خديجة
12-21-2005, 11:21 AM
رشيد الخيون
اشترط محامي صدام حسين، وزير العدل القطري السابق نجيب النعيمي، براءة موكله بوجود محاكمة عادلة ونزيهة. ويمسي، حسب تلك الثقة، ما حدث للعراقيين والكويتيين مجرد أوهام، وما حصل بالدجيل وحلبجة وكركوك والأهوار، وغيرها من نواحي العراق مجرد مؤامرات رتبها (خونة) ضد المتهم (الوطني). هنا لا نريد استباق المحكمة، التي صبرت على طعن النعيمي بها، مستفيداً من سماحة القاضي، غير المسبوقة، والمؤذية لذوي الضحايا، إلى حد سمح به لبرزان ممارسة هوايته في الاعتداء والشتم، وهذه المرة من قفص الاتهام لا من دائرة المخابرات.. فتأمل. لينعم النعيمي بالأمل ببراءة صدام! لكنه كرجل عدل لا بد أن تأثر بعذابات الشهود، وهي خارج مقدور البشر. ألم يهزه مشهد معتقلة مات رضيعها بين يديها، فقيل لها: إرميه من الشباك! وسقط جنين آخر، لما حاصرها المخاض، بين رجليها وهي واقفة.
لا ألوم رجل العدل النعيمي، وكان قبل سنوات بقطر بمكانة قاضي القضاة أبي يوسف زمن الرشيد ببغداد، لتبرعه بالدفاع عن متهم تعددت جرائمه، وتكاثر المقتولون على يده وبأوامره: فرادى وجماعات، بقدر ما أحاول تذكيره بأخلاق القضاة والمحامين الكبار، وفي مقدمتهم صاحب «موسوعة العذاب» عبود الشالجي. كان إذا عُرضت عليه قضية يقلبها من كل الوجوه، وإذا مالت كفة الجرم على البراءة رفضها، وإن كانت مقابل أموال قارون. ذلك خشية التورط بإحقاق باطل وإزهاق حق. والشالجي تأدب بمدرسة الحقوق العراقية، وكتب محضر جلسة البرلمان التي انتحر بأثرها رئيس الوزراء عبد المحسن السعدون، واستقال من عضوية المحكمة، التي حكمت بقضية فلاحي سوق الشيوخ (1935)، رافضاً توقيع الحكم بالإعدام على مَنْ دفعتهم مصلحة الأرض للتمرد، استقال في وقت كانت وظيفة القاضي لشاب، في بداية الثلاثينيات، تعادل رئاسة الجمهورية اليوم.
كان من أخلاق الفقهاء الورعين الابتعاد من وظيفة القضاء، وإن اقتربوا لم يأخذوا أجوراً، لأن الأجر لا يفي ثمناً لضمير رجل العدل، ناهيك من القلق لعدم استقلال القضاء. رفضها الإمام أبو حنيفة (ت 150هـ). وأحزن التكليف محارب بن دثار (116هـ). قال: «استعملت على القضاء فبكيت وبكى أهلي». وفضل رجاء بن حيوة (112هـ) القبر على كرسي القاضي: «لو خيرت بين أن أحمل إلى حفرتي وما بين ما ولى (القضاء) ابن موهب لاخترت أن أحمل إلى حفرتي». وهذا حيوة بن شريح (ت158هـ) «لم يقبل القضاء حتى بين السيف والنطع» (بَوكيع، أخبار القضاة). واضطر عدد من الفقهاء إلى تصنع الجنون خلاصاً من التكليف بالوظيفة.
لا بد لقاضي قضاة قطر السابق النعيمي أن سمع أو اطلع على قلق الأسلاف من خطورة مهنة القضاء، كي لا يبرأ قاتل ويجرم مقتول. وأن لا يطغى، في الدفاع عن شخص صدام، هاجس العقيدة السياسية على هاجس العدالة والقضاء، فالحقوقي النعيمي بدفاعه عن صدام، رغم وضوح التهمة، يمارس موقفاً عقائدياً سياسياًً لا حقوقياً. وبالتالي تطغى العاطفة على سمو العدل، وهو كما يعلم «أساس المُلك». وفي هذه الحال، لا يهمه أن موكله حفر ثلاثمائة مقبرة جماعية، أو أعدم مئة وثمانية وأربعين من أهل الدجيل، بل يهمه أن يظل صدام في ذاكرته بطلاً قومياً!
ولا تتعجب من لعبة الدفاع القانوني إذا حصل واحتج المدافعون عن صدام بهتافات العراقيين السابقة، التي قبلوا عبرها أن يكونوا قرابين للبطل: «بروح بالدم نفديك يا صدام»؟ لا أدري، إن كان النعيمي سيستفيد من هتاف التنازل عن الأرواح والدماء في دفاعه، لتكذيب الشهود، وإقامة دعاوى تشهير ورمي محصنين ضدهم. هذا إذا لم يطلب لموكله حق العودة إلى الزعامة المسلوبة. وإلا ما فائدة نجاة صدام، من القصاص، بالنسبة للعزِّ القومي، إذا لم يعد زعيماً؟
أما وزير العدل الأمريكي السابق كلارك فجاء بتأثير آخر، وهو الخصومة مع بوش وإدارته، ولم تأت به شجون العدالة، وهو يتقدم بالدفاع وضمان البراءة لمَنْ يشهد عليه لسانه بالقتل، وكان يترأس دولة الرعب والفزع. ودولة كلارك، من يوم كان وزيراً، أعلم بالأسرار من غيرها. وهنا أذكر السيد كلارك أن ذوي الضحايا، وهم سواد العراقيين، رحبوا بدبابات بلده، وبدلاً من أن يقذفونها بالحجر أنزلوا تماثيل موكله أرضاً، ولم يكذبوا رواية وجود أسلحة الدمار الشامل. فأي سلاح أخطر من صدام نفسه؟ كذلك لا يتردد ذوو الضحايا من النظر إلى السيد النعيمي أنه جاء من أرض سيبقى فضلها في أعناقهم ما داموا يتنعمون بحرية الرأي والكلمة.
في هذه المفارقة كتب ركن الدين الوهراني (ت575هـ) راوياً مناماً من مناماته، ومتعرضاً لكثرة ذنوب الطبيب ابن النقاش معه: «أن القيامة قد قامت والخلق في الموقف، وإذا بحلقة عظيمة بعيدة الأقطار، فيها من الأمم ما لا يحصى كلهم، يصفقون ويلعبون، وثلاثة في وسطهم يرقصون، فقال: أما الثلاثة فعبد الرحمن بن ملجم المرادي (قاتل الإمام علي)، والشمر بن ذي الجوشن (قاتل الحسين)، والحجاج بن يوسف... وأما الفرح الذي ألهاهم عن توقع العقاب حتى رقصوا من الطرب مع ما كانوا عليه من رجاحة العقل، ونزاهة النفس فهو الطمع في رحمة الله تعالى، بعد اليأس منها. والسبب فيه كون الباري عزَّ وجلَّ غفر اليوم للفقيه المجير والمهذب ابن النقاش».
إذا كان صدام وجماعته أبرياءً! إذاً ما هو البرزخ بين الجور والعدل؟ وهل كان العراقيون الأوائل كاذبين في تسمية يوم موت الحجاج عرساً؟ روى أبو عمر الجرمي عن يونس النحوي: «أنا أذكر عرس العراق، فقيل له: وما عرس العراق؟ قال موت الحجاج سنة خمس وتسعين» (ابن الجوزي، المنتظم). وقد سمعهم العالم، خلال المقابلات التي أجرتها الفضائيات مع الناخبين، يرددون مفردة «عرس العراق»، وهم يسيرون قوافل إلى دوائر الانتخاب، رغم بقايا الرعب السابق في النفوس، وشبح الإرهاب يجوب الطرقات.
اشترط محامي صدام حسين، وزير العدل القطري السابق نجيب النعيمي، براءة موكله بوجود محاكمة عادلة ونزيهة. ويمسي، حسب تلك الثقة، ما حدث للعراقيين والكويتيين مجرد أوهام، وما حصل بالدجيل وحلبجة وكركوك والأهوار، وغيرها من نواحي العراق مجرد مؤامرات رتبها (خونة) ضد المتهم (الوطني). هنا لا نريد استباق المحكمة، التي صبرت على طعن النعيمي بها، مستفيداً من سماحة القاضي، غير المسبوقة، والمؤذية لذوي الضحايا، إلى حد سمح به لبرزان ممارسة هوايته في الاعتداء والشتم، وهذه المرة من قفص الاتهام لا من دائرة المخابرات.. فتأمل. لينعم النعيمي بالأمل ببراءة صدام! لكنه كرجل عدل لا بد أن تأثر بعذابات الشهود، وهي خارج مقدور البشر. ألم يهزه مشهد معتقلة مات رضيعها بين يديها، فقيل لها: إرميه من الشباك! وسقط جنين آخر، لما حاصرها المخاض، بين رجليها وهي واقفة.
لا ألوم رجل العدل النعيمي، وكان قبل سنوات بقطر بمكانة قاضي القضاة أبي يوسف زمن الرشيد ببغداد، لتبرعه بالدفاع عن متهم تعددت جرائمه، وتكاثر المقتولون على يده وبأوامره: فرادى وجماعات، بقدر ما أحاول تذكيره بأخلاق القضاة والمحامين الكبار، وفي مقدمتهم صاحب «موسوعة العذاب» عبود الشالجي. كان إذا عُرضت عليه قضية يقلبها من كل الوجوه، وإذا مالت كفة الجرم على البراءة رفضها، وإن كانت مقابل أموال قارون. ذلك خشية التورط بإحقاق باطل وإزهاق حق. والشالجي تأدب بمدرسة الحقوق العراقية، وكتب محضر جلسة البرلمان التي انتحر بأثرها رئيس الوزراء عبد المحسن السعدون، واستقال من عضوية المحكمة، التي حكمت بقضية فلاحي سوق الشيوخ (1935)، رافضاً توقيع الحكم بالإعدام على مَنْ دفعتهم مصلحة الأرض للتمرد، استقال في وقت كانت وظيفة القاضي لشاب، في بداية الثلاثينيات، تعادل رئاسة الجمهورية اليوم.
كان من أخلاق الفقهاء الورعين الابتعاد من وظيفة القضاء، وإن اقتربوا لم يأخذوا أجوراً، لأن الأجر لا يفي ثمناً لضمير رجل العدل، ناهيك من القلق لعدم استقلال القضاء. رفضها الإمام أبو حنيفة (ت 150هـ). وأحزن التكليف محارب بن دثار (116هـ). قال: «استعملت على القضاء فبكيت وبكى أهلي». وفضل رجاء بن حيوة (112هـ) القبر على كرسي القاضي: «لو خيرت بين أن أحمل إلى حفرتي وما بين ما ولى (القضاء) ابن موهب لاخترت أن أحمل إلى حفرتي». وهذا حيوة بن شريح (ت158هـ) «لم يقبل القضاء حتى بين السيف والنطع» (بَوكيع، أخبار القضاة). واضطر عدد من الفقهاء إلى تصنع الجنون خلاصاً من التكليف بالوظيفة.
لا بد لقاضي قضاة قطر السابق النعيمي أن سمع أو اطلع على قلق الأسلاف من خطورة مهنة القضاء، كي لا يبرأ قاتل ويجرم مقتول. وأن لا يطغى، في الدفاع عن شخص صدام، هاجس العقيدة السياسية على هاجس العدالة والقضاء، فالحقوقي النعيمي بدفاعه عن صدام، رغم وضوح التهمة، يمارس موقفاً عقائدياً سياسياًً لا حقوقياً. وبالتالي تطغى العاطفة على سمو العدل، وهو كما يعلم «أساس المُلك». وفي هذه الحال، لا يهمه أن موكله حفر ثلاثمائة مقبرة جماعية، أو أعدم مئة وثمانية وأربعين من أهل الدجيل، بل يهمه أن يظل صدام في ذاكرته بطلاً قومياً!
ولا تتعجب من لعبة الدفاع القانوني إذا حصل واحتج المدافعون عن صدام بهتافات العراقيين السابقة، التي قبلوا عبرها أن يكونوا قرابين للبطل: «بروح بالدم نفديك يا صدام»؟ لا أدري، إن كان النعيمي سيستفيد من هتاف التنازل عن الأرواح والدماء في دفاعه، لتكذيب الشهود، وإقامة دعاوى تشهير ورمي محصنين ضدهم. هذا إذا لم يطلب لموكله حق العودة إلى الزعامة المسلوبة. وإلا ما فائدة نجاة صدام، من القصاص، بالنسبة للعزِّ القومي، إذا لم يعد زعيماً؟
أما وزير العدل الأمريكي السابق كلارك فجاء بتأثير آخر، وهو الخصومة مع بوش وإدارته، ولم تأت به شجون العدالة، وهو يتقدم بالدفاع وضمان البراءة لمَنْ يشهد عليه لسانه بالقتل، وكان يترأس دولة الرعب والفزع. ودولة كلارك، من يوم كان وزيراً، أعلم بالأسرار من غيرها. وهنا أذكر السيد كلارك أن ذوي الضحايا، وهم سواد العراقيين، رحبوا بدبابات بلده، وبدلاً من أن يقذفونها بالحجر أنزلوا تماثيل موكله أرضاً، ولم يكذبوا رواية وجود أسلحة الدمار الشامل. فأي سلاح أخطر من صدام نفسه؟ كذلك لا يتردد ذوو الضحايا من النظر إلى السيد النعيمي أنه جاء من أرض سيبقى فضلها في أعناقهم ما داموا يتنعمون بحرية الرأي والكلمة.
في هذه المفارقة كتب ركن الدين الوهراني (ت575هـ) راوياً مناماً من مناماته، ومتعرضاً لكثرة ذنوب الطبيب ابن النقاش معه: «أن القيامة قد قامت والخلق في الموقف، وإذا بحلقة عظيمة بعيدة الأقطار، فيها من الأمم ما لا يحصى كلهم، يصفقون ويلعبون، وثلاثة في وسطهم يرقصون، فقال: أما الثلاثة فعبد الرحمن بن ملجم المرادي (قاتل الإمام علي)، والشمر بن ذي الجوشن (قاتل الحسين)، والحجاج بن يوسف... وأما الفرح الذي ألهاهم عن توقع العقاب حتى رقصوا من الطرب مع ما كانوا عليه من رجاحة العقل، ونزاهة النفس فهو الطمع في رحمة الله تعالى، بعد اليأس منها. والسبب فيه كون الباري عزَّ وجلَّ غفر اليوم للفقيه المجير والمهذب ابن النقاش».
إذا كان صدام وجماعته أبرياءً! إذاً ما هو البرزخ بين الجور والعدل؟ وهل كان العراقيون الأوائل كاذبين في تسمية يوم موت الحجاج عرساً؟ روى أبو عمر الجرمي عن يونس النحوي: «أنا أذكر عرس العراق، فقيل له: وما عرس العراق؟ قال موت الحجاج سنة خمس وتسعين» (ابن الجوزي، المنتظم). وقد سمعهم العالم، خلال المقابلات التي أجرتها الفضائيات مع الناخبين، يرددون مفردة «عرس العراق»، وهم يسيرون قوافل إلى دوائر الانتخاب، رغم بقايا الرعب السابق في النفوس، وشبح الإرهاب يجوب الطرقات.