المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : بلاد الشام كما لا نعرفها خلال الحكم العثماني



مجاهدون
12-30-2005, 08:00 AM
محمد م. الأرناؤوط



صدر أخيراً في عمان كتاب «بلاد الشام في الأحكام السلطانية الواردة في دفاتر المهمة» من إعداد الدكتور فاضل بيات وإصدار «لجنة تاريخ بلاد الشام»، الذي يمكن اعتباره حدثاً علمياً بكل معنى الكلمة لما له من أهمية ودلالة بالنسبة للماضي والحاضر والمستقبل في الدراسات المتعلقة ببلاد الشام خلال الحكم العثماني.

وفي الواقع ان هذا الكتاب بالذات يعيد الاعتبار الى انجاز مضيء في المنطقة كاد أن يخفت ألا وهو «لجنة تاريخ بلاد الشام» التي انطلقت في 1972 بمبادرة من الدكتور محمد عدنان البخيت ورعاية كريمة من الأمير الحسن بن طلال انطلاقاً من أن تاريخ بلاد الشام متداخل الى حد أنه لا يمكن دراسته بجهود فردية أو قطرية وإنما بجهود جماعية مؤسساتية. وهكذا تمخضت «لجنة تاريخ بلاد الشام» التي شاركت في تأسيسها وتمويلها ثلاث جامعات (الجامعة الأردنية وجامعة اليرموك من الأردن وجامعة دمشق من سورية)، والتي عقدت مؤتمرات عدة متخصصة أصبحت أوراقها المنشورة مراجع مهمة للباحثين في تاريخ بلاد الشام القديم والوسيط والحديث.

وقد انكمشت أنشطة هذه اللجنة نحو عشر سنوات نتيجة لأسباب عدة، ولكن المهم ان النشاط عاد اليها بعد عودة الدكتور البخيت الى الجامعة الأردنية في 2001، التي بعثت فيها النشاط على مستويين: الإصدارات والمؤتمرات. فقد صدر في السنوات الأخيرة إصدارات مهمة عدة مثل كتاب الدكتور أكمل الدين إحسان أوغلو «المؤسسات الصحية العثمانية الحديثة في سورية»، وكتاب الدكتور أحمد آق كوندوز «التشريع الضريبي عند العثمانيين» وغيرهما، كما وأعدت اللجنة العدة لتنظيم المؤتمر الدولي الجديد عن الوقف في بلاد الشام خلال شهر أيلول (سبتمبر) المقبل.

وفي هذا السياق يمثل الإصدار الجديد نقلة جديدة ونوعية في عمل اللجنة. فمع التوجه الجديد للجنة بالتوسع في استقطاب باحثين متخصصين التحق بها الدكتور فاضل بيات المتخصص في المصادر العثمانية وتفرغ لإعداد هذا المجلد من الأحكام السلطانية الواردة في دفاتر المهمة الذي يقدم معطيات قيمة قد لا نجدها في أي مصدر آخر.

ومع هذا المجلد (416 صفحة من القطع الكبيرة) يمكن القول اننا مع فتح جديد في الدراسات المتعلقة ببلاد الشام خلال الحكم العثماني. فقد كانت الدراسات السابقة عن العهد العثماني، الذي استمر أربعة قرون تعاني من نقص المصادر الرئيسة حيث إأن معظم من كتبوا في هذا المجال كان يجهل اللغة العثمانية والمصادر العثمانية، ولذلك كان الكثير من الدراسات تنقصها الدقة وأحياناً يتسم بالاضطراب بحسب المراجع التي تعتمد عليه. وفي الواقع إن هذه الاشكالية المنهجية لم تكن تواجه الباحثين العرب فقط ولكن أيضاً الباحثين البلقانيين الذين كانت بلادهم أيضاً تحت الحكم العثماني. ولكن في تلك البلاد بُذلت جهود منظمة لتكوين جيل جديد من العارفين باللغة والمصادر العثمانية، كما قامت مؤسسات علمية باختيار ما يخص تلك البلدان من الوثائق العثمانية وترجمتها الى اللغات المحلية لتكون في متناول الباحثين المحليين.

وعلى هذا النمط يمكن القول ان «لجنة تاريخ بلاد الشام» قامت بما كان يجب القيام به منذ خمسين سنة على الأقل، أي مع استقلال البلاد العربية وإنشاء المؤسسات العلمية الجديدة. وعلى اعتبار ان ما صدر هو «الجزء الأول» فقط فإن ما هو آت على الطريق كفيل بأن يمدّ الباحثين بمعطيات جديدة تسمح بأن تتوضح للمرة الأولى الكثير من التفاصيل عن بلاد الشام خلال الحكم العثماني.

وتجدر الإشارة هنا الى أن الأحكام السلطانية الواردة هنا مأخوذة من «دفاتر المهمة» التي تعتبر من أهم المصادر المتعلقة بتاريخ الدولة العثمانية في ولاياتها الممتدة في أوروبا وآسيا وأفريقيا. وتنبع أهمية «دفاتر المهمة» من كونها كانت تحفظ الأحكام السلطانية التي ترسل من الديوان السلطاني (الهمايوني) الى الجهات المختلفة في الدولة العثمانية. وكان الديوان السلطاني بمثابة مجلس وزراء برئاسة الصدر الأعظم يجتمع أربع مرات في الاسبوع ويناقش مختلف الشكاوى والقضايا الواردة من الولايات ويبت فيها بإصدار قرارات بعد مصادقة السلطان عرفت باسم «الأحكام السلطانية». ومن هنا لدينا سواء في الشكاوى أو في القضايا المطروحة (الادارية والاقتصادية والاجتماعية) ما يساعدنا في التعرف بشكل مختلف على الأوضاع في بلاد الشام خلال الحكم العثماني.

وفي ما يتعلق بهذا الإصدار الجديد فقد اختار له الدكتور بيات 243 حكماً سلطانياً من أربعة دفاتر من «دفاتر المهمة» المحفوظة في مركز الأرشيف العثماني وأرشيف طوب قابي سراي في اسطنبول، وهي تتعلق كلها بعهد السلطان سليمان القانوني (1520 – 1566) الذي يمثل بداية الحكم العثماني لبلاد الشام.

ويلاحظ في هذه الأحكام انها تغطي مختلف الأمور في الادارة والمجتمع والعمران، وخصوصاً في ما يتعلق بالعلاقات بين الحكام الجدد والمحكومين. وفي الواقع إن مجمل هذه الأحكام السلطانية تعبر عن آلية حكم الدولة العثمانية وكيفية استجابتها للشكاوى والمتغيرات الجارية على الأرض. فكثير من هذه الأحكام كان يأتي نتيجة لشكاوى من الرعية، وهذا يعني أن مثل هذه الشكاوى كانت تصل الى حيث يجب (الديوان السلطاني في اسطنبول)، ومن ثم تأتي الأحكام إما لتطلب من المسؤولين المحليين (الولاة والقضاة) التحقيق في هذه الشكاوى أو لتطلب منهم تنفيذ أحكام بحق مسؤولين بعدما ثبتت صحة الشكاوى.

ويبدو من هذه الأحكام انه لا يوجد أحد خارج المساءلة ولو كان أقرب المقربين للسلطان. ففي حكم سلطاني صادر الى والي الشام في 5 شوال 951هـ/ 20 كانون الثاني (يناير) 1544م يرد فيه أن زوجة السلطان سليمان أرادت إنشاء خانين للمسافرين في طرابلس، ولكن «بعض الأشخاص هنا يعترضون على ذلك مدعين أن أماكن بيوتهم أخذت منهم ظلماً»، ولذلك يأمر السلطان بالتحقيق والتأكد من الأشخاص المذكورين كيف أخذت بيوتهم وإعلامه فوراً (ص 80). وعلى هذا النمط لدينا بعض الشكاوى والأحكام السلطانية المتعلقة بالأقليات الدينية أيضاً وليس بالمسلمين فقط.

ومن ناحية أخرى لا بد من القول ان هذا الاصدار لا يمثل فتحاً علمياً من ناحية المضمون فقط بل من ناحية المنهج المتبع في العمل أيضاً. ففي كل صفحة لدينا الحكم السلطاني بالعربية على اليمين وبالعثمانية على اليسار مما يتيح للمعنيين الاطلاع والتدرب على قراءة الأحكام بالعثمانية ومطابقة ذلك سواء مع الترجمة العربية أو مع الأحكام الأصلية التي صورت أصولها أيضاً ووضعت في قرص ممغنط مرفق بالكتاب. وإذا أضفنا الى ذلك الفهارس التحليلية والفهارس العامة والاصطلاحات العثمانية وغيرها لأمكننا القول اننا مع إصدار علمي بحسب المعايير العالمية.

وبالاستناد الى كل هذا ليس من المبالغة القول ان مع هذا الإصدار وما يليه أصبح لدينا مصدر رئيس عن تاريخ بلاد الشام خلال الحكم العثماني، ولن يعود في الإمكان التأليف في هذا المجال من دون العودة الى هذا المصدر.


أستاذ التاريخ الحديث في جامعة آل البيت – الأردن