مرتاح
11-27-2005, 04:50 PM
جابر حبيب جابر
الانسان العراقي بطبيعته غير مرتحل، ففي الوقت الذي نجد فيه مهاجرين في دول العالم من بلاد الشام ومصر، انتظموا في هجرات مبكرة سبقت بداية القرن الماضي، حتى بات هناك باب من الادب يعرف بالمهجري، فضلاً عن وصول الجيل الثاني من أبناء هؤلاء المهاجرين الى المواقع السياسية البارزة في عدد من دول العالم، وذلك بلا شك لا يتأتى إلا لمن امتلك جذورا ضاربة العمق في مجتمعاته الجديدة واندمج معها، في حين ان العراقي، وبسبب من الغنى النسبي لبلده، او لتردده، او عدم اضطراره لاقتحام المجهول، ظل بعيدا عن تلك الهجرات، كون العراقي، وكما أسلفت، بطبيعته انسان غير مرتحل، وأدلل على ذلك بمثال مدينة بغداد التي يفصلها الى جانبين: الكرخ والرصافة، نهر دجلة، فساكن الرصافة لا يستطيع ان يسكن الكرخ والعكس كذلك، وحتى لو اضطر الى السكن فإنه يظل يحن الى الصوب الآخر الذي لا يفصله عنه الا مئات الامتار، حنين الناقة، بل حتى الذين تركوا مدنهم ورحلوا الى بغداد، فإنهم يسكنون غالبا بقرب طرق مدنهم الام، لما يشعرهم ذلك بالاطمئنان النفسي.
فما الذي دعا هذا الانسان الملتصق بأرضه ان يتركها ويذهب الى مدن الصقيع والمنافي النائية؟ ما الذي جعلهم يركبون البحر وهم في موروثهم ألفوا اليابسة وخافوا من ركوب الماء، واضعين أنفسهم وأحبتهم تحت رحمة مهربي البحر والسفن البالية، اي عصاب سكن العراقي وأي قوى طاردة وراءه دفعته ان يضع اطفاله ويبحر بهم عباب المحيط بمراكب متهاوية، اي آمال كانت تتنازع تلك الام التي حضرها الطلق وهي تصارع امواج الغرق يتبعها جنينها الذي ارتبط بها بحبل الموت بدل حبل الحياة؟
إنها «الرسالة الخالدة» التي شردت من العراقيين ما لم تفعله الاوبئة والطواعين، انها كارثة نوفمبر 2001 التي نستذكرها هذه الايام التي تواطأ الجميع عليها آنذاك بالصمت، والتي غرق فيها ما يقارب الثلاثمائة وخمسون عراقيا عندما انشطرت بهم العبارة الاندونيسية قبالة الشواطئ الاسترالية، هذه المأساة التي لم يشر اليها النظام السابق بكلمة في وسائل إعلامه، بل يقينا انه كان فرحا بالمصير الذي لاقاه «المرتدون» الجاحدون بجنته، وهو نفس النعت الذي استعاره اليوم التكفيريون لوصف من ساندوا او هادنوا التغيير.
ان الاغتراب العراقي في بداياته، لم يظل مختلفا فحسب عن مثيلاته، بل ايضا في دوافعه، حيث انه في التجارب الاخرى غالبا ما تكون مسبباته ودوافعه اقتصادية، في حين ان موجات الهجرة والنفي عندنا ترافقت مع مجيء البعث الى السلطة، والتي كانت قبل تسلمه لها لا تعدو عشرات الآلاف. وتشير احصاءات وزارة التخطيط لعام 1967 الى ان عدد المهاجرين العراقيين أكثر قليلا من ثمانين ألفا، نصفهم في الكويت ونصفهم الآخر في باقي دول العالم وانتهت في نهاية حكمه ببضعة ملايين، تراوحت واتفقت دوافعها ما بين القمع والتقتيل والإقصاء الى الحروب العبثية التي خاضها النظام، الى الإفقار والإذلال الاقتصادي.
بل ان التهجير بدأ داخليا قبل ان يصبح فضاؤه الاقليم وانتشر بعد ذلك ليعم الكوكب المأهول، فقد كان النزوح الجماعي لأبناء الجنوب نتيجة الافقار والإهمال الذي طال مدنهم، وآخرها القضاء على طبيعة اهوارهم التي عاشوا عليها لآلاف السنين، سكنوا عند هجرتهم حول المدن في عشوائيات وفي بيوت الصفيح متعرضين للقمع والقهر والتمييز، عاكسها تهجير قسري للأكراد من مناطقهم الجبلية الى الصحارى البعيدة بغية كسر شوكة تمردهم، وعملا على تغيير ديموغرافية مناطقهم. وسبق ذلك ورافقه التهجير المتعاقب لمكون اجتماعي آخر لدوافع طائفية وعرقية، ذلك الذي طال الكرد الفيليين، فصودرت أموالهم ونزعت املاكهم وتم إلقاؤهم على الحدود فكان بعضهم من حصة حقول الالغام، في الوقت نفسه تمّ نزع أولادهم منهم وأرسلوا الى المعتقلات ليكونوا من حصة تجارب أسلحة الدمار الشامل، أو سكنوا المقابر الجماعية.
ولهذا توزع العراقيون ما بين اغتراب الوطن واغتراب المنافي. ففي الداخل يجد الكاتب والأديب والمبدع الذي فضل البقاء، نفسه امام خيارين، اذا كتب بما قد يفسر تأويلا بما لا يرضي الحاكم، فانه يكون كمن كتب وصية موته، اما اذا آثر السكوت وركن اليه، فيكون قد كتب وصية موته الابداعي، اما من سكنوا المنافي فقد تلقفتهم الغربة بعذاباتها التي وصفها الشاعر كاظم الحجاج قائلا:
«حتى المرايا هناك
تزيف وجهك انت،
في الصبح تحلق لحية غيرك
وتمشط شعر سواك»
لم تستطع مدن الرفاه ان تستبدلهم وطنا ظلوا جميعا مشدودين بحبله، أعانوا أرحامهم في البقاء على الحياة في زمن الحصارات والبطالة والسفه في هدر الثروات، عندما كنا نتذاكر اثناء النزع الاخير للنظام السابق غير مخفين لقلقنا على بلدنا في قدرته في ان ينتقل من ارث الدكتاتورية والإقصاء الى الديمقراطية، كنا نعول على من هاجروا وسكنوا المنافي الديمقراطية، وبأنهم سيعودون بتجاربهم وثقافتهم، ويكونون عنصر التنوير فينا، ولكن حال العنف والخراب دون ذلك، وأبت قوى الظلام ان تترك هذا الشعب لخياراته وأمانيه المتواضعة في ان يعيش كسائر خلق الله.
الانسان العراقي بطبيعته غير مرتحل، ففي الوقت الذي نجد فيه مهاجرين في دول العالم من بلاد الشام ومصر، انتظموا في هجرات مبكرة سبقت بداية القرن الماضي، حتى بات هناك باب من الادب يعرف بالمهجري، فضلاً عن وصول الجيل الثاني من أبناء هؤلاء المهاجرين الى المواقع السياسية البارزة في عدد من دول العالم، وذلك بلا شك لا يتأتى إلا لمن امتلك جذورا ضاربة العمق في مجتمعاته الجديدة واندمج معها، في حين ان العراقي، وبسبب من الغنى النسبي لبلده، او لتردده، او عدم اضطراره لاقتحام المجهول، ظل بعيدا عن تلك الهجرات، كون العراقي، وكما أسلفت، بطبيعته انسان غير مرتحل، وأدلل على ذلك بمثال مدينة بغداد التي يفصلها الى جانبين: الكرخ والرصافة، نهر دجلة، فساكن الرصافة لا يستطيع ان يسكن الكرخ والعكس كذلك، وحتى لو اضطر الى السكن فإنه يظل يحن الى الصوب الآخر الذي لا يفصله عنه الا مئات الامتار، حنين الناقة، بل حتى الذين تركوا مدنهم ورحلوا الى بغداد، فإنهم يسكنون غالبا بقرب طرق مدنهم الام، لما يشعرهم ذلك بالاطمئنان النفسي.
فما الذي دعا هذا الانسان الملتصق بأرضه ان يتركها ويذهب الى مدن الصقيع والمنافي النائية؟ ما الذي جعلهم يركبون البحر وهم في موروثهم ألفوا اليابسة وخافوا من ركوب الماء، واضعين أنفسهم وأحبتهم تحت رحمة مهربي البحر والسفن البالية، اي عصاب سكن العراقي وأي قوى طاردة وراءه دفعته ان يضع اطفاله ويبحر بهم عباب المحيط بمراكب متهاوية، اي آمال كانت تتنازع تلك الام التي حضرها الطلق وهي تصارع امواج الغرق يتبعها جنينها الذي ارتبط بها بحبل الموت بدل حبل الحياة؟
إنها «الرسالة الخالدة» التي شردت من العراقيين ما لم تفعله الاوبئة والطواعين، انها كارثة نوفمبر 2001 التي نستذكرها هذه الايام التي تواطأ الجميع عليها آنذاك بالصمت، والتي غرق فيها ما يقارب الثلاثمائة وخمسون عراقيا عندما انشطرت بهم العبارة الاندونيسية قبالة الشواطئ الاسترالية، هذه المأساة التي لم يشر اليها النظام السابق بكلمة في وسائل إعلامه، بل يقينا انه كان فرحا بالمصير الذي لاقاه «المرتدون» الجاحدون بجنته، وهو نفس النعت الذي استعاره اليوم التكفيريون لوصف من ساندوا او هادنوا التغيير.
ان الاغتراب العراقي في بداياته، لم يظل مختلفا فحسب عن مثيلاته، بل ايضا في دوافعه، حيث انه في التجارب الاخرى غالبا ما تكون مسبباته ودوافعه اقتصادية، في حين ان موجات الهجرة والنفي عندنا ترافقت مع مجيء البعث الى السلطة، والتي كانت قبل تسلمه لها لا تعدو عشرات الآلاف. وتشير احصاءات وزارة التخطيط لعام 1967 الى ان عدد المهاجرين العراقيين أكثر قليلا من ثمانين ألفا، نصفهم في الكويت ونصفهم الآخر في باقي دول العالم وانتهت في نهاية حكمه ببضعة ملايين، تراوحت واتفقت دوافعها ما بين القمع والتقتيل والإقصاء الى الحروب العبثية التي خاضها النظام، الى الإفقار والإذلال الاقتصادي.
بل ان التهجير بدأ داخليا قبل ان يصبح فضاؤه الاقليم وانتشر بعد ذلك ليعم الكوكب المأهول، فقد كان النزوح الجماعي لأبناء الجنوب نتيجة الافقار والإهمال الذي طال مدنهم، وآخرها القضاء على طبيعة اهوارهم التي عاشوا عليها لآلاف السنين، سكنوا عند هجرتهم حول المدن في عشوائيات وفي بيوت الصفيح متعرضين للقمع والقهر والتمييز، عاكسها تهجير قسري للأكراد من مناطقهم الجبلية الى الصحارى البعيدة بغية كسر شوكة تمردهم، وعملا على تغيير ديموغرافية مناطقهم. وسبق ذلك ورافقه التهجير المتعاقب لمكون اجتماعي آخر لدوافع طائفية وعرقية، ذلك الذي طال الكرد الفيليين، فصودرت أموالهم ونزعت املاكهم وتم إلقاؤهم على الحدود فكان بعضهم من حصة حقول الالغام، في الوقت نفسه تمّ نزع أولادهم منهم وأرسلوا الى المعتقلات ليكونوا من حصة تجارب أسلحة الدمار الشامل، أو سكنوا المقابر الجماعية.
ولهذا توزع العراقيون ما بين اغتراب الوطن واغتراب المنافي. ففي الداخل يجد الكاتب والأديب والمبدع الذي فضل البقاء، نفسه امام خيارين، اذا كتب بما قد يفسر تأويلا بما لا يرضي الحاكم، فانه يكون كمن كتب وصية موته، اما اذا آثر السكوت وركن اليه، فيكون قد كتب وصية موته الابداعي، اما من سكنوا المنافي فقد تلقفتهم الغربة بعذاباتها التي وصفها الشاعر كاظم الحجاج قائلا:
«حتى المرايا هناك
تزيف وجهك انت،
في الصبح تحلق لحية غيرك
وتمشط شعر سواك»
لم تستطع مدن الرفاه ان تستبدلهم وطنا ظلوا جميعا مشدودين بحبله، أعانوا أرحامهم في البقاء على الحياة في زمن الحصارات والبطالة والسفه في هدر الثروات، عندما كنا نتذاكر اثناء النزع الاخير للنظام السابق غير مخفين لقلقنا على بلدنا في قدرته في ان ينتقل من ارث الدكتاتورية والإقصاء الى الديمقراطية، كنا نعول على من هاجروا وسكنوا المنافي الديمقراطية، وبأنهم سيعودون بتجاربهم وثقافتهم، ويكونون عنصر التنوير فينا، ولكن حال العنف والخراب دون ذلك، وأبت قوى الظلام ان تترك هذا الشعب لخياراته وأمانيه المتواضعة في ان يعيش كسائر خلق الله.