سلسبيل
12-12-2005, 06:53 AM
يعلمون كحراس ليليين أو موظفو استقبال
فرنسا-الطاهر العبيدي
يعمل الكثير من حملة الشهادات الجامعية العليا في فرنسا بمهن وضيعة، لا تتوافق مع دراستهم، كالحراسة الليلية، أو في الطلاء، أو كموظفي استقبال في النزل المحلية، في حين يبقى الكثير منهم في بحث عن عمل، دون نجاح.
لكن، هل يقتصر هذا الوضع على الطلبة العرب ممن درسوا في فرنسا، بلد المهاجرين المرتزقة، والمهجرّين الفارّين من مستنقعات الأنظمة المتغطرسة، أم هي صعوبة الحياة الاقتصادية في بلد العلم والتعلم، حيث تتعايش ثقافات مختلفة، أفرزت إثراء وتداخلا بين الشعوب نلاحظها في الأسواق، والمكتبات، والمعاهد، والجامعات، والمستشفيات ومختلف نواحي الحياة الأخرى.
"العربية.نت" جالت في الشارع الفرنسي، للوقوف على خلفيات الموضوع، من خلال شهادات شبان يعيشون هذه الحالة حتى اليوم.
من هؤلاء الشبان نلتقي سمير، الذي تخصص في الاخراج السينمائي، لكنه يعمل كمساعد لموظف الاستقبال بأحد النزل المحلية. يختزل الشاب أسئلتنا، وكأنه يحاول الهروب من مواجهة الواقع، ويقول: "باختصار يا صاحبي إذا بكى طفلك لأجل الحليب، أو داهمتك فواتير آخر الشهر، فلا تسألني لماذا أعمل في نزل، بينما أحمل شهادة دبلوم مخرج سينمائي. لأني لو لم أجد هذا العمل لفتشت عن أي عمل آخر أتحصّن به من بكاء طفلي واحتياج عائلتي"، ليمضي مسرعاً بعدما داهمه وقت بدء نوبة عمله، لدى رب عمل لا يرحم المتأخرين.
أما شكري (باحث في العلوم السياسية)، فيرجع سبب عمل الخريجيين في وظائف لا تتوافق واختصاصاتهم إلى "صعوبة اختراق سوق العمل الفرنسي، خاصة بالنسبة لأصحاب الشهادات العليا". ويلقي باللوم على الخريجيين "لأنهم بقوا منطوين على أنفسهم، غير قادرين على دخول المجتمع الفرنسي"، مرجعاً السبب إلى عدة عوامل، "نفسية ومادية، بالإضافة إلى العامل اللغوي، الذي، وإن تطوّرت الشهادة، يبقى عائقا كبيرا". ويضيف: "إلى جانب أن أغلب الحاصلين على الشهادات العليا يطوونها بعد سنوات التعب، ولا يستثمرونها في مجالات البحث والتنقيب، ويرضون بأيسر الحلول دون توسيع دائرة العلاقات الثقافية والعلمية، التي ربما تفتح لهم آفاقا أرحب".
دكتوراه تاريخ في جحر
يقطن سالم، الذي يحمل شهادة دكتوراه في التاريخ، في بيت هو أقرب إلى جحر آدمي. تحمل ملامحه مأساة السنين وقسوة الواقع، وملوحة العيش. جلسنا في زاوية من البيت الذي تبعثر أثاثه، وتكدّست فيه الكتب مع كوم من الملابس البالية وأواني الطبخ والصحون في مشهد يوحي بالكثير من الفوضى والعبثية، التي تعبّر عن ضيق صاحبه لحد النقمة والتشفي من النفس.
تحدث سالم عن قساوة الظروف وغلاء المعيشة وصعوبة إيجاد عمل، ويلخص حاله بالقول: "على الرغم من أني أسكن بجوار مخبز، إلا أني أضطر للذهاب لمخبز آخر يبعد نحو كيلومتر عن مسكني، لأن ثمن الخبز فيه أرخص ب 20سنتيم، كل ذلك كي أتحايل على الجوع".
أما خالد، الحاصل على شهادة دبلوم في الدراسات المعمّقة في اللغة والحضارة العربية من جامعة السوربون، فيقول: "يستدعي وضع أصحاب الشهادات العليا، وخاصة العرب منهم، الكثير من البحث والدراسة"، مشيراً إلى أن الطالب العربي "يأتي إلى فرنسا محمّلاً بأحلام طموحة، لكنه سرعان ما يصطدم بصعوبة الحياة هنا والكدح اليومي، والتمزق بين الدراسة وبين البحث عن شغل متواضع لساعات، كي يستطيع الحصول على ربع رغيف، ويوفر الوقت للدراسة".
ويلفت إلى أن أكثر المتضرّرين من هذا الوضع هم حملة شهادات العلوم الإنسانية، لأن توظيفهم يكاد يكون مهمة مستحيلة.
"مسؤولية الجالية العربية"
يلقي خالد جزءاً كبيراً من المسؤولية على "الجالية العربية الإسلامية هنا، لأن وعيها لا يزال غير ناضج، فهي لا تهتم إلا بإقامة المشاريع البطنية، دون الاهتمام بفتح مشاريع علمية وثقافية ومعرفية دراسية، تستثمر فيها جهد هؤلاء، وتوظيفهم والاستفادة من اختصاصاتهم المتعددة والمهمة".
وفي هذا الإطار، يرى أحمد (طبيب)، أن "الوضع هنا سيئ إجمالاً، فكثير ممن أعرفهم من الأطباء والمهندسين والكفاءات العلمية والفكرية المهمة يعملون في مهن هامشية، بعيدة كل البعد عن تكوينهم واختصاصهم". ويشير إلى أن هذا الأمر "يولد لديهم نوعاً من النقمة الذاتية، فيعيشوا متأرجحين بين تحصيل قوتهم اليومي، وطموحهم العلمي المهشم على جدران الواقع. فنجدهم لا يوفقون في مهنهم الهامشية ولا يستطيعون تحقيق أحلامهم العلمية".
ويلاحظ أحمد أن "الغالبية التي اتجهت إلى المهن الهامشية تفشل في الحياة المادية، نتيجة عدة اعتبارات، منها ما هو خاص بالنمط السياسي، ومنها ما هو نفسي ديناميكي، يتعلق بصاحب الشأن الذي يستسلم للواقع ولا يتحرر من عبودية المهن الوضيعة، هذا إلى جانب تضخّم البطالة هنا وندرة فرص الشغل". لكن، دون أن يؤدي هذا إلى التعميم، لاستطاعة الكثيرين، من عرب وأفارقة، ممن حصلوا على شهادات عليا تحقيق طموحهم، والحصول على مهن محترمة".
بين غربتين
أما حسن (ماجستير في الفلسفة)، فيرجع هذا الواقع إلى "ضغط الواقع، الذي جعل هؤلاء غير متحررين من ظروفهم الاجتماعية، فأغلبهم لهم ارتباطات عائلية وأسرية، لم تسمح لهم بالتضحية بأربع أو خمس سنوات أخرى لكسب الخبرة". ويلاحظ أن الحاصل على الشهادة العليا يصطدم بعدّة عوائق، "أولها العائق القانوني الذي يشترط الحصول على الجنسية، ثم العائق الاجتماعي الذي يكبّل هذه الشريحة، ويسهل من خضوعها للواقع، لتتحول إلى شريحة قدرية تستسلم للمهن الوضيعة".
ويلفت حسن إلى أن "من بين هؤلاء نجد مناضلين يحملون هموم بلدانهم، فيتشتتوا بين الدراسة والعمل والنضال اليومي الذي يمتص جهودهم. وأهم من ذلك هو "النظام"، الذي نلاحظ أن مقاييسه صعبة وجد انتقائية". ولا يغفل الإشارة إلى مواضيع الشهادات المختارة، "التي يبدو بعضها أنه أُعدّ لبلدان أخرى غير هذه البلاد، ما يؤدي لبقاء هذه الشريحة رهينة غربتين: غربتها داخل أوطانها وغربة المهجر".
فرنسا-الطاهر العبيدي
يعمل الكثير من حملة الشهادات الجامعية العليا في فرنسا بمهن وضيعة، لا تتوافق مع دراستهم، كالحراسة الليلية، أو في الطلاء، أو كموظفي استقبال في النزل المحلية، في حين يبقى الكثير منهم في بحث عن عمل، دون نجاح.
لكن، هل يقتصر هذا الوضع على الطلبة العرب ممن درسوا في فرنسا، بلد المهاجرين المرتزقة، والمهجرّين الفارّين من مستنقعات الأنظمة المتغطرسة، أم هي صعوبة الحياة الاقتصادية في بلد العلم والتعلم، حيث تتعايش ثقافات مختلفة، أفرزت إثراء وتداخلا بين الشعوب نلاحظها في الأسواق، والمكتبات، والمعاهد، والجامعات، والمستشفيات ومختلف نواحي الحياة الأخرى.
"العربية.نت" جالت في الشارع الفرنسي، للوقوف على خلفيات الموضوع، من خلال شهادات شبان يعيشون هذه الحالة حتى اليوم.
من هؤلاء الشبان نلتقي سمير، الذي تخصص في الاخراج السينمائي، لكنه يعمل كمساعد لموظف الاستقبال بأحد النزل المحلية. يختزل الشاب أسئلتنا، وكأنه يحاول الهروب من مواجهة الواقع، ويقول: "باختصار يا صاحبي إذا بكى طفلك لأجل الحليب، أو داهمتك فواتير آخر الشهر، فلا تسألني لماذا أعمل في نزل، بينما أحمل شهادة دبلوم مخرج سينمائي. لأني لو لم أجد هذا العمل لفتشت عن أي عمل آخر أتحصّن به من بكاء طفلي واحتياج عائلتي"، ليمضي مسرعاً بعدما داهمه وقت بدء نوبة عمله، لدى رب عمل لا يرحم المتأخرين.
أما شكري (باحث في العلوم السياسية)، فيرجع سبب عمل الخريجيين في وظائف لا تتوافق واختصاصاتهم إلى "صعوبة اختراق سوق العمل الفرنسي، خاصة بالنسبة لأصحاب الشهادات العليا". ويلقي باللوم على الخريجيين "لأنهم بقوا منطوين على أنفسهم، غير قادرين على دخول المجتمع الفرنسي"، مرجعاً السبب إلى عدة عوامل، "نفسية ومادية، بالإضافة إلى العامل اللغوي، الذي، وإن تطوّرت الشهادة، يبقى عائقا كبيرا". ويضيف: "إلى جانب أن أغلب الحاصلين على الشهادات العليا يطوونها بعد سنوات التعب، ولا يستثمرونها في مجالات البحث والتنقيب، ويرضون بأيسر الحلول دون توسيع دائرة العلاقات الثقافية والعلمية، التي ربما تفتح لهم آفاقا أرحب".
دكتوراه تاريخ في جحر
يقطن سالم، الذي يحمل شهادة دكتوراه في التاريخ، في بيت هو أقرب إلى جحر آدمي. تحمل ملامحه مأساة السنين وقسوة الواقع، وملوحة العيش. جلسنا في زاوية من البيت الذي تبعثر أثاثه، وتكدّست فيه الكتب مع كوم من الملابس البالية وأواني الطبخ والصحون في مشهد يوحي بالكثير من الفوضى والعبثية، التي تعبّر عن ضيق صاحبه لحد النقمة والتشفي من النفس.
تحدث سالم عن قساوة الظروف وغلاء المعيشة وصعوبة إيجاد عمل، ويلخص حاله بالقول: "على الرغم من أني أسكن بجوار مخبز، إلا أني أضطر للذهاب لمخبز آخر يبعد نحو كيلومتر عن مسكني، لأن ثمن الخبز فيه أرخص ب 20سنتيم، كل ذلك كي أتحايل على الجوع".
أما خالد، الحاصل على شهادة دبلوم في الدراسات المعمّقة في اللغة والحضارة العربية من جامعة السوربون، فيقول: "يستدعي وضع أصحاب الشهادات العليا، وخاصة العرب منهم، الكثير من البحث والدراسة"، مشيراً إلى أن الطالب العربي "يأتي إلى فرنسا محمّلاً بأحلام طموحة، لكنه سرعان ما يصطدم بصعوبة الحياة هنا والكدح اليومي، والتمزق بين الدراسة وبين البحث عن شغل متواضع لساعات، كي يستطيع الحصول على ربع رغيف، ويوفر الوقت للدراسة".
ويلفت إلى أن أكثر المتضرّرين من هذا الوضع هم حملة شهادات العلوم الإنسانية، لأن توظيفهم يكاد يكون مهمة مستحيلة.
"مسؤولية الجالية العربية"
يلقي خالد جزءاً كبيراً من المسؤولية على "الجالية العربية الإسلامية هنا، لأن وعيها لا يزال غير ناضج، فهي لا تهتم إلا بإقامة المشاريع البطنية، دون الاهتمام بفتح مشاريع علمية وثقافية ومعرفية دراسية، تستثمر فيها جهد هؤلاء، وتوظيفهم والاستفادة من اختصاصاتهم المتعددة والمهمة".
وفي هذا الإطار، يرى أحمد (طبيب)، أن "الوضع هنا سيئ إجمالاً، فكثير ممن أعرفهم من الأطباء والمهندسين والكفاءات العلمية والفكرية المهمة يعملون في مهن هامشية، بعيدة كل البعد عن تكوينهم واختصاصهم". ويشير إلى أن هذا الأمر "يولد لديهم نوعاً من النقمة الذاتية، فيعيشوا متأرجحين بين تحصيل قوتهم اليومي، وطموحهم العلمي المهشم على جدران الواقع. فنجدهم لا يوفقون في مهنهم الهامشية ولا يستطيعون تحقيق أحلامهم العلمية".
ويلاحظ أحمد أن "الغالبية التي اتجهت إلى المهن الهامشية تفشل في الحياة المادية، نتيجة عدة اعتبارات، منها ما هو خاص بالنمط السياسي، ومنها ما هو نفسي ديناميكي، يتعلق بصاحب الشأن الذي يستسلم للواقع ولا يتحرر من عبودية المهن الوضيعة، هذا إلى جانب تضخّم البطالة هنا وندرة فرص الشغل". لكن، دون أن يؤدي هذا إلى التعميم، لاستطاعة الكثيرين، من عرب وأفارقة، ممن حصلوا على شهادات عليا تحقيق طموحهم، والحصول على مهن محترمة".
بين غربتين
أما حسن (ماجستير في الفلسفة)، فيرجع هذا الواقع إلى "ضغط الواقع، الذي جعل هؤلاء غير متحررين من ظروفهم الاجتماعية، فأغلبهم لهم ارتباطات عائلية وأسرية، لم تسمح لهم بالتضحية بأربع أو خمس سنوات أخرى لكسب الخبرة". ويلاحظ أن الحاصل على الشهادة العليا يصطدم بعدّة عوائق، "أولها العائق القانوني الذي يشترط الحصول على الجنسية، ثم العائق الاجتماعي الذي يكبّل هذه الشريحة، ويسهل من خضوعها للواقع، لتتحول إلى شريحة قدرية تستسلم للمهن الوضيعة".
ويلفت حسن إلى أن "من بين هؤلاء نجد مناضلين يحملون هموم بلدانهم، فيتشتتوا بين الدراسة والعمل والنضال اليومي الذي يمتص جهودهم. وأهم من ذلك هو "النظام"، الذي نلاحظ أن مقاييسه صعبة وجد انتقائية". ولا يغفل الإشارة إلى مواضيع الشهادات المختارة، "التي يبدو بعضها أنه أُعدّ لبلدان أخرى غير هذه البلاد، ما يؤدي لبقاء هذه الشريحة رهينة غربتين: غربتها داخل أوطانها وغربة المهجر".