زوربا
12-05-2005, 01:20 AM
سعاد الحكيم الحياة - 19/11/05//
أستاذ الدراسات الاسلامية - الجامعة اللبنانية.
لقد ترسخ في الوعي الانساني العام ان قوله تعالى: لا إكراه في الدين (البقرة / 256)، هو نص الهي مخصوص بحرية الاعتقاد، وباحترام مشيئة الانسان وحقه في اختيار دينه. وانني هنا لا أنفي ما هو مستقر في اذهان الناس ولا ألغيه، بل بالعكس أدعمه وأوسعه. ذلك لانني ارى في المستجدات المدمرة التي طرأت على حياة المسلمين من ارهاب وتكفير وعنف وتسلط ديني ومصادرة للحريات، كل ذلك يدفعنا الى معاودة النظر في ما هو مستقر في افهامنا عن الاسلام واعادة انتاجه من جديد تلبية لاحتياجات العصر، ووصولاً الى حياة افضل. وأتوخى هنا تقديم قراءة جديدة توسع دائرة النص لا لتشمل العتبات الحدودية ومرحلة ما قبل الاعتقاد فقط، بل تضيف اليها مرحلة ما بعد الاعتقاد ومرحلة ممارسة العقيدة في الحياة.
في اطار التدليل على هذه القراءة الجديدة، ووضعها في سياقها التفسيري، أبدأ بالتصريح بأنه يوجد شبه اجماع على تفسير لفظ «الدين» في الآية الكريمة بالاسلام. فيقول القرطبي (التفسير، ج3، ص279)، ان «الدين» في هذه الآية هو المعتقد والملة بقرينة قوله تعالى: (قد تبين الرشد من الغي)، كما يقول حول الآية نفسها (التفسير، ج3، ص18)، أدخلت الألف واللام في الدين تعريفاً للدين، وانه هو الاسلام. فتكون خلاصة تفسيره، وبعد نظره في اسباب النزول، انه لا يُكره انسان على الدخول في الاسلام (انظر: التفسير، ج3، ص13-16). اما ابن كثير فيقول في تفسيره (ج1، ص311): «(لا إكراه في الدين) أي لا تكرهوا احداً على الدخول في دين الاسلام». ويضيف عبارة «جديرة» بالاهتمام واعادة الاستثمار في ضوء الحاضر، عبارة تدل على لا جدوى الاكراه وانه يفقد الفعل قيمته الحقيقية، يقول «فانه – أي المكره – لا يفيده الدخول في الدين مكرهاً مقسوراً».
وأُثنِّي بأن أقول، ان الكلام الالهي لا يحبسه تفسير واحد، ومن يجرؤ – غير رسول الله – على القول إن الله سبحانه قصد بهذه الآية هذا المعنى فقط لا غير؟! وهذا لا يعني ان النص الالهي مشرع لكل وارد بل انه فقط يفسح المجال للتعددية التفسيرية العلمية المضبوطة والرصينة، بحيث لا تتناقض هذه التفاسير في ما بينها، بل العكس تتكامل وتتساند لتوصل الملتقي الى «الحد» المشار اليه في قوله (صلى الله عليه وسلم): «لكل آية ظهر وبطن ولكل حد ومطلع» (التمهيد لابن عبدالبر، ج8، ص282) وقوله (صلى الله عليه وسلم): «إن للقرآن الكريم ظاهراً وباطناً وحداً ومطلعاً». (إحياء علوم الدين، ج ا، ص99، وأخرجه ابن حبّان في حديثه).
وأثلّث بالنظر في من يقول ان هذه الآية منسوخة، ونفتح كتاب ابن حزم «الإحكام في اصول الأحكام» (ج4، ص484 وما بعد)، وتحت عنوان «فصل في كيف يُعلم المنسوخ والناسخ مما ليس منسوخاً»، نجد قوله: «فمن قال في شيء من ذلك انه منسوخ فقد أوجب الا يطاع ذلك الامر واسقط لزوم اتباعه، وهذه معصية لله تعالى مجردة وخلاف مكشوف الا ان يقوم برهان علىصحة قوله والا فهو مفترٍ مبطل (...) وكل ما ثبت بيقين فلا يبطل بالظنون. ولا يجوز ان تسقط طاعة أمرٍ امرنا به الله تعالى ورسوله الا بيقين نسخ لا شك فيه».
وأربّع بمسألة الحرية في الاسلام... ان الحرية هي التي تعطي الفعل الديني قيمته، فما قيمة الصلاة لمصلٍ يأتيها كرهاً، وهل إنْ أتاها كرهاً هو مصل حقاً؟ وإن استطعنا بسلطة عليا اجبار شخص على تأدية الصلاة، فهل نستطيع اجباره على الالتزام بأحكامها وعدم إبطالها – خفية عنا – بفعل او نية؟! وما قيمة حجاب لامرأة تلتزم به قسراً وكرهاً، وهل ان التزمت به كرهاً لا تتفلّت منه في اي فرصة سانحة لها، بل قد يجيء تفلّتها منه عشوائياً وتمرداً نابعاً من رد فعلها تجاه القهر والعنف والتهميش لا تجاه الحجاب نفسه؟!
ان العمل الديني الحقيقي او العبادة الحقة هي العبادة المؤسسة على اختيار الانسان وعلى حرية مشيئته، فمن يقول الصدق مكرهاً ليس بصادق، والمرأة التي تضع الحجاب مكرهة ليست محجّبة... والسؤال الذي يجب ان يطرح هو: هل يقبل الحق (عز وجل) عبادة اداها الانسان كرهاً لا طوعاً؟!
وأخمّس بمسألة العقل في الاسلام... خلق اللله سبحانه العقل وأنزله المرتبة العظمى، وجعله من مبادئ التكليف وشرطاً لازماً له، بحيث يؤدي غياب العقل – على أي شكل كان – الى غياب التكليف.
يقول الحسن البصري: «ابن آدم! انك تموت وحدك، وتدخل القبر وحدك، وتبعث وحدك، وتحاسب وحدك. وهذه الوحدة الانسانية هي وحدة العقل والمسؤولية، فالانسان مسؤول وحده امام الله سبحانه وامام الناس عن حياته وأعماله فيها، وقد اعطاه الله سبحانه العقل ليمارس خلافته في ما استخلفه فيه، وهو مساءَل إن تخلى عن إعمال عقله وسلم زمام إعقاله الى من يظن انه اقدر منه على التفكر والتدبر.
بالعقل يتبوأ الانسان مكانه ومكانته في الدنيا والآخرة، سألت السيدة عائشة – رضي الله عنها – رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قالت: «قلت: يا رسول الله بما يتفاضل الناس في الدنيا؟ قال (صلى الله عليه وسلم): بالعقل. قلت: وفي الآخرة؟ قال (صلى الله عليه وسلم): بالعقل. قلت: أليس انما يجزون بأعمالهم؟ فقال (صلى الله عليه وسلم): يا عائشة وهل عملوا الا بقدر ما اعطاهم الله (عز وجل) من العقل». وأعجب من شيخ امام حضرت صلاة الجمعة في المكان المخصص للنساء، في المسجد الذي خطب فيه وأقام الصلاة. ثم رأيته يجلس للفتيا بعد صلاة الظهر. وأعترف بأنني سررت جداً من هذه الظاهرة وشكرت له في نفسي ذلك، لأنه يجعل العلم متوافراً للناس ومتاحاً في شكل مستدام للعامة. وفي لجج انسيابي للمناخ العلمي الديني اذا بالشيخ الامام يثور ويغضب، ونعرف ان احدهم قدم له سؤالاً مكتوباً، ونسمعه يتوعد السائل المجهول ويتحداه ان يظهر نفسه ويعلن عن وجوده بين الملأ، وحيث ان هذا لم يحدث فاذا به يتوجه بوعيده الى كل من في الجامع من الحضور، فيوجه خطابه للجميع بعبارة مستغربة في الاسلام، يقول: «لا مكان للعقل هنا، ومن يريد ان يستخدم عقله فليخرج من هنا»...
وأعترف انه عند سماعي هذه العبارة قمت الى حذائي فانتعلته وغادرت... غادرت وأنا أتفكر في قرآننا العظيم، وكيف ان الله العلي القدير توجه بخطابه الى عقل الانسان، توجه الى قوم يعقلون ويتفكرون وطالبهم بالتفكر والتدبر والإعقال، وعجب من استقالة فريق منهم من التفكر اتكالاً على عقول الآباء والأجداد... غادرت وأنا اتفكر في شخص رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الذي يأتيه الوحي في كل امر وعلى رغم ذلك لم يعطل عقول صحابته ولم يحبسهم في قفص التنفيذ السلبي للشريعة بل كان يحرضهم على التفكر وإعمال العقل، فيطرح عليهم الاسئلة، ويستشيرهم في الشأن العام، ويأخذ بنصيحة الخبير في السلم والحرب.
وأسدّس بمناقشة النقد المحتمل لهذه القراءة الجديدة التي تجد ان احد تفسيرات قوله تعالى: (لا إكراه في الدين)، هي انه لا يحق لمسلم ان يكره مسلماً على ما يراه في امر من امور الاسلام.
وفي خطوة اولى اعرض هذه القراءة الجديدة على القرآن الكريم لأتأكد من عدم تناقضها مع نص ثابت يتضمن امراً من امور الدين، فاجد في القرآن الكريم آيات بينات تلزم المؤمن بالامر المعروف والنهي عن المنكر. يقول تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون الى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) (آل عمران / 104). بل ان الامر بالمعروف والنهي عن المنكر صفة للمؤمن والمؤمنة. يقول تعالى واصفاً المؤمنين والمؤمنات: (يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله (التوبة / 71).
اذاً، ان النقد المحتمل الاول لهذه القراءة يستشف من النصوص القرآنية التي تؤكد على وجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وفي خطوة ثانية أعرض هذه القراءة الجديدة على الحديث النبوي الشريف لأتثبت من عدم مخالفتها لسنة من السنن القويمة. فأجد في صحيح مسلم (ج1، ص69) في باب «كون النهي عن المنكر من الايمان (...) وان الامر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان» قوله (صلى الله عليه وسلم): «من رأى منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك اضعف الايمان». وأجد في شرح النووي على مسلم (ج2، ص22) ان العلماء تدارسوا مراتب التغيير الثلاث المذكورة في الحديث الشريف وهي: التغيير باليد، والتغيير باللسان، والتغيير بالقلب، وتفاوتت اجتهاداتهم حذراً وعنفاً وبخاصة في ما يتعلق بالتغيير باليد. قال القاضي عياض (المرجع السابق، ج2، ص25) ان هذا الحديث الشريف اصل في صفة التغيير. فحق المغيّر ان يغيّره بكل وجه امكنه زواله به قولاً كان او فعلاً فيكسر آلات الباطل ويريق المسكر بنفسه، ولكن ان غلب على ظنه ان تغييره بيده يسبب ما هو اشد منه كف يده واقتصر على القول باللسان والوعظ والتخويف. وينتهي القاضي عياض في فقه هذه المسألة الى انه لا يحق للمغيّر اظهار سلاح وحرب بل يرفع ذلك الى من له الامر. وعلى هذا الرأي إمام الحرمين (المرجع السابق نفسه، الصفحة نفسها) الذي يقول انه «يسوغ لآحاد الرعية ان يصد مرتكب الكبيرة ان لم يندفع عنها بقوله ما لم ينته الامر الى نصب قتال وشهر سلاح. فان انتهى الامر الى ذلك ربط الامر بالسلطان».
اسئلة يطرحها التاريخ على العقل المسلم، يلجئه بها الى التفكر... وبين يدي التفكر اضع رزمة افكار قصيرة:
الفكرة الاولى: ان التغيير باليد لا يعني العنف كما سبق الى اذهان سالفة ومعاصرة، بل اليد هي رمز العمل، والتغيير باليد هو التغيير العملي، والامثلة على هذا التغيير العملي كثيرة في التاريخ، فالشخص الذي يؤسس جمعاً او يجمع جماعة بهدف اصلاحي هو مغيّر باليد، والذي يتصدى للدعوة في بلده وفي ارض الله الواسعة هو مغير باليد، حتى الدعاة الجدد الذين يطلّون على شاشات التلفزيون يبذلون الجهد بالتعريف والاقناع والقص لتغيير مرادات الشباب هم مغيرون باليد، والذي يجعل نفسه قدوة بالقول والفعل لمن يقتضي به هو مغير باليد... اذاً التغيير باليد هو القيام بعمل اصلاحي يغير احوال الناس لا ممارسة العنف ضد الآخر.
الفكرة الثانية... لقد حجر «المغيرون» المنكر في حدود ضيقة، يدور في معظمه حول الخمر ومجالس اللهو والسهر وثياب المرأة. وارى انه آن الاوان لتوسيع دائرة المنكر ليشمل الكذب والغش والخداع والغيبة والنميمة والفتنة وجميع اشكال السلوك اللااسلامي المدمر للتماسك الاجتماعي والثقة بين الناس.
الفكرة الثالثة، وبها أختتم مقالتي... ان السلة الوحيدة المعطاة للشخص الفرد على آخر في الاسلام هي سلطة الكلمة، سلطة الدعوة والاقناع، سلطة «الامر». اما في ما يتعدى «الامر» الى تنفيذه نيابة عن المخاطب او قهراً للمخاطب فهذا ما لم يرد فيه نص لا في القرآن ولا في سنّة.
ان الدين حرية ومسؤولية، وتغيير يحدث من داخل بالتزام شخصي وقناعة، والمرجع الوحيد الصالح لحراسة الدين والمجتمع هو السلطة بالمعنى الواسع المتمثلة في المقام الاول باجماع علماء المسلمين، وبالدولة الاسلامية المستنيرة.
أستاذ الدراسات الاسلامية - الجامعة اللبنانية.
لقد ترسخ في الوعي الانساني العام ان قوله تعالى: لا إكراه في الدين (البقرة / 256)، هو نص الهي مخصوص بحرية الاعتقاد، وباحترام مشيئة الانسان وحقه في اختيار دينه. وانني هنا لا أنفي ما هو مستقر في اذهان الناس ولا ألغيه، بل بالعكس أدعمه وأوسعه. ذلك لانني ارى في المستجدات المدمرة التي طرأت على حياة المسلمين من ارهاب وتكفير وعنف وتسلط ديني ومصادرة للحريات، كل ذلك يدفعنا الى معاودة النظر في ما هو مستقر في افهامنا عن الاسلام واعادة انتاجه من جديد تلبية لاحتياجات العصر، ووصولاً الى حياة افضل. وأتوخى هنا تقديم قراءة جديدة توسع دائرة النص لا لتشمل العتبات الحدودية ومرحلة ما قبل الاعتقاد فقط، بل تضيف اليها مرحلة ما بعد الاعتقاد ومرحلة ممارسة العقيدة في الحياة.
في اطار التدليل على هذه القراءة الجديدة، ووضعها في سياقها التفسيري، أبدأ بالتصريح بأنه يوجد شبه اجماع على تفسير لفظ «الدين» في الآية الكريمة بالاسلام. فيقول القرطبي (التفسير، ج3، ص279)، ان «الدين» في هذه الآية هو المعتقد والملة بقرينة قوله تعالى: (قد تبين الرشد من الغي)، كما يقول حول الآية نفسها (التفسير، ج3، ص18)، أدخلت الألف واللام في الدين تعريفاً للدين، وانه هو الاسلام. فتكون خلاصة تفسيره، وبعد نظره في اسباب النزول، انه لا يُكره انسان على الدخول في الاسلام (انظر: التفسير، ج3، ص13-16). اما ابن كثير فيقول في تفسيره (ج1، ص311): «(لا إكراه في الدين) أي لا تكرهوا احداً على الدخول في دين الاسلام». ويضيف عبارة «جديرة» بالاهتمام واعادة الاستثمار في ضوء الحاضر، عبارة تدل على لا جدوى الاكراه وانه يفقد الفعل قيمته الحقيقية، يقول «فانه – أي المكره – لا يفيده الدخول في الدين مكرهاً مقسوراً».
وأُثنِّي بأن أقول، ان الكلام الالهي لا يحبسه تفسير واحد، ومن يجرؤ – غير رسول الله – على القول إن الله سبحانه قصد بهذه الآية هذا المعنى فقط لا غير؟! وهذا لا يعني ان النص الالهي مشرع لكل وارد بل انه فقط يفسح المجال للتعددية التفسيرية العلمية المضبوطة والرصينة، بحيث لا تتناقض هذه التفاسير في ما بينها، بل العكس تتكامل وتتساند لتوصل الملتقي الى «الحد» المشار اليه في قوله (صلى الله عليه وسلم): «لكل آية ظهر وبطن ولكل حد ومطلع» (التمهيد لابن عبدالبر، ج8، ص282) وقوله (صلى الله عليه وسلم): «إن للقرآن الكريم ظاهراً وباطناً وحداً ومطلعاً». (إحياء علوم الدين، ج ا، ص99، وأخرجه ابن حبّان في حديثه).
وأثلّث بالنظر في من يقول ان هذه الآية منسوخة، ونفتح كتاب ابن حزم «الإحكام في اصول الأحكام» (ج4، ص484 وما بعد)، وتحت عنوان «فصل في كيف يُعلم المنسوخ والناسخ مما ليس منسوخاً»، نجد قوله: «فمن قال في شيء من ذلك انه منسوخ فقد أوجب الا يطاع ذلك الامر واسقط لزوم اتباعه، وهذه معصية لله تعالى مجردة وخلاف مكشوف الا ان يقوم برهان علىصحة قوله والا فهو مفترٍ مبطل (...) وكل ما ثبت بيقين فلا يبطل بالظنون. ولا يجوز ان تسقط طاعة أمرٍ امرنا به الله تعالى ورسوله الا بيقين نسخ لا شك فيه».
وأربّع بمسألة الحرية في الاسلام... ان الحرية هي التي تعطي الفعل الديني قيمته، فما قيمة الصلاة لمصلٍ يأتيها كرهاً، وهل إنْ أتاها كرهاً هو مصل حقاً؟ وإن استطعنا بسلطة عليا اجبار شخص على تأدية الصلاة، فهل نستطيع اجباره على الالتزام بأحكامها وعدم إبطالها – خفية عنا – بفعل او نية؟! وما قيمة حجاب لامرأة تلتزم به قسراً وكرهاً، وهل ان التزمت به كرهاً لا تتفلّت منه في اي فرصة سانحة لها، بل قد يجيء تفلّتها منه عشوائياً وتمرداً نابعاً من رد فعلها تجاه القهر والعنف والتهميش لا تجاه الحجاب نفسه؟!
ان العمل الديني الحقيقي او العبادة الحقة هي العبادة المؤسسة على اختيار الانسان وعلى حرية مشيئته، فمن يقول الصدق مكرهاً ليس بصادق، والمرأة التي تضع الحجاب مكرهة ليست محجّبة... والسؤال الذي يجب ان يطرح هو: هل يقبل الحق (عز وجل) عبادة اداها الانسان كرهاً لا طوعاً؟!
وأخمّس بمسألة العقل في الاسلام... خلق اللله سبحانه العقل وأنزله المرتبة العظمى، وجعله من مبادئ التكليف وشرطاً لازماً له، بحيث يؤدي غياب العقل – على أي شكل كان – الى غياب التكليف.
يقول الحسن البصري: «ابن آدم! انك تموت وحدك، وتدخل القبر وحدك، وتبعث وحدك، وتحاسب وحدك. وهذه الوحدة الانسانية هي وحدة العقل والمسؤولية، فالانسان مسؤول وحده امام الله سبحانه وامام الناس عن حياته وأعماله فيها، وقد اعطاه الله سبحانه العقل ليمارس خلافته في ما استخلفه فيه، وهو مساءَل إن تخلى عن إعمال عقله وسلم زمام إعقاله الى من يظن انه اقدر منه على التفكر والتدبر.
بالعقل يتبوأ الانسان مكانه ومكانته في الدنيا والآخرة، سألت السيدة عائشة – رضي الله عنها – رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قالت: «قلت: يا رسول الله بما يتفاضل الناس في الدنيا؟ قال (صلى الله عليه وسلم): بالعقل. قلت: وفي الآخرة؟ قال (صلى الله عليه وسلم): بالعقل. قلت: أليس انما يجزون بأعمالهم؟ فقال (صلى الله عليه وسلم): يا عائشة وهل عملوا الا بقدر ما اعطاهم الله (عز وجل) من العقل». وأعجب من شيخ امام حضرت صلاة الجمعة في المكان المخصص للنساء، في المسجد الذي خطب فيه وأقام الصلاة. ثم رأيته يجلس للفتيا بعد صلاة الظهر. وأعترف بأنني سررت جداً من هذه الظاهرة وشكرت له في نفسي ذلك، لأنه يجعل العلم متوافراً للناس ومتاحاً في شكل مستدام للعامة. وفي لجج انسيابي للمناخ العلمي الديني اذا بالشيخ الامام يثور ويغضب، ونعرف ان احدهم قدم له سؤالاً مكتوباً، ونسمعه يتوعد السائل المجهول ويتحداه ان يظهر نفسه ويعلن عن وجوده بين الملأ، وحيث ان هذا لم يحدث فاذا به يتوجه بوعيده الى كل من في الجامع من الحضور، فيوجه خطابه للجميع بعبارة مستغربة في الاسلام، يقول: «لا مكان للعقل هنا، ومن يريد ان يستخدم عقله فليخرج من هنا»...
وأعترف انه عند سماعي هذه العبارة قمت الى حذائي فانتعلته وغادرت... غادرت وأنا أتفكر في قرآننا العظيم، وكيف ان الله العلي القدير توجه بخطابه الى عقل الانسان، توجه الى قوم يعقلون ويتفكرون وطالبهم بالتفكر والتدبر والإعقال، وعجب من استقالة فريق منهم من التفكر اتكالاً على عقول الآباء والأجداد... غادرت وأنا اتفكر في شخص رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الذي يأتيه الوحي في كل امر وعلى رغم ذلك لم يعطل عقول صحابته ولم يحبسهم في قفص التنفيذ السلبي للشريعة بل كان يحرضهم على التفكر وإعمال العقل، فيطرح عليهم الاسئلة، ويستشيرهم في الشأن العام، ويأخذ بنصيحة الخبير في السلم والحرب.
وأسدّس بمناقشة النقد المحتمل لهذه القراءة الجديدة التي تجد ان احد تفسيرات قوله تعالى: (لا إكراه في الدين)، هي انه لا يحق لمسلم ان يكره مسلماً على ما يراه في امر من امور الاسلام.
وفي خطوة اولى اعرض هذه القراءة الجديدة على القرآن الكريم لأتأكد من عدم تناقضها مع نص ثابت يتضمن امراً من امور الدين، فاجد في القرآن الكريم آيات بينات تلزم المؤمن بالامر المعروف والنهي عن المنكر. يقول تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون الى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) (آل عمران / 104). بل ان الامر بالمعروف والنهي عن المنكر صفة للمؤمن والمؤمنة. يقول تعالى واصفاً المؤمنين والمؤمنات: (يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله (التوبة / 71).
اذاً، ان النقد المحتمل الاول لهذه القراءة يستشف من النصوص القرآنية التي تؤكد على وجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وفي خطوة ثانية أعرض هذه القراءة الجديدة على الحديث النبوي الشريف لأتثبت من عدم مخالفتها لسنة من السنن القويمة. فأجد في صحيح مسلم (ج1، ص69) في باب «كون النهي عن المنكر من الايمان (...) وان الامر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان» قوله (صلى الله عليه وسلم): «من رأى منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك اضعف الايمان». وأجد في شرح النووي على مسلم (ج2، ص22) ان العلماء تدارسوا مراتب التغيير الثلاث المذكورة في الحديث الشريف وهي: التغيير باليد، والتغيير باللسان، والتغيير بالقلب، وتفاوتت اجتهاداتهم حذراً وعنفاً وبخاصة في ما يتعلق بالتغيير باليد. قال القاضي عياض (المرجع السابق، ج2، ص25) ان هذا الحديث الشريف اصل في صفة التغيير. فحق المغيّر ان يغيّره بكل وجه امكنه زواله به قولاً كان او فعلاً فيكسر آلات الباطل ويريق المسكر بنفسه، ولكن ان غلب على ظنه ان تغييره بيده يسبب ما هو اشد منه كف يده واقتصر على القول باللسان والوعظ والتخويف. وينتهي القاضي عياض في فقه هذه المسألة الى انه لا يحق للمغيّر اظهار سلاح وحرب بل يرفع ذلك الى من له الامر. وعلى هذا الرأي إمام الحرمين (المرجع السابق نفسه، الصفحة نفسها) الذي يقول انه «يسوغ لآحاد الرعية ان يصد مرتكب الكبيرة ان لم يندفع عنها بقوله ما لم ينته الامر الى نصب قتال وشهر سلاح. فان انتهى الامر الى ذلك ربط الامر بالسلطان».
اسئلة يطرحها التاريخ على العقل المسلم، يلجئه بها الى التفكر... وبين يدي التفكر اضع رزمة افكار قصيرة:
الفكرة الاولى: ان التغيير باليد لا يعني العنف كما سبق الى اذهان سالفة ومعاصرة، بل اليد هي رمز العمل، والتغيير باليد هو التغيير العملي، والامثلة على هذا التغيير العملي كثيرة في التاريخ، فالشخص الذي يؤسس جمعاً او يجمع جماعة بهدف اصلاحي هو مغيّر باليد، والذي يتصدى للدعوة في بلده وفي ارض الله الواسعة هو مغير باليد، حتى الدعاة الجدد الذين يطلّون على شاشات التلفزيون يبذلون الجهد بالتعريف والاقناع والقص لتغيير مرادات الشباب هم مغيرون باليد، والذي يجعل نفسه قدوة بالقول والفعل لمن يقتضي به هو مغير باليد... اذاً التغيير باليد هو القيام بعمل اصلاحي يغير احوال الناس لا ممارسة العنف ضد الآخر.
الفكرة الثانية... لقد حجر «المغيرون» المنكر في حدود ضيقة، يدور في معظمه حول الخمر ومجالس اللهو والسهر وثياب المرأة. وارى انه آن الاوان لتوسيع دائرة المنكر ليشمل الكذب والغش والخداع والغيبة والنميمة والفتنة وجميع اشكال السلوك اللااسلامي المدمر للتماسك الاجتماعي والثقة بين الناس.
الفكرة الثالثة، وبها أختتم مقالتي... ان السلة الوحيدة المعطاة للشخص الفرد على آخر في الاسلام هي سلطة الكلمة، سلطة الدعوة والاقناع، سلطة «الامر». اما في ما يتعدى «الامر» الى تنفيذه نيابة عن المخاطب او قهراً للمخاطب فهذا ما لم يرد فيه نص لا في القرآن ولا في سنّة.
ان الدين حرية ومسؤولية، وتغيير يحدث من داخل بالتزام شخصي وقناعة، والمرجع الوحيد الصالح لحراسة الدين والمجتمع هو السلطة بالمعنى الواسع المتمثلة في المقام الاول باجماع علماء المسلمين، وبالدولة الاسلامية المستنيرة.