسيح والكتاب المقدس ولا توجد حاجة للذهاب إلى طبقة روحانية وأسقف لفهم الكتاب المقدس ، إن كل شخص هو قس نفسه ، لم يكن المسيح غير مهتما بالدنيا ، وبالنسبة للعمل والكدح ونشاط الإنسان فإن العمل عبادة ، ولهذا السبب فإن البروتستانت كانوا الأساس في إيجاد الثورة الصناعية والتحولات التقنية الجديدة ، أي على العكس من الكاثوليك الذين كانوا يعتقدون بأن الخبز والطبيعة والأرض من الشؤون المادية التي لا قيمة لها وهي غريبة عن روح التدين والصفاء وعبادة الله . أما أولئك فكانوا يعتقدون بأن العمل جزءا من رأس المال والإنتاج وإن هذا بالضبط ما أراده الله منا ونقوم بأدائه بصفته عبادة ، هذه هي البروتستانتية والتي كانت هي طبعا معلولا لرأي آخر . قبل بداية البروتستانتية في أوربا كانت قد بدأت ثورة أخرى ، كانت ثورة تقول بقيمة الإنسان خارج الكنيسة ، كانت الكنيسة تذبح الإيمان باسم الله ، باسم الله والمسيح كانت تذبح الإنسان ، طبعا إن هذه السنة قديمة جدا في عمق التاريخ ، إن عبادة الأصنام تعني ذبح الإنسان باسم الأصنام ، باسم الإله يصبح الإله صنما يطلب ذبح الإنسان ، إن إله إبراهيم لا يطلب ذبح الإنسان ، عندما رأى إبراهيم في المنام إن الله يأمره أن يذبح إسماعيل ، يستيقظ ليذبح إسماعيل ، إن ذبح الإنسان قربانا كان سنة في مجتمع إبراهيم ، سنة تقديم الأبناء قرابين كانت سنة رائجة ، إلا أن الله يأمره أن لا يذبح إسماعيل ، أن يفديه بكبش . لكن ومع الأسف كان الإنسان وفي مختلف الأدوار التاريخية قربانا للأصنام تحت عنوان قربانا للإله قدموه قربانا للأصنام ، وطبعا فإن هذا الصنم في الفترات التاريخية المختلفة كان جسدا من الفضة أو الخشب وفي بعض الأحيان قد تجد الصنم جسد إنسان
إن قصة الضحاك في الأساطير الإيرانية تشير إلى هذه الحقيقة ، الضحاك صنم ،يأكل مخ الشباب ، إن الأفاعي على كتفيه بحاجة إلى مخ الشباب وإن الضحاك يذبح يوميا اثنين من الشباب ليقدم مخيهما طعاما لهذه الأفاعي من أجل أن يواصل حياته .
إن فترة الكنيسة كانت كذلك ، ذبح الإنسان ، تحقير الإنسان ، يقولون ليس للإنسان قيمة ، الإنسان في الأصل غير طاهر ، الإنسان مذنب ذاتا ، يأتي الإنسان إلى الدنيا مذنبا ذاتا ، والوقت الوحيد الذي يتنزه فيه الإنسان عن الذنوب والمعاصي ويتطهر ويذهب إلى الجنة هو عندما يلمس يد البابا ونائب المسيح وعندما تمسح هذه اليد على رأسه ويصبح واسطة له مع الله .
إن الدكتور شريعتي كان قد قرأ هذه التجربة بدقة عندما كان يتأمل في مجتمعه . إذا أردنا إحداث تحول في المجتمع يجب أن نعرف المجتمع بصورة جيدة ونلاحظ ما هو العامل الذي يقود المجتمع إلى الانحطاط إذا كان المجتمع منحطا ، ويقوده إلى الرقي إذا كان المجتمع مترقيا . إن مجتمعنا كان في حالة انحطاط ويقع هذا الانحطاط في مركز الدين ، دين منحط ، وإذا لم يتغير هذا الدين المنحط ولم يجري إصلاحه فليس هناك أمل في أي أصلاح . ولهذا السبب فإن الدكتور شريعتي لخص رسالته وبرنامجه في مشروع واحد أي مشروع البروتستانتية الإسلامية . وبصورة دقيقة فإن هذا المشروع وفي كافة خصوصياته لم يكن واحدا أو متشابها مع البروتستانتية المسيحية . لقد كانت له خصوصياته ولكنه كان اعتراضا واحتجاجا على الدين الرسمي ، وقد انصب جهد شريعتي أولا على نقد دين الانحطاط هذا ، وثانيا تجديد عناصر الدين الحقيقي الموجودة ، أي تهديم بناء الدين التقليدي ونقده ورفضه لغرض تجديد بناء الدين ، الدين الذي رسالته رقي الإنسان وتقدمه والإصلاح ونظرة جديدة إلى العصر الحاضر .
إن كافة التعليمات الدينية التي يقدمها جهاز الدين الرسمي القديم هي تعليمات علاها الغبار أو أنها مظلمة قديمة ، وكان مشروع شريعتي احتجاج واعتراض على هذا الإسلام وهذا الدين . إن أحد الأعمال التي قام بها شريعتي كانت الفصل بين الإسلام الذاتي والإسلام التاريخي وقال إن الكثير من الأمور التي تطرحها المؤسسة الدينية الرسمية القديمة المتولية للدين الرسمي باسم الإسلام هي ليست إسلام ذاتي وإنما إسلام تاريخي .
الإسلام التاريخي هو حصيلة تفكير وتجارب الروحانيين والعلماء و .... على مدى العصور والقرون الماضية وقد جمع بعضه على بعض وأصبح مقدسا لارتباطه بالماضي وتلبسه رداء الدين . وفي الحقيقة فإن هذه العناصر تبدو عجيبة في بعض الأحيان ، إن هذه العناصر التي ترتبط بالعرف والتقاليد كانت معتبرة خاصة وإنها ترتدي لباس الدين والقداسة ، وعندما نلاحظ تاريخ المئة سنة الماضية فسنجد مثلا أن دخول الصحة العامة والرعاية الصحية إلى مجتمعاتنا جعل من أحواض المياه القديمة وسيلة غير صحية ، غير أن حفيظة بعض المؤمنين ثارت بسب ذلك محتجين على هذا التحول لأن هذه الأحواض فقط هي التي يعتبر الغسل فيها دينيا وشرعيا فيما الغسل تحت ( الدوش ) وصنابير المياه فيه شبه ! وكمثال آخر فإن رسالة من أحد هؤلاء السادة الروحانيين التي حررها مع أيام الحركة الدستورية حرمت تعلم العلوم الجديدة كعلم الكيمياء والفيزياء ، فعلم الكيمياء يعني نفي وجود الله تعالى ( إن رأي روحانيي الكنيسة يعارض العلوم الحديثة ) ، غير أن السادة في الوقت الحاضر ليسوا من غير المعارضين لهذه العلوم فقط وإنما إذا كانت مركبتي الشخصية من نوع ( بيكان ) فإنهم الآن يركبون أحدث أنواع المركبات ( تصفيق الحضور ) ، هذا صحيح الآن ، قبلوه ، لأنهم في النهاية استفادوا منه ، وذاقوا طعم حلاوته ( ضحكات ساخرة من أكثر الحضور ) . إن الكثير من هذه الظواهر الحديثة كانت تعتبر حرام وخلاف الشرع باسم الإسلام ، وحتى الفترات الأخيرة كان تعلم اللغة الإنكليزية يعتبر مخالفا للشرع في حوزاتنا العلمية . إن هذه الروحانية لم تأتي من السماء ، إنها من هذا المجتمع ، إنها ذهنية القرون الوسطى ، وقد أدرك الدكتور شريعتي ضرورة أن تتغير هذه الذهنية وضرورة أن يتغير المتولين للدين ، إذ أن عامة الناس أفكارهم من أفواه هؤلاء المتولين . هكذا كان يفكر شريعتي ، إن إسلام التشيع الذي هو دين رقي وتقدم يتحول من عامل تقدم وتكامل إلى عامل انحطاط عندما يقع في وسط منحط . كان الدكتور شريعتي يريد النضال ضد هذه الظاهرة ، كان يريد فصل الإسلام الذاتي عن الإسلام التاريخي . إن الإسلام التاريخي هو حصيلة استنباطات وفهم وأعراف وتقاليد الأجيال السابقة ، إن لكل جيل تجربته ويجب عدم تقديس ذلك وتحويله إلى نصوص وخطوط لا تتغير إلى الأبد ، ولكم أن تلاحظوا إن مراسيم بسيطة ساذجة تحولت في بعض الأحيان إلى عناصر أساسية في الدين وعلامات دالة على الإنسان المسلم الأصيل ، فعلى سبيل المثال لدينا روايات تقول بالتختم باليسار ، وفي الإصبع الأوسط من اليد اليسرى وقد تحولت هذه الرواية إلى أصل ثابت اليوم ، ولو سألت السيد لقال لك ضع الخاتم العقيق في إصبعك فهذه علامة المسلم ، ولو لاحظت آثار العلامة المجلسي فستجد أن كتاب حلية المتقين مفيد ونافع للمسلمين قبل 1400 عاما ، تصور لو أن أحد المسلمين يريد أن يظهر اليوم بذلك الشكل وعلى تلك الصورة ، إن هذه تقاليد ، وتقاليد كل مجتمع تناسب ذلك المجتمع ، آداب الأكل لديه وآداب المعاشرة عنده ، كلها تقاليد لا علاقة لها بالإسلام .
البروتستانتية الإسلامية
نحيي الذكرى السنوية الخامسة والعشرين لاستشهاد الأخ والصديق الدكتور علي شريعتي والذي كان كالشمعة التي أضاءت عالما باحتراقها ، وما عساني أن أقول في النور المضيء لهذه الشمعة والذي يغمر وجودكم أيها الأعزاء ، إنها شمعة ليست ميتة وإنما ستعطي نورها للجيل القادم والأجيال اللاحقة على الرغم من اللامروءة واللارحمة التي بدأت في الأيام والسنوات القصيرة من عمره ولا تزال مستمرة حتى أيامنا هذه ، حيث نلاحظ اليوم اهتمام الجيل الحاضر وعودته مرة ثانية إلى شريعتي ، ويلاحظ الجميع التوجه إلى كتابات شريعتي وآثاره .
لقد حاول البعض أن يلطخ الشمس بالطين في عدة أيام ، ولم يتمكنوا أن يطفئوا شمس شريعتي بمختلف الاتهامات ، وعلى العكس من ذلك ازداد الإقبال على شريعتي يوما بعد آخر وأصبح أكثر جديه . قبل خمسة وعشرون عاما وبعد خروجه من السجن الصغير إلى السجن الكبير الذي اسمه إيران لم يستطع البقاء ، ولم يكن أمامه سوى الهجرة لغرض مواصلة الطريق . في ذلك الوقت لم تكن الثورة قد وقعت في إيران ، ولم يفكر أو يتوقع إلا القليل بأن تحولا عظيما سيقع في إيران ، وهو التحول الذي كان شريعتي واحدا من زراعه ومهندسيه الكبار . لقد نبتت البذور التي نثرها شريعتي وأثمرت بسرعة ، ولأن التربة التي زرعها هذا الزارع بالزهور كانت مع الأسف من صنف غير واحدة فقد ظهرت الأشواك بعد بضعة أيام وفي زوايا متفرقة من هذه الحديقة لتضيق على زهور هذه الحديقة ، أما الآن فإننا نلاحظ مرة ثانية نسيم جديد يهب على هذه الزهور لتتنفس بحرية من جديد .
إن موضوع حديثي اليوم هو البروتستانتية الإسلامية والدكتور شريعتي . إن الدكتور شريعتي كان قد قسم كتاباته إلى ثلاثة أقسام هي ما يلي : -
أولا : الصحراويات .
ثانيا : الإسلاميات .
ثالثا : الاجتماعيات .
إن هذا المثلث يعرف طريق واحد وهدف واحد واتجاه واحد ، إن شريعتي هو هذه الأبعاد الثلاثة ولا يمكن فصل أي بعد من هذه الأبعاد الثلاثة وسوف أحاول أن أتحدث في إسلاميات الدكتور .
يقدم الدكتور توضيحات حول نظريات كارل ماركس و ماكس فيبر الاجتماعية ويقول إن سيطرة النظام البرجوازي أدى إلى زوال الثقافة والدين السابقين واللذين لا ينسجمان مع النظام الجديد حيث تخليا عن مكانهما لصالح الثقافة الجديدة والدين الجديد . وبعبارة أخرى فإن الدين الجديد هو البروتستانتية بصفتها النوع الجديد من المسيحية في مقابل الكاثوليكية التي كانت النوع القديم والتاريخي للمسيحية. إن المفكرين المسيحيين الذين عرفوا فيما بعد بالمفكرين البروتستانت قدموا أولا قراءة جديدة من المسيحية وناضلوا ضد الآراء التاريخية للكنيسة وغيروا النظرة الدينية لمجتمعاتهم ليتغير الدين ومن ثم تتغير تبعا لذلك الظروف الاقتصادية ، وهنا تعرف الثقافة بأنها أساس الدين بصفتها البنية التحتية وعلة الاقتصاد فيما نظام الإنتاج يعرف بأنه معلول وعامل فرعي .
وأمام هذين الرأيين لـ ( ماركس و فيبر ) كان الدكتور شريعتي يعتقد بتركيب الرأيين ويقول لا اعتقد بكارل ماركس ولا اعتقد بماكس فيبر وإنما اعتقد بـ (ماركس وفيبر ) .
ومع إن شريعتي كان يعتقد بدور النظرية الاقتصادية في التحولات الاجتماعية إلا انه كان يرتكز بدرجة أكبر على الثقافة ، وكان يعتقد إن الوعي و وعي الجماهير كان له الكلمة الأخيرة في التحولات الاجتماعية . ومن وجهة نظر شريعتي فإن الفقر ليس وحده عنصر أو عامل الثورة ، إذ قد يكون مجتمعا ما فقيرا بصورة كاملة ، ومن الممكن أيضا أن يصل مجتمعا ما إلى أبشع مستويات التناقض الطبقي والاستثمار ، لكن مادام الفقر لم يتبدل أو يتغير إلى إحساس بالفقر ومادامت جماهير هذا المجتمع لم تدرك أو تعي سوء الفقر وعدم إنسانيته ولم يتطور هذا الوعي والإدراك إلى احتجاج على الأوضاع السائدة فإن مجرد وجود الفقر لن يصبح عاملا للثورة في هذا المجتمع
. إن كل مشروع الدكتور شريعتي يتلخص في هاتين الكلمتين ، الوعي و أصل الوعي . لقد أصيب مجتمعنا ومنذ العهد القاجاري بنوع من الازدواجية ، بين مجتمع محافظ على التاريخ القديم وظل متخلفا ولم يشهد التطور في مختلف مجالات الحياة ، وبين التعامل مع عالم جديد كان صاحب علم وتكنيك وصناعة ، وقد أدى ذلك إلى أزمة في أوساط المفكرين الإيرانيين ، أزمة التحديث ، أزمة الطريق المسدود حيث لا تنمية ولا تطور في مختلف المجالات ، وأمام هذا الواقع كان السؤل التالي ، ما العمل وما هو السبيل للخروج من هذا التخلف ؟ ماذا يجب العمل لغرض الخلاص من الفقر والجهل وعدم المساواة والاستبداد والدكتاتورية والاستعمار والتفاوت الطبقي وغياب التنمية ؟
لقد جاءت إجابات كثيرة ومتعددة حول السؤل الذي كان ماذا يجب أن نعمل ؟ إن وجود الشركات الأجنبية في إيران ، ولهذا السبب أيضا دخول ملكم خان على العقود مع الشركات الأجنبية وارتباطه بالرشاوى ، إن الرشاوى في العقود الأجنبية ليس بالأمر الجديد ولا يتعلق بأبناء الذوات في الوقت الحاضر فقط ، فقد كان أبناء الملوك وأبناء الأمراء يأخذون الرشاوى أيضا . وقبل مئة عام كتب منشأ الدولة كتابا عرف النجاة من هذا المأزق بكلمة واحدة فقط هي القانون ، فلو كان لنا في إيران قانون وكان القانون سائدا لجرى حل وتسوية كافة المشاكل ، لكنكم تشاهدون وبعد مئة عام عدم سيادة القانون لحد الآن ، طبعا نحن نأمل أن يسود القانون إن شعار منشأ الدولة وملكم خان كان تطبيق القانون . لقد تم تقديم عدة حلول في هذا المجال ، حتى إن إحدى تلك الحلول كانت الدعوة إلى قيام حكومة استبدادية ، أي بعد الحركة الدستورية ( المشروطة ) ، بعد خمسة عشرة عاما من الثورة داخل المجتمع الإيراني وفي دورة من الهرج والمرج والفوضى وانعدام الأمن وانتشار السرقة في البلاد ..... يصل عدد من النخبة والمفكرين وحتى الروحانيين إلى هذه النتيجة وهي إن طريق خلاص إيران في ظهور حكومة دكتاتورية ، أن تأتي حكومة دكتاتورية تقضي بالقوة على كافة السلطات والقوى المحلية والفوضى وتفرض حكومة مركزية وتبسط الأمن والنظام ، ولم يقتصر القبول بهذا الرأي على قسم من المفكرين والروحانيين وإنما تعدى ذلك إلى عموم الجماهير التي رحبت به . لا تتصوروا إن الدكتاتورية جاءت أو استمرت بالقوة والحراب فقط ، ففي الكثير من الفترات ارتكزت القوة على جدار الجهل ، وفي الكثير من الفترات كان الاستبداد والتعسف شجرة نمت في تربة البلاهة والجهل وكان ذلك الفلسفة الأصلية لبقاء الديكتاتورية والاستبداد . لذلك وببساطة جدا قبل المجتمع الإيراني وبعد خمسة عشر عاما من الحركة الدستورية دكتاتورية رضا خان ومن ثم استبداد رضا شاه .
وفي الفترات اللاحقة طرحت إجابات أخرى ، ففي عقد الأربعينات وعقد الخمسينات ( حسب التقويم الهجري الشمسي الإيراني ) حيث كان يعيش شريعتي ، كان الكفاح المسلح هو الطرح السائد ، أي إسقاط نظام الشاه وإنقاذ إيران بواسطة الكفاح المسلح وهو الحل الذي كانت تتبناه مجموعات المقاومة والكفاح المسلح ، وهذا الخيار لم يفشل فقط في إسقاط النظام وإنما فشل أيضا في الحصول على تأييد الجماهير . إن طريقة العمل المسلح لم تعطي النتيجة المرجوة في التغيير . لقد أكدت التجربة إن أيا من هذه الطرق لم تستطع أن ترفع العقبات الأساسية عن طريق التنمية في إيران . غير أن الدكتور شريعتي كان واحدا من المعدودين الذين لم يقدموا جوابا حول سؤل ماذا يجب أن نعمل في سياق الإجابات السابقة ، إن الدكتور شريعتي لم يكن من أفراد المقاومة المسلحة ولم يؤمن بالنضال المسلح ويدعو إلى تشكيل خلايا العمل المسلح ضد النظام ، ولم يكن مناضلا سياسيا محترفا بحيث يريد جر الجماهير إلى الشارع عن طريق البيان والقلم ويحركهم في إطار إثارة عاطفية في عملية نضالية ضد النظام . لقد كان يؤمن بمشروع ثقافي ، كان يعتقد إن مشكلتنا الأساسية في إيران هي ألبنية التحية ، وإن الثقافة والفكر هي علت العلل لكافة المسائل ، وما دامت ثقافة وفكر وطريقة تفكير المجتمع لم تتغير فسوف تأتي الأنظمة وتذهب دون أن تحل مشكلة من المشاكل .
لقد وجد الدكتور شريعتي وجميع المثقفين إن من واجبهم الدفع بهذا المشروع إلى الأمام . إن الدين يشكل في المجتمع الإيراني أساس النواة الثقافية ، لقد كان المجتمع الإيراني والثقافة الإيرانية في كافة المراحل التاريخية عبارة عن ثقافة دينية سواء قبل الإسلام أو بعده ، قبل الدولة الصفوية إذ لم تكن الأكثرية الإيرانية شيعية أو بعد ذلك . ومن هنا كان الدكتور شريعتي قد وصل إلى مشروع البروتستانتية الإسلامية . لقد وصل إلى هذه النتيجة على ضوء ما لديه من تحليل عن المجتمع الإيراني وما لديه من معرفة عن التجربة البروتستانتية المسيحية . لكن ماذا كانت البروتستانتية المسيحية ؟
كانت عبارة عن ثورة فكرية دينية وقعت في أوربا في القرنيين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين . إن الكنيسة على أساس الطريقة الروحانية التاريخية المسيحية واجهت احتجاجا من المفكرين الذين كان الكثير منهم من الروحانيين ومن القساوسة مثل غالوند بسبب سياسات القهر والقسر الذي مارسته الكنيسة على الجماهير المسيحية في إطار الهيكلية البابوية والروحانية للكنيسة . فمنذ القرن الرابع تحول البابوات وبالاستناد إلى الروايات والنصوص الدينية والمجالس الكنسية إلى نواب عن المسيحية وتحولت الكنيسة إلى طريق واحد للنجاة والخلاص وقالوا لا يوجد طريق خلاص آخر خارج الكنيسة التي يقف على رأسها البابا ، ولن يدخل الجنة من كان خارج الكنيسة وإنما سيدخل النار . لقد كان البابا في هذه الكنيسة بصفته نائبا عن المسيح ، أما الأساقفة والكرادلة فقد جعلوا لأنفسهم نيابة عن الله والمسيح بحيث قاموا بتقسيم الجنة وقد استحكمت ظاهرة الإقرار والاعتراف بالذنوب ، كما كان على الذين يرغبوا في التعلم أن يذهبوا إلى الروحاني وأن يعترفوا أمامه بذنوبهم ويقدموا الصدقات والنذورات والأموال لغرض الحصول على دعائه ليطلب من الله غفران ذنوب هذا المؤمن ، كذلك كان لا يمكن فهم الكتاب المقدس الذي هو التوراة والإنجيل بصورة مباشرة من قبل أي مؤمن مسيحي ، وإن المسيحيين كانوا بحاجة للروحاني لغرض فهم الكتاب المقدس ، كذلك فإن الروحانيين الذين كانوا الواسطة بين الله والناس هم أيضا الواسطة بين المسيحيين والمسيح ، إذ من غير الممكن الارتباط مع الله أو مع المسيح أو مع الكتاب المقدس إلا بواسطة الروحاني ، وكأن هذا الكتاب المقدس وحسب قول القرآن الكريم (لا يمسه إلا المطهرون ) وإن هؤلاء المطهرون هم الروحانيون فقط . لقد جرى تقسيم الناس إلى صنفين هما الروحاني و الجسماني ، الروحاني المطهر والطاهر والجسماني النجس ، وإن هذا الصنف النجس غير الطاهر إذا أراد أن يتطهر عليه أن يلمس ويقبل يد الروحاني ، لقد كان هذا النظام الوساطتي أحد السنن التي استحكمت في الكنيسة . من جهة أخرى فإن هذه الروحانية وبصفتها مقتدية بالسيد المسيح كانت قد منعت الزواج في صفوف الروحانيين ، لم يكن للروحانيين من الرهبان والراهبات حق الزواج ، إن قانون الكنيسة قد أجبرهم على عدم الزواج مدى الحياة ، غير أن الفساد الجنسي كان كبيرا بحيث أن إحصائيات الكنيسة قدرة الشذوذ الجنسي في صفوفهم بأكبر من مستوياته داخل المجتمع . أما نظرة الدين التقليدي فقد كانت نظرة احتقار إلى العمل والحياة وجرى الفصل بين الدين والدنيا ، بين عالم الملك وعالم الملكوت وبين المدينة الدنيوية والمدينة السماوية . إن نظرة المسيحية التقليدية كانت نظرة الهروب من الحياة ، كانت ضد الدنيا ، ضد العمل ومخالفة للحياة الإنسانية ، كما كانت تحتقر العقل والجسم وكل ما كان في تعارض مع ..... كانت تقول إن المقدس أطهر من العقل والعلم ، ويجب عليك تصديق ما يقوله البابا وإن كان متناقضا أو متعارضا مع عقلك . لقد كتب على باب بيت الإيمان (عليك أن تترك عقلك جانبا ومن ثم تدخل بيت الإيمان) ، فيما كان قد كتب على أكاديمية أرسطو (لا يدخلها من لا يعرف الهندسة ) ، كما كتب على باب أكاديمية إفلاطون ( لا يدخلها من لا يعرف المنطق) . كتب على باب الدين الكاثوليكي التقليدي (لا يدخلها من له عقل ، هذا ليس مكان العقلاء ، هذا مكان المؤمنين ، مكان العشاق ، مكان المجانين ، إذا أردت أن تدخل بيت الإيمان عليك أولا أن تعطي عقلك إجازة ومن ثم تدخل البيت ) ، إن بعض الروايات المنسوخة وربما المجعولة في الإسلام أيضا تقول ( إن أكثر أهل الجنة من البلهاء ) أي إذا أردت أن تكون من أهل الجنة عليك أن تكون أبلها ، فالعاقل لا يستطيع أن يدخل الجنة ، إن بعض عرفائنا يفسرون أهل الجنة بما وراء العقل ( هنا تحتج إحدى الأخوات من الحضور وتسأل السيد آقا جاري ، هل انك تتحدث عن الإسلام أم عن المسيحية ) فيقول السيد آقا جاري إن هذه المسائل موجودة في الإسلام وفي المسيحية ، توجد في الاثنين .
تقول الثورة البروتستانتية يجب علينا تحرير المسيحية من يد الروحانية الكنسية التقليدية ويجب إنقاذ الدين من يد البابا ، إن رسالة القس الذاتي ، رسالة غالوند تقول إننا لا نحتاج إلى واسطة للارتباط بالله ولا نحتاج إلى واسطة لفهم الكتاب المقدس ، إن كتاب الله المقدس يخاطب النبي ويخاطبنا جميعا بصورة مباشرة ، المسيح كان يتحدث فيسمع ويفهم حديثه المؤمنون والرهبان ، إن الإنسانية جميعا والمسيحيين والمؤمنين كانوا هدفا مباشرا لخطاب المسيح والكتاب المقدس ولا توجد حاجة للذهاب إلى طبقة روحانية وأسقف لفهم الكتاب المقدس ، إن كل شخص هو قس نفسه ، لم يكن المسيح غير مهتما بالدنيا ، وبالنسبة للعمل والكدح ونشاط الإنسان فإن العمل عبادة ، ولهذا السبب فإن البروتستانت كانوا الأساس في إيجاد الثورة الصناعية والتحولات التقنية الجديدة ، أي على العكس من الكاثوليك الذين كانوا يعتقدون بأن الخبز والطبيعة والأرض من الشؤون المادية التي لا قيمة لها وهي غريبة عن روح التدين والصفاء وعبادة الله . أما أولئك فكانوا يعتقدون بأن العمل جزءا من رأس المال والإنتاج وإن هذا بالضبط ما أراده الله منا ونقوم بأدائه بصفته عبادة ، هذه هي البروتستانتية والتي كانت هي طبعا معلولا لرأي آخر . قبل بداية البروتستانتية في أوربا كانت قد بدأت ثورة أخرى ، كانت ثورة تقول بقيمة الإنسان خارج الكنيسة ، كانت الكنيسة تذبح الإيمان باسم الله ، باسم الله والمسيح كانت تذبح الإنسان ، طبعا إن هذه السنة قديمة جدا في عمق التاريخ ، إن عبادة الأصنام تعني ذبح الإنسان باسم الأصنام ، باسم الإله يصبح الإله صنما يطلب ذبح الإنسان ، إن إله إبراهيم لا يطلب ذبح الإنسان ، عندما رأى إبراهيم في المنام إن الله يأمره أن يذبح إسماعيل ، يستيقظ ليذبح إسماعيل ، إن ذبح الإنسان قربانا كان سنة في مجتمع إبراهيم ، سنة تقديم الأبناء قرابين كانت سنة رائجة ، إلا أن الله يأمره أن لا يذبح إسماعيل ، أن يفديه بكبش . لكن ومع الأسف كان الإنسان وفي مختلف الأدوار التاريخية قربانا للأصنام تحت عنوان قربانا للإله قدموه قربانا للأصنام ، وطبعا فإن هذا الصنم في الفترات التاريخية المختلفة كان جسدا من الفضة أو الخشب وفي بعض الأحيان قد تجد الصنم جسد إنسان
إن قصة الضحاك في الأساطير الإيرانية تشير إلى هذه الحقيقة ، الضحاك صنم ،يأكل مخ الشباب ، إن الأفاعي على كتفيه بحاجة إلى مخ الشباب وإن الضحاك يذبح يوميا اثنين من الشباب ليقدم مخيهما طعاما لهذه الأفاعي من أجل أن يواصل حياته .
إن فترة الكنيسة كانت كذلك ، ذبح الإنسان ، تحقير الإنسان ، يقولون ليس للإنسان قيمة ، الإنسان في الأصل غير طاهر ، الإنسان مذنب ذاتا ، يأتي الإنسان إلى الدنيا مذنبا ذاتا ، والوقت الوحيد الذي يتنزه فيه الإنسان عن الذنوب والمعاصي ويتطهر ويذهب إلى الجنة هو عندما يلمس يد البابا ونائب المسيح وعندما تمسح هذه اليد على رأسه ويصبح واسطة له مع الله .
إن الدكتور شريعتي كان قد قرأ هذه التجربة بدقة عندما كان يتأمل في مجتمعه . إذا أردنا إحداث تحول في المجتمع يجب أن نعرف المجتمع بصورة جيدة ونلاحظ ما هو العامل الذي يقود المجتمع إلى الانحطاط إذا كان المجتمع منحطا ، ويقوده إلى الرقي إذا كان المجتمع مترقيا . إن مجتمعنا كان في حالة انحطاط ويقع هذا الانحطاط في مركز الدين ، دين منحط ، وإذا لم يتغير هذا الدين المنحط ولم يجري إصلاحه فليس هناك أمل في أي أصلاح . ولهذا السبب فإن الدكتور شريعتي لخص رسالته وبرنامجه في مشروع واحد أي مشروع البروتستانتية الإسلامية . وبصورة دقيقة فإن هذا المشروع وفي كافة خصوصياته لم يكن واحدا أو متشابها مع البروتستانتية المسيحية . لقد كانت له خصوصياته ولكنه كان اعتراضا واحتجاجا على الدين الرسمي ، وقد انصب جهد شريعتي أولا على نقد دين الانحطاط هذا ، وثانيا تجديد عناصر الدين الحقيقي الموجودة ، أي تهديم بناء الدين التقليدي ونقده ورفضه لغرض تجديد بناء الدين ، الدين الذي رسالته رقي الإنسان وتقدمه والإصلاح ونظرة جديدة إلى العصر الحاضر .
إن كافة التعليمات الدينية التي يقدمها جهاز الدين الرسمي القديم هي تعليمات علاها الغبار أو أنها مظلمة قديمة ، وكان مشروع شريعتي احتجاج واعتراض على هذا الإسلام وهذا الدين . إن أحد الأعمال التي قام بها شريعتي كانت الفصل بين الإسلام الذاتي والإسلام التاريخي وقال إن الكثير من الأمور التي تطرحها المؤسسة الدينية الرسمية القديمة المتولية للدين الرسمي باسم الإسلام هي ليست إسلام ذاتي وإنما إسلام تاريخي .
الإسلام التاريخي هو حصيلة تفكير وتجارب الروحانيين والعلماء و .... على مدى العصور والقرون الماضية وقد جمع بعضه على بعض وأصبح مقدسا لارتباطه بالماضي وتلبسه رداء الدين . وفي الحقيقة فإن هذه العناصر تبدو عجيبة في بعض الأحيان ، إن هذه العناصر التي ترتبط بالعرف والتقاليد كانت معتبرة خاصة وإنها ترتدي لباس الدين والقداسة ، وعندما نلاحظ تاريخ المئة سنة الماضية فسنجد مثلا أن دخول الصحة العامة والرعاية الصحية إلى مجتمعاتنا جعل من أحواض المياه القديمة وسيلة غير صحية ، غير أن حفيظة بعض المؤمنين ثارت بسب ذلك محتجين على هذا التحول لأن هذه الأحواض فقط هي التي يعتبر الغسل فيها دينيا وشرعيا فيما الغسل تحت ( الدوش ) وصنابير المياه فيه شبه ! وكمثال آخر فإن رسالة من أحد هؤلاء السادة الروحانيين التي حررها مع أيام الحركة الدستورية حرمت تعلم العلوم الجديدة كعلم الكيمياء والفيزياء ، فعلم الكيمياء يعني نفي وجود الله تعالى ( إن رأي روحانيي الكنيسة يعارض العلوم الحديثة ) ، غير أن السادة في الوقت الحاضر ليسوا من غير المعارضين لهذه العلوم فقط وإنما إذا كانت مركبتي الشخصية من نوع ( بيكان ) فإنهم الآن يركبون أحدث أنواع المركبات ( تصفيق الحضور ) ، هذا صحيح الآن ، قبلوه ، لأنهم في النهاية استفادوا منه ، وذاقوا طعم حلاوته ( ضحكات ساخرة من أكثر الحضور ) . إن الكثير من هذه الظواهر الحديثة كانت تعتبر حرام وخلاف الشرع باسم الإسلام ، وحتى الفترات الأخيرة كان تعلم اللغة الإنكليزية يعتبر مخالفا للشرع في حوزاتنا العلمية . إن هذه الروحانية لم تأتي من السماء ، إنها من هذا المجتمع ، إنها ذهنية القرون الوسطى ، وقد أدرك الدكتور شريعتي ضرورة أن تتغير هذه الذهنية وضرورة أن يتغير المتولين للدين ، إذ أن عامة الناس أفكارهم من أفواه هؤلاء المتولين . هكذا كان يفكر شريعتي ، إن إسلام التشيع الذي هو دين رقي وتقدم يتحول من عامل تقدم وتكامل إلى عامل انحطاط عندما يقع في وسط منحط . كان الدكتور شريعتي يريد النضال ضد هذه الظاهرة ، كان يريد فصل الإسلام الذاتي عن الإسلام التاريخي . إن الإسلام التاريخي هو حصيلة استنباطات وفهم وأعراف وتقاليد الأجيال السابقة ، إن لكل جيل تجربته ويجب عدم تقديس ذلك وتحويله إلى نصوص وخطوط لا تتغير إلى الأبد ، ولكم أن تلاحظوا إن مراسيم بسيطة ساذجة تحولت في بعض الأحيان إلى عناصر أساسية في الدين وعلامات دالة على الإنسان المسلم الأصيل ، فعلى سبيل المثال لدينا روايات تقول بالتختم باليسار ، وفي الإصبع الأوسط من اليد اليسرى وقد تحولت هذه الرواية إلى أصل ثابت اليوم ، ولو سألت السيد لقال لك ضع الخاتم العقيق في إصبعك فهذه علامة المسلم ، ولو لاحظت آثار العلامة المجلسي فستجد أن كتاب حلية المتقين مفيد ونافع للمسلمين قبل 1400 عاما ، تصور لو أن أحد المسلمين يريد أن يظهر اليوم بذلك الشكل وعلى تلك الصورة ، إن هذه تقاليد ، وتقاليد كل مجتمع تناسب ذلك المجتمع ، آداب الأكل لديه وآداب المعاشرة عنده ، كلها تقاليد لا علاقة لها بالإسلام .