فاطمي
12-05-2005, 12:10 AM
GMT 15:45:00 2005 الأحد 4 ديسمبر
نبيل شرف الدين
http://elaph.com/elaphweb/Resources/images/ElaphLiterature/2005/12/thumbnails/T_a0ff9ba0-122c-40c6-a2f3-b0d9ca8315da.JPG
في إحدى مستشفيات لندن
في غرفة باردة بإحدى مستشفيات لندن وضع الكاتب المسرحي الكبير ألفريد فرج رأسه على وسادة منخفضة وطرية لا تروق له، وهو الذي يفضل الوسائد المرتفعة الصلبة، ومات، أو بالأحرى ارتاح من عذابات السرطان اللعين الذي هزمه، وهو الذي انتصر على قمع الحكومات المصرية، وسجون الاستئناف والقلعة والواحات وغيرها من السجون التي استضافته لا لجرم اقترفه سوى المسرح الجاد . قبل أن يسافر إلى العاصمة البريطانية في زيارته، كان قلبه موجعاً ومترعاً بأحزان هائلة على أبنائه وتلاميذه الذين قضوا بأبشع طريقة للموت في محرقة مسرح "بني سويف"، كان العم ألفريد فرج متأكداً أنه لن يعود إلى الإسكندرية التي يهيم ببحرها وهوائها وناسها ووسواسها وخناسها، كان يتحدث لمرافقيه القلائل وهم يودعونه فجر ذلك اليوم في مطار القاهرة عن أن "مصر تمر الآن بلحظة محنة"، ولكنها لن تموت، فهذا البلد اعتاد خوض المحن الواحدة تلو الأخرى، وفي كل مرة كان قادراً على النهوض بقوة .
كان مستمعوه ينصتون إليه في خشوع وحسرة بينما صوت قارئ قرآن الفجر يتلو "فلا أقسم بهذا البلد، وأنت حلُ بهذا البلد، ووالد وما ولد"، وكنت أمسك بيدي بآخر كتب الراحل "شارع عماد الدين"، وهو عبارة مرثية حزينة لزمن جميل ولى، كان العم ألفريد محظوظاً أن عاش جانباً من نهاياته . وبقدر ثقته في بقاء مصر ونهوضها، فقد كان ألفريد فرج واثقاً لأبعد حد ممكن بالمسرح، قائلاً في حوار أجريته معه رداً على سؤال عما إذا كان المسرح لم يزل قادراً على الصمود : "نعم المسرح سيصمد، قالوا هذا الكلام من قبل، قالوا إن السينما ستقضي على المسرح ولم يحدث، وقالوا إن التليفزيون سيقضي على المسرح ولم يحدث، الفنون لا تموت، والتنوع فى أشكال التقديم والعرض مطلوب، والمسرح استطاع أن يطور أدواته وأساليبه ويستفيد من التقدم العلمي، وبهذا فالمجال ما زال مفتوحا أمام المسرح للتنافس مع بقية الفنون، أنا لا أدعو لسيادة المسرح على أنواع الفنون الأخرى بل أدعو للتنوع والتنافس بينها" .
جائزة صدام
وفي مستشفى سانت تيريز بلندن استدعى ألفريد فرج تلك الأيام الخوالي التي كتب فيها رائعته "سليمان الحلبي" كصيحة من أجل الاستقلال و"حلاق بغداد" استشرافا لفكرة العدالة الاجتماعية، ثم "الزير سالم" كأنه كان يتنبأ بما حدث عندما غزا صدام حسين الكويت وانتزعه فرج من عمق المأثور الشعبي العربي عن حرب البسوس، وهنا أذكر أنني التقيته بعد مهرجان مسرحي كان قد دعي إليه في بغداد زمن صدام حسين، ولم يحصل على جائزة ذلك المهرجان، التي ذهبت إلى أحد النكرات ممن لا يستحقون حتى لقب تلميذ من تلاميذه، ولم يكن ألفريد منزعجاً، بل بدا راضياً وسعيداً، وحين استفسرت منه عن سر سعادته، قال ـ كأنه يقرأ الغيب ـ إن "هذه الجائزة ستصبح قريباً تهمة وسبة، عافانا الله منها"، وراح يحدثني بحميمية أب عن سبب عدم حصوله على الجائزة، قائلاً إن صدام وأعوانه عنصريون حتى النخاع، وبالتالي لن يمنحوا مسيحياً جائزة، ولما أبديت دهشتي لهذا التفسير، خاصة وأن صدام لم يعرف عنه التدين أو الالتزام بالإسلام، أوضح العم ألفريد فرج مقصده قائلاً "أنا لم أقل إنه حجب الجائزة عني لأنه مسلم بل لأنه عنصري، ولو كان مسلماً حقيقياً، لما كان عنصرياً، إنه مسخ وطاغية ودكتاتور"، وأردف قائلاً إنه يشكر الله أن أعفاه من حمل جائزة تحمل اسم شخص مثل صدام حسين .
لصوص ألفريد
في دار الأوبرا المصرية، وقبل نحو أربعة أعوام وأثناء الاحتفال ببلوغه السبعين، قال العم الفريد فرج إنه عندما يستعرض شريط حياته تصيبه الدهشة لأن الجماهير تتصور ان مانكتبه هو مغامرات غريبة لكن حياة الانسان هي اغرب من ابداعه من خيال ومن مسرحياته وهذه الحياة تصلح لان تكون رواية من روايات نجيب محفوظ .
وقال الفنان عادل امام في ملاحظة عن الفريد ككاتب بأن اللصوص في مسرح الفريد فرج اكثر نبلا وشفافية من لصوص هذه الايام وتساءل عادل هل كان الفريد يتصور ان المبالغ المسروقة في مسرح الفريد ستصبح الان بالملايين .
والفريد فرج الذي وافته المنية اليوم الأحد عن عمر يناهز الرابعة والسبعين، دخل عالم التأليف المسرحي من ابواب ثلاثة: التمثيل والموسيقى والقصة فقد فاز في حياته بالجائزة الاولى لمسابقة تيمور في القصة القصيرة، وقطع رحلة طويلة في الكتابة للمسرح، فقدم الكوميديا الاجتماعية في "عسكر وحرامية"، والمسرح السياسي في "سليمان الحلبي" وحاكى التراث في "الزير سالم"، و"على جناح التبريزي وتابعه قفة"، وكان أول عرض له على خشبة المسرح هو "سقوط فرعون".
ومن المقرر أن يتم نقل جثمان الفقيد الكبير لدفنه في مسقط رأسه بمحافظة الإسكندرية في مصر يوم غد الاثنين بعد الانتهاء من استخراج التصاريح وشهادة الوفاة من السلطات البريطانية .
ومن أبرز أعمال الراحل الكبير مسرحيات (حلاق بغداد)، و (على جناح التبريزي وتابعه قفة) ،(رسائل قاضي اشبيلية)، و (السندباد)، وغيرها العشرات المسرحيات التي تعد من العلامات البارزة في تاريخ المسرح المصري .
نبيل شرف الدين
http://elaph.com/elaphweb/Resources/images/ElaphLiterature/2005/12/thumbnails/T_a0ff9ba0-122c-40c6-a2f3-b0d9ca8315da.JPG
في إحدى مستشفيات لندن
في غرفة باردة بإحدى مستشفيات لندن وضع الكاتب المسرحي الكبير ألفريد فرج رأسه على وسادة منخفضة وطرية لا تروق له، وهو الذي يفضل الوسائد المرتفعة الصلبة، ومات، أو بالأحرى ارتاح من عذابات السرطان اللعين الذي هزمه، وهو الذي انتصر على قمع الحكومات المصرية، وسجون الاستئناف والقلعة والواحات وغيرها من السجون التي استضافته لا لجرم اقترفه سوى المسرح الجاد . قبل أن يسافر إلى العاصمة البريطانية في زيارته، كان قلبه موجعاً ومترعاً بأحزان هائلة على أبنائه وتلاميذه الذين قضوا بأبشع طريقة للموت في محرقة مسرح "بني سويف"، كان العم ألفريد فرج متأكداً أنه لن يعود إلى الإسكندرية التي يهيم ببحرها وهوائها وناسها ووسواسها وخناسها، كان يتحدث لمرافقيه القلائل وهم يودعونه فجر ذلك اليوم في مطار القاهرة عن أن "مصر تمر الآن بلحظة محنة"، ولكنها لن تموت، فهذا البلد اعتاد خوض المحن الواحدة تلو الأخرى، وفي كل مرة كان قادراً على النهوض بقوة .
كان مستمعوه ينصتون إليه في خشوع وحسرة بينما صوت قارئ قرآن الفجر يتلو "فلا أقسم بهذا البلد، وأنت حلُ بهذا البلد، ووالد وما ولد"، وكنت أمسك بيدي بآخر كتب الراحل "شارع عماد الدين"، وهو عبارة مرثية حزينة لزمن جميل ولى، كان العم ألفريد محظوظاً أن عاش جانباً من نهاياته . وبقدر ثقته في بقاء مصر ونهوضها، فقد كان ألفريد فرج واثقاً لأبعد حد ممكن بالمسرح، قائلاً في حوار أجريته معه رداً على سؤال عما إذا كان المسرح لم يزل قادراً على الصمود : "نعم المسرح سيصمد، قالوا هذا الكلام من قبل، قالوا إن السينما ستقضي على المسرح ولم يحدث، وقالوا إن التليفزيون سيقضي على المسرح ولم يحدث، الفنون لا تموت، والتنوع فى أشكال التقديم والعرض مطلوب، والمسرح استطاع أن يطور أدواته وأساليبه ويستفيد من التقدم العلمي، وبهذا فالمجال ما زال مفتوحا أمام المسرح للتنافس مع بقية الفنون، أنا لا أدعو لسيادة المسرح على أنواع الفنون الأخرى بل أدعو للتنوع والتنافس بينها" .
جائزة صدام
وفي مستشفى سانت تيريز بلندن استدعى ألفريد فرج تلك الأيام الخوالي التي كتب فيها رائعته "سليمان الحلبي" كصيحة من أجل الاستقلال و"حلاق بغداد" استشرافا لفكرة العدالة الاجتماعية، ثم "الزير سالم" كأنه كان يتنبأ بما حدث عندما غزا صدام حسين الكويت وانتزعه فرج من عمق المأثور الشعبي العربي عن حرب البسوس، وهنا أذكر أنني التقيته بعد مهرجان مسرحي كان قد دعي إليه في بغداد زمن صدام حسين، ولم يحصل على جائزة ذلك المهرجان، التي ذهبت إلى أحد النكرات ممن لا يستحقون حتى لقب تلميذ من تلاميذه، ولم يكن ألفريد منزعجاً، بل بدا راضياً وسعيداً، وحين استفسرت منه عن سر سعادته، قال ـ كأنه يقرأ الغيب ـ إن "هذه الجائزة ستصبح قريباً تهمة وسبة، عافانا الله منها"، وراح يحدثني بحميمية أب عن سبب عدم حصوله على الجائزة، قائلاً إن صدام وأعوانه عنصريون حتى النخاع، وبالتالي لن يمنحوا مسيحياً جائزة، ولما أبديت دهشتي لهذا التفسير، خاصة وأن صدام لم يعرف عنه التدين أو الالتزام بالإسلام، أوضح العم ألفريد فرج مقصده قائلاً "أنا لم أقل إنه حجب الجائزة عني لأنه مسلم بل لأنه عنصري، ولو كان مسلماً حقيقياً، لما كان عنصرياً، إنه مسخ وطاغية ودكتاتور"، وأردف قائلاً إنه يشكر الله أن أعفاه من حمل جائزة تحمل اسم شخص مثل صدام حسين .
لصوص ألفريد
في دار الأوبرا المصرية، وقبل نحو أربعة أعوام وأثناء الاحتفال ببلوغه السبعين، قال العم الفريد فرج إنه عندما يستعرض شريط حياته تصيبه الدهشة لأن الجماهير تتصور ان مانكتبه هو مغامرات غريبة لكن حياة الانسان هي اغرب من ابداعه من خيال ومن مسرحياته وهذه الحياة تصلح لان تكون رواية من روايات نجيب محفوظ .
وقال الفنان عادل امام في ملاحظة عن الفريد ككاتب بأن اللصوص في مسرح الفريد فرج اكثر نبلا وشفافية من لصوص هذه الايام وتساءل عادل هل كان الفريد يتصور ان المبالغ المسروقة في مسرح الفريد ستصبح الان بالملايين .
والفريد فرج الذي وافته المنية اليوم الأحد عن عمر يناهز الرابعة والسبعين، دخل عالم التأليف المسرحي من ابواب ثلاثة: التمثيل والموسيقى والقصة فقد فاز في حياته بالجائزة الاولى لمسابقة تيمور في القصة القصيرة، وقطع رحلة طويلة في الكتابة للمسرح، فقدم الكوميديا الاجتماعية في "عسكر وحرامية"، والمسرح السياسي في "سليمان الحلبي" وحاكى التراث في "الزير سالم"، و"على جناح التبريزي وتابعه قفة"، وكان أول عرض له على خشبة المسرح هو "سقوط فرعون".
ومن المقرر أن يتم نقل جثمان الفقيد الكبير لدفنه في مسقط رأسه بمحافظة الإسكندرية في مصر يوم غد الاثنين بعد الانتهاء من استخراج التصاريح وشهادة الوفاة من السلطات البريطانية .
ومن أبرز أعمال الراحل الكبير مسرحيات (حلاق بغداد)، و (على جناح التبريزي وتابعه قفة) ،(رسائل قاضي اشبيلية)، و (السندباد)، وغيرها العشرات المسرحيات التي تعد من العلامات البارزة في تاريخ المسرح المصري .