المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أين مصر بعد 200 عام على عصر محمد علي؟



سمير
11-28-2005, 03:59 PM
من زمن الأحلام إلى راهن النكسات


القاهرة: سوسن بشير


اتفق المؤرخون على منجزات محمد علي الكبير التي أرست دعائم الدولة المصرية الحديثة، وأدخلتها طور المدنية المؤسسية. ومرور مائتي عام على عصر محمد علي، يبدو مناسبة ملائمة للغاية لوقفة طويلة، لا لفهم القاعدة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية أيضاً التي قامت عليها تلك المدنية فحسب، وإنما لتتبع النتائج التي كان يجب أن تؤدي إليها تلك المقدمات الباهرة، ومكاشفة النفس بالحقيقة المرة؛ وهو أن ضياع النتائج المرجوة يكون منافياً للمنطق، ونحن للأسف نعيش في عالم اللامنطق.

أقام المجلس الأعلى المصري للثقافة ندوة موسعة بمناسبة المئوية الثانية لتولي محمد علي حكم مصر (1805ـ 2005) استمرت ثلاثة أيام، من 12 إلى 14 نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري، ثم انطلقت الندوة لمكتبة الإسكندرية بعد ذلك لمتابعة فعالياتها هناك. وقد اشترك باحثون ومؤرخون كبار، مصريون وعرب وأجانب، بأبحاث ثرية شرحت تلك الفترة تشريحاً.

كما صدرت عن المجلس عدة مؤلفات منها «الأصول الاجتماعية للسياسة التوسعية لمصر في عهد محمد علي» للأميركي فرد لوسون، وصدرت مؤلفات أخرى عن دار الكتب والوثائق القومية منها «محمد علي وعصره» لعدة مؤلفين وتصدير د. محمد صابر عرب، وكنا نود أن يقدم المؤتمر نقداً للحالة المصرية الراهنة في المجالات التي أنجزها محمد علي، وليس فقط تشريحاً لعصره.

والمؤتمر وما نتج عنه من أوراق وكتب يعد بحق درساً حقيقياً عن حقبة محمد علي، كيف بدأت، وكيف كانت سياسة الرجل في الوصول للحكم عبر ممالأة كل من العثمانيين والمماليك، واللعب بهؤلاء على هؤلاء، من أجل إضعاف الجميع والتخلص منهم، حتى لو كان عبر الإبقاء على سلطتهم الصورية لوقت، مع الالتفات إلى أن كلاً من العثمانيين والمماليك لم يكن يهتم لصالح شعب مصر على الإطلاق، بل أجهدوه سحقاً وقهراً وسرقة لقوته مع الطغيان بالضرائب غير المبررة، وهذا وحده يدعونا للمقارنة بين هذا السلوك وما تفعله الحكومات المصرية المتعاقبة منذ عقود، وتكون النتيجة هي التطابق!

لكن محمد علي سليل الألبانيين، المولود في «قولة» قرب مقدونيا، جاء بعد فترة انتقالية من وعي ووجدان الشعب المصري، الذي كان قد اختبر قواه الوطنية ضد الفرنسيين وطفح به الكيل من صراعات العثمانيين والمماليك على الحكم، ونشط به زعماء من العلماء والمشايخ لجأ إليهم أفراد الشعب وأسلموهم أمرهم وأصواتهم، كان منهم عمر مكرم ومحمد السادات وعبد الله الشرقاوي الذي كان شيخاً للأزهر وغيرهم.

في تلك الفترة التي لم يكن الكفاح الوطني فيها منفصلاً عن الدين بل كان ملازماً ملاصقاً له، وبرغم مرور أكثر من مائتي عام، انفصل فيها الكفاح الوطني عن الدين في مصر، ونشطت خلالها أحزاب تاريخية كالوفد، عادت اليوم كما توضح انتخابات مجلس الشعب الأخيرة إلى هذا المزج بين الديني والوطني، حيث لم تترك السلطة للشعب متنفساً آخر يعبر به عن نفسه. ثار الشعب المصري ضد الظلم، يترأسه زعماؤه الشيوخ، الذين رأوا في محمد علي طوق النجاة الأكيد، وتبعوا مقولة عمر مكرم بأن أولي الأمر هم العلماء وحملة الشريعة، وأن على أهل البلاد أن يعزلوا الوالي الظالم. وكان محمد علي من الذكاء بحيث حصل على التأييد الشعبي، وانتصر عسكرياً داخل مصر على المماليك والعثمانيين في آن، مما دفع بالسلطان العثماني إلى قبوله والياً على مصر، ليحكم بإرادة الشعب والسلطان معاً، ويستفيد بعد ذلك من النظم الإدارية الفرنسية التي عرفها المصريون أثناء الحملة الفرنسية.

ومما لا شك فيه أن محمد علي هو باني مصر الحديثة، بكل ما تحمله كلمة «البناء» من معنى، فقد أصلح نظام حيازة الأراضي الزراعية، وأعاد توزيعها على الفلاحين بمساحات تتناسب مع سكان كل قرية وعدد كل أسرة. ووسع من الرقعة الزراعية عبر منح الأراضي البور للأفراد لاستصلاحها، وساعدهم بمشروعات ري جديدة. وأدخل زراعة القطن طويل التيلة إلى مصر منذ عام 1821، أما اليوم فتعاني مصر من بوار الأراضي الزراعية، والفشل في استصلاح الصحراء بسبب بؤس مشروعات الري، أما القطن طويل التيلة فاختفى أمام قصير التيلة، ويمكن معرفة السبب عبر اتفاقات الزراعة المشتركة مع «بعض دول المنطقة».

وأولى محمد علي اهتمامه لفوضى النقد، فحدد وحدة النقد المصري بالريال الفضي الذي يزن 12 قيراطاً، والريال الذهبي الذي وزن 7.732 قيراط، لتصبح العلاقة بين الريالين هي ذاتها بين العملة الفضية والذهبية الفرنسية، وأعتقد أننا لا نستطيع مقارنة ذلك بقيمة الجنيه المصري اليوم.

والحديث عن الصناعة يطول في عهد محمد علي، حيث أنشأ المصانع الحربية، ومصانع نسيج القطن والحرير والصوف وغيرها، وأرسى صناعة المعادن والصابون والسكر، وكذلك الزجاج والورق، ويمكننا أن نعدد الخامات إلى ما لا نهاية ثم نتساءل أين هي تلك الصناعات الآن؟ ولماذا تحمل تلك المنتجات من حولنا اليوم عبارة «صنع في الصين»!

وقد تزامن المشروع الصناعي لمحمد علي مع المشروع التعليمي، حيث أقام نظام التعليم الموازي للتعليم الديني الأزهر، فعرفت مصر لأول مرة تعليماً مدنياً، فأنشأ محمد علي مدارس الطب والهندسة والألسن والزراعة والطب البيطري، وانتشرت المدارس الابتدائية في بعض محافظات مصر، أما اليوم فقد انتشرت في مصر موضة المدارس المدنية الدينية في آن!

وأرسل محمد علي البعثات العلمية إلى الغرب، وكانت أولاها إلى إيطاليا في عام 1809، وبعد ذلك إلى فرنسا التي شهدت عدداً كبيراً من البعثات بين عامي 1826 و 1828، ثم تنوعت البعثات إلى إنجلترا والنمسا. ولا يزال نظام البعثات مستمراً، لكن آخر إحصاءات البعثات المصرية تؤكد ـ كما نشرت إحدى الجرائد الرسمية المصرية ـ أن أكثر من 50% من المبعوثين لا يعودون لمصر، لأنهم لا يقنعون بالدور الذي سيقومون به في بلادهم مع شح الإمكانات المتاحة لهم للإبداع في مجالات تخصصهم.

واقتنع محمد علي بأهمية الترجمة والطباعة والنشر في مشروعه النهضوي، حيث كانت الحاجة ملحة لنقل العلوم والفنون إلى اللغات العربية والتركية، وكان الهدف الأساس من حركة الترجمة تدريس المواد المترجمة لطلاب المدارس ـ ثم تطورت الفكرة إلى إنشاء مدرسة الألسن ـ ودعت الحاجة لإنشاء مطبعة بولاق التي بدأت في مباشرة أعمالها عام 1822، والتي بدأت أساساً لتزويد المدارس بالكتب. ولا يمكن لأي مشاهد يتجول بين قنوات التلفزيون المصري اليوم المحلية والفضائية، وأي قارئ لجريدة مصرية، إلا أن يلاحظ كم الشكاوى الموجهة إلى نظام التعليم المصري، تحديداً الابتدائي منه، ذاك المحتضن لقيم تدعو للانغلاق بدلاً من الانفتاح على العالم.

أما الحقل الأساسي لاهتمامات محمد علي فكان الجيش بالطبع. وربما يكون صرحه النهضوي بكامله قد بني من أجله، ومن أجل طموحات شخصية امبراطورية، حيث ارتبطت بالجيش مؤسسات أخرى لازمة له، منها المدارس والمستشفيات والمصانع. وكما كان هذا الجيش فرصة المصريين للتجنيد وحمل السلاح، فقد حرم الفلاحين من زراعة أراضيهم وفقدت أسرهم عائلها الأساسي، واجتاحها العوز، لكن المؤكد أن الجيش كان دعامة محمد علي لإقامة حكمه الأسري في مصر، ليستمر من بعده.

لكن الكلمات الأخيرة التي لابد من ذكرها، هي أن هذا الصرح قد شُيد بتعبئة قوة العمل عن طريق سخرة المصريين، وديكتاتورية محمد علي المطلقة، ونظام الاحتكار الذي تحكم عبره في حوالي 95% من تجارة الصادرات، كما تخلص محمد علي ممن عارضوه وممن وقفوا إلى جواره معاً، لكي لا ينازعه أحد في الحكم. وأصبحت الطبقة العليا في مصر هي أسرة محمد علي وكبار موظفيه وعسكرييه، الذين كانوا أتراكاً وشراكسة وأرمن. وكأن قدر المصريين أن يعانوا دائماً، ويكون اختيارهم بين اثنين، قهراً مع منجزات أو بدون، ويا له من اختيار كريه