سمير
12-24-2005, 07:42 AM
بدأت المكارثية بقائمة فيها 205 أسماء قيل إنهم شيوعيون وجواسيس في الخارجية الأميركية.. ثم شملت أميركا كلها
واشنطن: محمد علي صالح
«الخوف»، بهذه الكلمة الواحدة لخص هارولد ايفانز فترة المكارثية في أميركا. وإيفانز رئيس التحرير السابق لجريدة «تايمز» البريطانية، وهو جاء، قبل عشرين سنة، الى اميركا، ووصل الى رئاسة تحرير مجلة «اتلانتك» الشهرية، وتخصص في التاريخ الاميركي، وكتب كتاب «القرن الاميركي». وقال ايفانز ان جوزيف مكارثي «اخاف الاميركيين خوفا حقيقيا. لا يصدق الاميركيون اليوم، بعد خمسين سنة، كيف اخافهم مكارثي».
هذه الايام استعادت اميركا اجواء المكارثية، بخوفها وريبتها وشكها وذلك بعدما كشف، قبل اسبوعين، تلفزيون «ان بي سي» وجود قسم داخل وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) يتجسس على معارضي الحرب والمشتبه في علاقاتهم بالقاعدة، ويجمع معلومات شخصية عنهم، بل ويراقب اجتماعاتهم، ويتنصت على اتصالاتهم التليفونية. وتساءل معلقون اميركيون: «هل ستعود المكارثية مجددا؟»، مستبدلة «الخطر الاحمر»، كناية عن الشيوعية، بالخطر الاصولي. هذا السؤال كان سينهض السناتور الجمهور ي جوزيف مكارثي الذي قاد حملة المكارثية قبل خمسين عاما من قبره، فالرجل الذي اخاف اميركا لسنوات، مات منبوذا مريضا مدمنا ولم يكن ليخطر على باله ان يلجأ اخرون الى اساليبه بعد عقود من وفاته.
«حملة الخوف» التي قادها مكارثي استمرت خمس سنوات (1950ـ1955) بسبب ما اسماه «الخطر الشيوعي» على اميركا، غير ان اثارها السياسية والثقافية على اميركا ظلت حاضرة لأطول كثيرا من 5 سنوات، فهي دفعت العشرات من المثقفين والفنانين والكتاب الاميركيين الى الهجرة او الانزواء بعيدا عن خطر الاعتقال، ذلك ان حملة مكارثي خلطت بين الخطر الحقيقي (الشيوعية) وبين اليساريين والليبراليين والنقابيين الذين يريدون اصلاح ظروف العمل في اميركا، وتقليل الفوارق بين الطبقات، وتحسين الاوضاع الاجتماعية والاقتصادية. لكن وعلى الصعيد الاخر كان لدى المحافظين الاميركيين اسبابا يعتقدون انها تبرر حملة تخويف مكارثى، منها اولا حصول روسيا الشيوعية على سر القنبلة الذرية الاميركية، وهو ما فعله الجاسوس الاميركي جوليوس روزنبيرغ وزوجته. (قدم الاثنان الى محكمة، واعدما).
ثانيا، سيطر الشيوعيون على الصين، بقيادة ماو تسي تونغ، وطردوا شيانغ كاي شيك، حليف اميركا. (وأصبحت كل دول جنوب شرق آسيا تحت رحمة الشيوعية). ثالثا، كاد الشيوعيون ان يستولوا على كوريا الجنوبية، واقتربوا من العاصمة سيول، حتى استنجدت حكومة كوريا بالولايات المتحدة والامم المتحدة. واستمرت حرب كوريا خمس سنوات، وانتهت بتقسيم كوريا الى شمالية وجنوبية.
وفي البداية لم يلفت مكارثي انتباه الاميركيين لأنه، حتى بداية حملته، كان عاديا، وهادئا، ورفض الغوغائية، كما كان اصغر عضو في مجلس الشيوخ (38 سنة) عندما فاز في سنة 1948. حتى جاء يوم 9 فبراير (شباط) 1950، عندما خطب مكارثي في ويلينغز (ولاية ويست فرجينيا) في ذكرى ميلاد الرئيس ابراهام لنكون. وأعلن ان «وزارة الخارجية اصبحت مليئة بأعضاء الحزب الشيوعي وجواسيس روسيا». ورفع ورقة، وقال «هذه قائمة فيها 205 شيوعيين وجواسيس» ضخم مكارثي اخبارا عن نشاطات شيوعية داخل وزارة الخارجية. وشاركه بعض قادة الحزب الجمهوري في الكونغرس (كان الرئيس ترومان الديمقراطي). وحقق مكتب التحقيق الفدرالي (اف بي آي) مع اكثر من ثلاثة آلاف دبلوماسي. وفصل جيمس بيرنز، وزير الخارجية في ذلك الوقت، مائة شخص تقريبا «بسبب عدم كفاءتهم»، كان بعضهم شيوعيا، لكن اغلبيتهم كانت يسارية او ليبرالية او نقابية.
ثم بدأ مكارثي سلسلة تحقيقات من داخل الكونغرس. وساعده روي كوهين، الذي كان حقق مع الجاسوس روزنبيرغ وزوجته، وقدمهما الى كرسي الاعدام، والذي وصف بأنه «صائد الجواسيس الحمر». (دارت الدوائر، بعد ذلك بأربعين سنة، على كوهين، وكشف صحافيون انه كان فاسدا، واستلم رشاوي). كما حقق مكارثي مع صحافي «له علاقة قوية مع شقيقه الذي حضر مؤتمرا تحدث فيه زعيم الحزب الشيوعي الاميركي». وأرسل وفدا الى الدول الأوروبية لوضع الكتاب اليساريين والشيوعيين في «قائمة سوداء اوروبية». وأجبر وزارة الخارجية الاميركية على منع دخول كتب اكثر من اربعمائة كاتب وصحافي واستاذ جامعي اوروبي. واتهمت المكارثية، مثلما فعلت قبلها «التوماسية»، هوليوود بأنها اما شيوعية او تنشر الشيوعية عن طريق افلامها.
وكان هناك تركيز واضح على اليهود: اولا، لأنهم كانوا اكثر طوائف اميركا يسارية. ثانيا، لأنهم ترأسوا كثيرا من المنظمات الشيوعية واليسارية والنقابات. ثالثا، لأنهم قادوا صناعة السينما في هوليوود، وكان فيهم مخرجون ومنتجون ومؤلفون وممثلون وممثلات. ولذلك خلطت التحقيقات بين عداء السامية والخوف من الشيوعية. ولهذا قال وولتر غودمان، الكاتب اليهودي اليساري، عن هذه التحقيقات: «افتراضها سام، ووسيلتها قذرة، وهدفها يدعو للتقزز».
وقد ايدت، في البداية، اغلبية الاميركيين الحملة، وذلك لأنهم خافوا من الخطر كما صور لها. خافوا من الشيوعية، خاصة لأن دعاية مكارثي اعتمدت على ان الشيوعية «دين يريد القضاء على المسيحية». لكن قل، فيما بعد، تأييد الاميركيين لمكارثي، لأكثر من سبب: اولا، تأكدوا من ان مكارثي غوغائي، يوزع الاتهامات يمينا ويسارا، بدون ادلة كافية. ثانيا، فشل مكارثي في اثبات وجود «جيش من الشيوعيين والجواسيس» في وزارة الخارجية. ثالثا، ظهر سياسيون وصحافيون وأكاديميون عندهم شجاعة كافية لينتقدوه، وهو في قمة شهرته. كما ظهر ادوارد مارو، من اوائل نجوم اخبار ومقابلات التلفزيون كعدو لمكارثي. (صدر، قبل ثلاثة شهور، فيلم «ليلا سعيدا وحظا سعيدا»، عن حياة مارو، وفيه مواجهات تاريخية مع مكارثي).
ومما قال مارو، وسجل الفيلم، اشارة الى حوار بين القائدين الرومانيين كاسيوس وبروتس، قبيل اغتيال القيصر الروماني جوليوس سيزار: «يا عزيزي بروتس، الذنب ليس ذنب حظنا، الذنب ذنبنا.» وقد ايقظت تعليقات الصحافي مارو كثيرا من الاميركيين، لأنه قال، ربما مثل ما يقول بعض الصحافيين الاميركيين اليوم، ان اي خطر خارجي على اميركا يجب الا يواجه على حساب الدستور والحريات الاميركية. ودارت، فيما بعد، الدوائر على مكارثي، وقدم الى محكمة بتهمة الفساد والتزوير، وادانه الكونغرس، وأدمن المخدرات ومات بسبب ذلك.
لكن قبل المكارثية كانت هناك «التوماسية»، وفيما ركزت الاولى على وزارة الخارجية، ركزت الثانية على هوليوود. وتشير التوماسية الى بارنيل توماس، رئيس لجنة النشاطات المعادية لأميركا في مجلس النواب، الذي قاد، في سنة 1948، تحقيقات ضد مشاهير في هوليوود.
وقد نجح توماس في فتن مشاهير هوليوود ضد بعضهم. وأقنع وولت ديزني (مؤسس شركة ديزني للملاهي)، ولويس مايار (مؤسس شركة متروغولدين ماير للسينما)، وجاك وارنر (مؤسس شركة وارنر للسينما) بأن يشهدوا ضد زملائهم المشتبه فيهم. وأخاف توماس الشهود بسؤاله المشهور: «هل انت عضو، او كنت عضوا، في الحزب الشيوعي؟» رفض كثير من الشهود الاجابة على السؤال، لأنهم رفضوا ان يجرموا انفسهم (التعديل الخامس في الدستور). ورفضوا ان يجادلوا في حق التعبير عن آرائهم (التعديل الاول في الدستور). وحوكم عشرة بالسجن، ليس لأنهم شيوعيون (رغم ان اغلبيتهم كانت)، ولكن لأنهم رفضوا الاجابة على السؤال.
وثارت الاحكام والتحقيقات عاصفة احتجاج وسط مشاهير هوليوود. ليس لأنهم كانوا شيوعيين (كان عدد الشيوعيين في هوليوود قليلا جدا)، ولكن لأنهم قالوا ان كل شخص يجب ان يكون حرا في قول ما يريد، وفي اعتناق ما يريد. واحتجت هوليوود عبر الممثل همفري بوغارت، والممثلة لورين بيكال. وانضم اليهما الممثلون: غريغوري بيك، وداني كاي، وجين كيلي، وجيمس ستيوارت، وفرانك سيناترا، والممثلات: جودي غارلاند، وريتا هيوارث، وآفا غاردنر، وآخرون واخريات. وساروا في صف طويل في شوارع واشنطن، ودخلوا مبنى الكونغرس ليعبروا عن احتجاجهم.
وقد أصاب «رذاذ» التوماسية والمكارثية رجلين اصبحا فيما بعد رئيسين لأميركا: اولا، ريتشارد نيكسون، الذي كان عضوا في لجنة توماس. اشتهر بعداء شديد للشيوعية، وكان سببا في ارسال شيوعيين في وزارة الخارجية الى السجن. لكن، بعد خمس سنوات، دارت عليه الدوائر، وكشف صحافيون انه تسلم رشوة، فاضطر الى الاعتراف في التلفزيون، وبكى. ثم، بعد عشرين سنة، دارت عليه الدوائر مرة اخرى، واستقال بسبب فضيحة «ووترغيت». ثانيا، رونالد ريغان، الذي كان رئيسا لنقابة الممثلين والممثلات. لكنه تجسس على زملائه لصالح مكتب التحقيقات الفدرالي (اف بي آي).
وكان رقمه «العميل عشرة». واعتذر، بعد اربعين سنة، في كتاب مذكراته. وأشار الى عذر يبدو غير غريب في اميركا اليوم، وهو انه خلط بين الخطر الحقيقي (الشيوعية)، وبين اليساريين والليبراليين والنقابيين. واعترف: «اصيب ابرياء بأذى».
واشنطن: محمد علي صالح
«الخوف»، بهذه الكلمة الواحدة لخص هارولد ايفانز فترة المكارثية في أميركا. وإيفانز رئيس التحرير السابق لجريدة «تايمز» البريطانية، وهو جاء، قبل عشرين سنة، الى اميركا، ووصل الى رئاسة تحرير مجلة «اتلانتك» الشهرية، وتخصص في التاريخ الاميركي، وكتب كتاب «القرن الاميركي». وقال ايفانز ان جوزيف مكارثي «اخاف الاميركيين خوفا حقيقيا. لا يصدق الاميركيون اليوم، بعد خمسين سنة، كيف اخافهم مكارثي».
هذه الايام استعادت اميركا اجواء المكارثية، بخوفها وريبتها وشكها وذلك بعدما كشف، قبل اسبوعين، تلفزيون «ان بي سي» وجود قسم داخل وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) يتجسس على معارضي الحرب والمشتبه في علاقاتهم بالقاعدة، ويجمع معلومات شخصية عنهم، بل ويراقب اجتماعاتهم، ويتنصت على اتصالاتهم التليفونية. وتساءل معلقون اميركيون: «هل ستعود المكارثية مجددا؟»، مستبدلة «الخطر الاحمر»، كناية عن الشيوعية، بالخطر الاصولي. هذا السؤال كان سينهض السناتور الجمهور ي جوزيف مكارثي الذي قاد حملة المكارثية قبل خمسين عاما من قبره، فالرجل الذي اخاف اميركا لسنوات، مات منبوذا مريضا مدمنا ولم يكن ليخطر على باله ان يلجأ اخرون الى اساليبه بعد عقود من وفاته.
«حملة الخوف» التي قادها مكارثي استمرت خمس سنوات (1950ـ1955) بسبب ما اسماه «الخطر الشيوعي» على اميركا، غير ان اثارها السياسية والثقافية على اميركا ظلت حاضرة لأطول كثيرا من 5 سنوات، فهي دفعت العشرات من المثقفين والفنانين والكتاب الاميركيين الى الهجرة او الانزواء بعيدا عن خطر الاعتقال، ذلك ان حملة مكارثي خلطت بين الخطر الحقيقي (الشيوعية) وبين اليساريين والليبراليين والنقابيين الذين يريدون اصلاح ظروف العمل في اميركا، وتقليل الفوارق بين الطبقات، وتحسين الاوضاع الاجتماعية والاقتصادية. لكن وعلى الصعيد الاخر كان لدى المحافظين الاميركيين اسبابا يعتقدون انها تبرر حملة تخويف مكارثى، منها اولا حصول روسيا الشيوعية على سر القنبلة الذرية الاميركية، وهو ما فعله الجاسوس الاميركي جوليوس روزنبيرغ وزوجته. (قدم الاثنان الى محكمة، واعدما).
ثانيا، سيطر الشيوعيون على الصين، بقيادة ماو تسي تونغ، وطردوا شيانغ كاي شيك، حليف اميركا. (وأصبحت كل دول جنوب شرق آسيا تحت رحمة الشيوعية). ثالثا، كاد الشيوعيون ان يستولوا على كوريا الجنوبية، واقتربوا من العاصمة سيول، حتى استنجدت حكومة كوريا بالولايات المتحدة والامم المتحدة. واستمرت حرب كوريا خمس سنوات، وانتهت بتقسيم كوريا الى شمالية وجنوبية.
وفي البداية لم يلفت مكارثي انتباه الاميركيين لأنه، حتى بداية حملته، كان عاديا، وهادئا، ورفض الغوغائية، كما كان اصغر عضو في مجلس الشيوخ (38 سنة) عندما فاز في سنة 1948. حتى جاء يوم 9 فبراير (شباط) 1950، عندما خطب مكارثي في ويلينغز (ولاية ويست فرجينيا) في ذكرى ميلاد الرئيس ابراهام لنكون. وأعلن ان «وزارة الخارجية اصبحت مليئة بأعضاء الحزب الشيوعي وجواسيس روسيا». ورفع ورقة، وقال «هذه قائمة فيها 205 شيوعيين وجواسيس» ضخم مكارثي اخبارا عن نشاطات شيوعية داخل وزارة الخارجية. وشاركه بعض قادة الحزب الجمهوري في الكونغرس (كان الرئيس ترومان الديمقراطي). وحقق مكتب التحقيق الفدرالي (اف بي آي) مع اكثر من ثلاثة آلاف دبلوماسي. وفصل جيمس بيرنز، وزير الخارجية في ذلك الوقت، مائة شخص تقريبا «بسبب عدم كفاءتهم»، كان بعضهم شيوعيا، لكن اغلبيتهم كانت يسارية او ليبرالية او نقابية.
ثم بدأ مكارثي سلسلة تحقيقات من داخل الكونغرس. وساعده روي كوهين، الذي كان حقق مع الجاسوس روزنبيرغ وزوجته، وقدمهما الى كرسي الاعدام، والذي وصف بأنه «صائد الجواسيس الحمر». (دارت الدوائر، بعد ذلك بأربعين سنة، على كوهين، وكشف صحافيون انه كان فاسدا، واستلم رشاوي). كما حقق مكارثي مع صحافي «له علاقة قوية مع شقيقه الذي حضر مؤتمرا تحدث فيه زعيم الحزب الشيوعي الاميركي». وأرسل وفدا الى الدول الأوروبية لوضع الكتاب اليساريين والشيوعيين في «قائمة سوداء اوروبية». وأجبر وزارة الخارجية الاميركية على منع دخول كتب اكثر من اربعمائة كاتب وصحافي واستاذ جامعي اوروبي. واتهمت المكارثية، مثلما فعلت قبلها «التوماسية»، هوليوود بأنها اما شيوعية او تنشر الشيوعية عن طريق افلامها.
وكان هناك تركيز واضح على اليهود: اولا، لأنهم كانوا اكثر طوائف اميركا يسارية. ثانيا، لأنهم ترأسوا كثيرا من المنظمات الشيوعية واليسارية والنقابات. ثالثا، لأنهم قادوا صناعة السينما في هوليوود، وكان فيهم مخرجون ومنتجون ومؤلفون وممثلون وممثلات. ولذلك خلطت التحقيقات بين عداء السامية والخوف من الشيوعية. ولهذا قال وولتر غودمان، الكاتب اليهودي اليساري، عن هذه التحقيقات: «افتراضها سام، ووسيلتها قذرة، وهدفها يدعو للتقزز».
وقد ايدت، في البداية، اغلبية الاميركيين الحملة، وذلك لأنهم خافوا من الخطر كما صور لها. خافوا من الشيوعية، خاصة لأن دعاية مكارثي اعتمدت على ان الشيوعية «دين يريد القضاء على المسيحية». لكن قل، فيما بعد، تأييد الاميركيين لمكارثي، لأكثر من سبب: اولا، تأكدوا من ان مكارثي غوغائي، يوزع الاتهامات يمينا ويسارا، بدون ادلة كافية. ثانيا، فشل مكارثي في اثبات وجود «جيش من الشيوعيين والجواسيس» في وزارة الخارجية. ثالثا، ظهر سياسيون وصحافيون وأكاديميون عندهم شجاعة كافية لينتقدوه، وهو في قمة شهرته. كما ظهر ادوارد مارو، من اوائل نجوم اخبار ومقابلات التلفزيون كعدو لمكارثي. (صدر، قبل ثلاثة شهور، فيلم «ليلا سعيدا وحظا سعيدا»، عن حياة مارو، وفيه مواجهات تاريخية مع مكارثي).
ومما قال مارو، وسجل الفيلم، اشارة الى حوار بين القائدين الرومانيين كاسيوس وبروتس، قبيل اغتيال القيصر الروماني جوليوس سيزار: «يا عزيزي بروتس، الذنب ليس ذنب حظنا، الذنب ذنبنا.» وقد ايقظت تعليقات الصحافي مارو كثيرا من الاميركيين، لأنه قال، ربما مثل ما يقول بعض الصحافيين الاميركيين اليوم، ان اي خطر خارجي على اميركا يجب الا يواجه على حساب الدستور والحريات الاميركية. ودارت، فيما بعد، الدوائر على مكارثي، وقدم الى محكمة بتهمة الفساد والتزوير، وادانه الكونغرس، وأدمن المخدرات ومات بسبب ذلك.
لكن قبل المكارثية كانت هناك «التوماسية»، وفيما ركزت الاولى على وزارة الخارجية، ركزت الثانية على هوليوود. وتشير التوماسية الى بارنيل توماس، رئيس لجنة النشاطات المعادية لأميركا في مجلس النواب، الذي قاد، في سنة 1948، تحقيقات ضد مشاهير في هوليوود.
وقد نجح توماس في فتن مشاهير هوليوود ضد بعضهم. وأقنع وولت ديزني (مؤسس شركة ديزني للملاهي)، ولويس مايار (مؤسس شركة متروغولدين ماير للسينما)، وجاك وارنر (مؤسس شركة وارنر للسينما) بأن يشهدوا ضد زملائهم المشتبه فيهم. وأخاف توماس الشهود بسؤاله المشهور: «هل انت عضو، او كنت عضوا، في الحزب الشيوعي؟» رفض كثير من الشهود الاجابة على السؤال، لأنهم رفضوا ان يجرموا انفسهم (التعديل الخامس في الدستور). ورفضوا ان يجادلوا في حق التعبير عن آرائهم (التعديل الاول في الدستور). وحوكم عشرة بالسجن، ليس لأنهم شيوعيون (رغم ان اغلبيتهم كانت)، ولكن لأنهم رفضوا الاجابة على السؤال.
وثارت الاحكام والتحقيقات عاصفة احتجاج وسط مشاهير هوليوود. ليس لأنهم كانوا شيوعيين (كان عدد الشيوعيين في هوليوود قليلا جدا)، ولكن لأنهم قالوا ان كل شخص يجب ان يكون حرا في قول ما يريد، وفي اعتناق ما يريد. واحتجت هوليوود عبر الممثل همفري بوغارت، والممثلة لورين بيكال. وانضم اليهما الممثلون: غريغوري بيك، وداني كاي، وجين كيلي، وجيمس ستيوارت، وفرانك سيناترا، والممثلات: جودي غارلاند، وريتا هيوارث، وآفا غاردنر، وآخرون واخريات. وساروا في صف طويل في شوارع واشنطن، ودخلوا مبنى الكونغرس ليعبروا عن احتجاجهم.
وقد أصاب «رذاذ» التوماسية والمكارثية رجلين اصبحا فيما بعد رئيسين لأميركا: اولا، ريتشارد نيكسون، الذي كان عضوا في لجنة توماس. اشتهر بعداء شديد للشيوعية، وكان سببا في ارسال شيوعيين في وزارة الخارجية الى السجن. لكن، بعد خمس سنوات، دارت عليه الدوائر، وكشف صحافيون انه تسلم رشوة، فاضطر الى الاعتراف في التلفزيون، وبكى. ثم، بعد عشرين سنة، دارت عليه الدوائر مرة اخرى، واستقال بسبب فضيحة «ووترغيت». ثانيا، رونالد ريغان، الذي كان رئيسا لنقابة الممثلين والممثلات. لكنه تجسس على زملائه لصالح مكتب التحقيقات الفدرالي (اف بي آي).
وكان رقمه «العميل عشرة». واعتذر، بعد اربعين سنة، في كتاب مذكراته. وأشار الى عذر يبدو غير غريب في اميركا اليوم، وهو انه خلط بين الخطر الحقيقي (الشيوعية)، وبين اليساريين والليبراليين والنقابيين. واعترف: «اصيب ابرياء بأذى».