المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الاستخفاف بحياة الموتى



مجاهدون
11-24-2005, 04:06 PM
خالد القشطيني

عندما جئت لبريطانيا كنت أمر بشتى المقابر المحترمة، وبمرور الزمن اخذت تختفي وتحل محلها عمارات شاهقة. قلت لنفسي، ماذا حدث؟ هل بعث الموتى من قبورهم وبنوا هذه العمارات سكنا لهم؟

لدى الاستفسار تبين ان حكومة مرغريت ثاتشر التي انهمكت في عمليات الخصخصة وتصفية الممتلكات الحكومية، رأت ان من الافضل للبلديات ان تبيع ما تمتلكه من مقابر وتتخلص من مسؤولياتها ونفقات المحافظة عليها، بادرت بلدية وستمنستر الى تنفيذ نصيحتها فباعت ثلاث مقابر بكامل موتاها من صغار وكبار، ورجال ونساء الى احد المتعهدين بمبلغ جنيه واحد فقط، لقد سمعت الكثير عن بلديات تستخف بحياة المواطنين، ولكن هذه اول مرة سمعت بمثل هذا الاستخفاف بحياة الموتى. اين اذن الحقوق الديمقراطية التي يتشدق بها الغرب؟ وهل ان وثيقة حقوق الانسان عندهم لا تشمل الموتى، وهذا هو الفرق الكبير بيننا وبينهم، فهم يحترمون حقوق الانسان من الاحياء ويتجاهلون حقوق الموتى. ونحن نحترم حقوق الانسان من الموتى، نحترم كل ما قالوه وفعلوه ونتجاهل حقوق الانسان لأحيائنا.

فهذه بلدية وستمنستر باعت ثلاث مقابر من دون ان تجري اي استفتاء لساكنيها او تعطيهم حق تقرير المصير.

وأسوأ من كل ذلك ان الصحافة البريطانية قد كشفت عن تلاعب مخجل بمصير هذه المقابر، فالشركة التي اشترتها بجنيه واحد قسمتها الى اراض عقارية باعتها لتشييد الدور والعمارات وباعتها بمبلغ مليون جنيه استرليني، وهذه في رأيي أسوأ حالة من حالات الخصخصة.

اتذكر ان احد النواب في البرلمان طالب باعادة الجنيه للشركة واستعادة هذه القبور منها.

حدث لصديق لي ان دعا والده لزيارته في لندن، بذل جهودا ونقودا كثيرة حتى استطاع المجيء بوالده الى بريطانيا. الظاهر ان البوليس البريطاني اشتبه في أنه ارهابي، ولكن الشيخ الوقور قضى يومين في لندن، ثم قال لابنه، يا ولدي رتب عودتي الى بلدي! ليه يا بابا؟ فأجابه الوالد: انا يا ابني في الثمانين من عمري، اخشى ان اموت هنا وتدفنوني في هذه الارض. لا يا ابني رجعني لبلدي. اموت واندفن هناك.

وانا طبعا افهم موقفه. فهذه البلاد الاجنبية تصلح لمن يريد ان يعيش ويتمتع بالحياة. من يريد ان يموت ويتمتع بالموت، بلادنا افضل، بالفعل رجع الرجل الى بلده مصر، وتوفي بعد اشهر. وهناك الآن قبره معزز ومحترم ولا تجرؤ البلدية على بيعه بحجة الخصخصة.

ولكن ما زالت هناك مقابر تحتل اماكن استراتيجية في لندن، مثل مقبرة هاي غيت الشهيرة. السر في بقائها حتى الآن هو ليس احترام ساكنيها او ذوي ساكنيها. انها مسألة المضاربة بالاسعار، فأصحابها يعرفون ان ثمن ارض كل قبر فيها يرتفع يوميا بمعدل مائة جنيه. انهم ينتظرون حتى تبلغ قيمة القبور الارتفاع الذي يبرر بيعها فيتخلصون منها.