فاتن
11-13-2005, 08:41 PM
د. نجم عبد الكريم
(3/1)
المتتبع لحياة هذ الرجل، سيكتشف تلك الإرادة الأسطورية، التي قلَّ أن نجدها عند سواه!! فقد وُجدت سطور له، كتبها فوق ورقة ألصقت بكتاب (النفس): "إني قرأت هذا الكتاب مئة مرة". وكان ينطق بعدة لغات حتى بولغ بعددها من قبل الذين أرَّخوا لحياته، ولما دخل بغداد سعى إلى أبي بشر بن قتّى بن يونس الحكيم الشهير، فلازمه إلى أن أتقن عنه علم المنطق، ثم رحل إلى حرَّان، حيث لازم يوحنا بن حيلان الحكيم النصراني، فأخذ عنه ما يمكنه من إتقان علم المنطق. ولما عاد إلى بغداد، انقطع عاكفاً على كتب الفلسفة، حتى أصبح من أكثر الناس فهماً لشرح أرسطو.. ولا حرج بالحديث عن إقباله على العلوم الرياضية، وعلوم الحكمة والفلسفة، كما أنه لم يهمل الطب. وقد أتقن اللغة اليونانية، مما جعله متفرداً في استيعابها هذا إلى جانب معرفته باللغة الفارسية، وكذلك العربية، والتركية.
وقبل أن نلج للبحث في حياة الفارابي، نبدأ بدعائه الذي يفصح به عن مكنونات نفسه حيث يقول: "اللهم ألبسني حلل البهاء، وكرامات الأنبياء، وعلوم الحكماء، وخشوع الأتقياء، اللهم أنقذني من عالم الشقاء، واجعلني من إخوان الوفاء، وسكان السماء، مع الصديقين والشهداء.. اللهم أنت الذي لا إله إلا أنت علة الأشياء، ونور الأرض والسماء، اللهم امنحني فيضاً من العقل الفعال، ياذا الجلال والأفضال، اللهم هذب نفسي بأنوار الحكمة، وأوزعني شكر ما أوليتني به من نعمة".
تعريف
والفارابي الشهير بـ "المعلم الثاني" كُني بـ "أبي نصر" مع أنه قد جرت العادة أن يكنى المرء باسم ابنه الأكبر، والمشهور من سيرة الفارابي أنه لم يتزوج، ولم ينجب أولاداً. وأما السبب في تلقيبه بالمعلم الثاني، فهو أن المؤرخ حاجي خليفة يذهب إلى أن الفارابي قام بترجمة أعمال أرسطو الذي كان يلقب بالمعلم الأول.. وبما أن الفارابي اعتبر من أوائل الشُرّاح لآراء أرسطو، فقد أطلق عليه لقب المعلم الثاني.
وقد اختلف المؤرخون في سلسلة نسب الفارابي، فقد ذهب البيهقي إلى أن الفارابي هو محمد بن محمد بن طرخان، ووافقه ابن النديم على ذلك، أما أحمد الأندلسي، فقال: إنه محمد بن محمد بن نصر.. ومعظم الذين ترجموا للفارابي يذهبون إلى أنه تركي الأصل.. لكن ابن أبي أصيبعة ذكر أن والد الفارابي كان قائداً للجيش الفارسي.. ولا نكاد نعرف شيئاً يقينياً عن طفولته الأولى، وما وصل إلينا من سيرته هو أنه عكف بعد أن وصل سن البلوغ على دراسة مواد العلوم الرياضية والآداب والفلسفة واللغات، وخاصة التركية والفارسية واليونانية والعربية.. وقد بولغ بعدد لغات أخرى كثيرة قيل إنه يجيدها قراءة ونطقاً وكتابة.
معطياته
وما يعنينا من تناول هؤلاء العباقرة هو الوقوف على معطياتهم التي أثرت الفكر الإنساني، وساهمت بفعالية في جعل المعرفة تصل بالحضارة الإنسانية إلى ما هي عليه الآن. لا أحد يذكر متى بدأ الفارابي بتأليف كتاب (آراء أهل المدينة الفاضلة)، ولكن صاحب كتاب عيون الأخبار (ابن أبي أصيبعة) ذكر: "إن الفارابي قد ابتدأ في بغداد بتأليف كتاب المدينة الفاضلة، والمدينة الجاهلة، والمدينة الفاسقة، والمدينة المبدِّلة، والمدينة الضالة". وهذه أقسام للمدينة التي ذكرها الفارابي في فقرة من فقرات كتابه حيث جعل عنوانها: "القول في مضادات المدينة الفاضلة".
قصد الفارابي من كتابه هذا إلى تكوين مجتمع فاضل من نوع تلك المجتمعات التي فكر فيها من قبله طائفة من فلاسفة اليونان - مثل (جمهورية أفلاطون) و(نبشاي إفهيمير) و(مدينة الشمس) لـ (كامبا نيلا) - وقد أراد الفارابي أن ينشئ مدينته وفقاً للمبادئ الرئيسية التي تقوم عليها فلسفته وآراؤه في السعادة والكون والأخلاق.
وقد وقف الفارابي في فاتحة البحث عند الموجود الأول وهو الله جل وتبارك، وأظهر طائفة من صفاته سبحانه فقال: "القول في الموجود الأول، القول في نفي الشريك عنه تعالى، ونفى الضد عنه، ونفي الحد عنه سبحانه وأن وحدته عين ذاته، وأنه تعالى عالم وحكيم، وأنه حق وحيّ وحياة.. والقول في عظمته وجلال مجده وصدور جميع الموجودات عنه، ثم القول في مراتب هذه الموجودات الروحية والمادية، وحالات كل طائفة منها، وصلتها بالله تعالى.. وصلتها بعضها ببعض.. وما إلى ذلك". ثم يأتي على الموجودات الثواني، وكيفية صدور الكثير عن الواحد في الموجودات والأجسام التي لدينا. ويسترسل الفارابي في شرح بيان ما تعطيه الطبيعة للإنسان، ولأنه قد كرَّس كل حياته للتأليف والبحث والكتابة في الفلسفة والمنطق والعلوم الإنسانية كالطب والتشريح والصيدلة، إلى جانب ثروة لغوية مكنته من الإقبال على الدراسات الإسلامية، فألمّ بالفقه والحديث والتفسير إضافة إلى العلوم الاجتماعية، لذا نجده قد خصّ الجانب الاجتماعي من كتاب (آراء أهل المدينة الفاضلة) باهتمام كبير لكي يناظر جمهورية أفلاطون مع مراعاة فروق يسيرة عمد الفيلسوف إلى إحداثها ليميز مدينته الفاضلة التي يسعى إلى إنشائها في إطار إسلامي.
ومما قاله في هذا القسم:
"إن الإنسان اجتماعي بطبعه من جهته، ومضطر إلى هذا الاجتماع اضطراراً لسد حاجاته من جهة أخرى، وإنه من أجل ذلك نشأت الجماعات الإنسانية".
ويقسم الفارابي الجماعات إلى قسمين:
- مجتمعات كاملة:
وهي ما يتحقق فيها التعاون الاجتماعي بوجه كامل، لتحقيق سعادة الأفراد.
- مجتمعات ناقصة:
وهي مالا يتحقق فيها هذا التعاون الكامل، ولا تستطيع أن تكفي نفسها بنفسها... ويقسم الفارابي المجتمعات الكاملة إلى ثلاث مراتب، فأرقاها مرتبة: اجتماع العالم كله في دولة واحدة، وتحت سيطرة حكومة واحدة. وأقل منها كمالاً: أمة في جزء من المعمورة تحت سيطرة حكومة مستقلة. - وأقلها جميعاً في الكمال:
اجتماع أهل مدينة في جزء من الأمة تحت سلطة رئيس.
كما صنف المجتمعات الناقصة إلى ثلاث مراتب:
أدناها:
اجتماع أهل القرية، واجتماع أهل المحلة، واجتماع أهل السكة، ثم اجتماع أفراد أسرة في منزل.
ويقسم الفارابي في مدينته الفاضلة المجتمعات إلى: عظمى، ووسطى، وصغرى.
ويرى أن أفراد المدينة لا تتحقق لهم السعادة، ولا تصبح مدينتهم فاضلة، إلا إذا ساروا على غرار رئيسهم، وأصبحوا صورة منه، وأن الرئيس لا يعدو مؤدياً رسالته إلا إذا وصل بهم إلى هذا المستوى الرفيع من القيادة.
والذي لا شك فيه أن للفارابي العديد من المؤلفات، ولكن لم يصل إلينا منها إلا أربعين رسالة، منها اثنتان وثلاثون كتبت في أصلها العربي، وست رسائل وصلت إلينا مترجمة إلى العبرية، ورسالتان ترجمتا إلى اللاتينية.. هذا ما ذكره كارل بروكلمان في تاريخ الأدب العربي.
وفكرة المدينة الفاضلة أو الـ (يوتوبيا) قد راودت الكثيرين من أولئك العباقرة ممن يتمتعون بحس أخلاقي رفيع المستوى أمثال الروماني شيشرون، والقديس أوغسطين في كتابة (مدينة الرب)، ودانتي في رسالته الملكية، والسير توماس مور في الـ (يوتوبيا)، وفرنسيس بيكون في (أطلانطس الجديدة).. وهناك إشارات كثيرة إلى أن بعض هؤلاء وصلت أيديهم (جمهورية أفلاطون) بعد أن قام الفارابي بتحقيقها بتصرف. وقبل أن نتجاوز الحديث عن مدينة الفارابي الفاضلة، هناك حقيقة لابد من الإشارة إليها،، وهي أن الفارابي عاش زاهداِ ومات زاهداً، فلم يكن يعبأ بشيء من متاع الدنيا سوى ما يضمن له قوت يومه. والحقيقة الأخرى هي أن الفارابي عاش في عصور عشش فيها القلق والخوف والسخط والفوضى نتيجة عوامل سياسية واجتماعية واقتصادية بسبب فساد الحكم، والتسلط الشعوبي.
ولأنه كان يتمتع بعبقرية فذة، وذكاء خارق، نجده قد لجأ إلى التفكير بالمدينة الفاضلة ليتقدم بها كوثيقة إثبات تدين ما كان سائداً من فحش وفجور في تلك المجتمعات التي انغمست في الفساد والرذيلة، فظهرت مدينة الفارابي الفاضلة في العالم الإسلامي لتؤكد أن هذا الفيلسوف يقف في طليعة المسلمين الذين يدعون إلى وضع نظام اجتماعي يتخذ من هذا الدين قدوة مثالية للبشرية جمعاء.
وإذا كان الفارابي يدعو إلى سبر أغوار الفكر الإسلامي، فإنه بذلك يقرن القول بالعمل ويصب جام غضبه على الجمود والتعصب، ويدعو إلى الانطلاق والتحرر كي تتحقق أسمى مراتب السعادة العليا للإنسان، وهذا جُل أهداف الإسلام حيال الإنسانية جمعاء. وقد تعرض الفارابي إلى كثير من الهجوم شأنه في ذلك شأن معظم الفلاسفة منذ سقراط وحتى عصر فيلسوفنا المسلم هذا.
وكان للشعر مكانة رفيعة في زمن الفارابي، حيث كان المتنبي، وسبقه البحتري، وأبو تمام.. وغيرهم. ولم تكن قريحة الفارابي الشعرية تقارن بفحول مثل أولئك الشعراء، إلا أنه كان يستخدم القريض من حين لآخر ليرد به على المناوئين لأفكاره، وقد قال محاججاً خصومه:
وإن مقام مثلي في الأعادي
كمثل البدر تنبحه الكلاب
رموني بالعيوب ملفقات
وقد علموا بأني لا أعاب
وأني لا تروعني المخازي
وأني لا يروعني السُبابُ
ولما لم يلاقوا فيّ عيباً
كسوني من عيوبهم وعابوا
يتبع
(3/1)
المتتبع لحياة هذ الرجل، سيكتشف تلك الإرادة الأسطورية، التي قلَّ أن نجدها عند سواه!! فقد وُجدت سطور له، كتبها فوق ورقة ألصقت بكتاب (النفس): "إني قرأت هذا الكتاب مئة مرة". وكان ينطق بعدة لغات حتى بولغ بعددها من قبل الذين أرَّخوا لحياته، ولما دخل بغداد سعى إلى أبي بشر بن قتّى بن يونس الحكيم الشهير، فلازمه إلى أن أتقن عنه علم المنطق، ثم رحل إلى حرَّان، حيث لازم يوحنا بن حيلان الحكيم النصراني، فأخذ عنه ما يمكنه من إتقان علم المنطق. ولما عاد إلى بغداد، انقطع عاكفاً على كتب الفلسفة، حتى أصبح من أكثر الناس فهماً لشرح أرسطو.. ولا حرج بالحديث عن إقباله على العلوم الرياضية، وعلوم الحكمة والفلسفة، كما أنه لم يهمل الطب. وقد أتقن اللغة اليونانية، مما جعله متفرداً في استيعابها هذا إلى جانب معرفته باللغة الفارسية، وكذلك العربية، والتركية.
وقبل أن نلج للبحث في حياة الفارابي، نبدأ بدعائه الذي يفصح به عن مكنونات نفسه حيث يقول: "اللهم ألبسني حلل البهاء، وكرامات الأنبياء، وعلوم الحكماء، وخشوع الأتقياء، اللهم أنقذني من عالم الشقاء، واجعلني من إخوان الوفاء، وسكان السماء، مع الصديقين والشهداء.. اللهم أنت الذي لا إله إلا أنت علة الأشياء، ونور الأرض والسماء، اللهم امنحني فيضاً من العقل الفعال، ياذا الجلال والأفضال، اللهم هذب نفسي بأنوار الحكمة، وأوزعني شكر ما أوليتني به من نعمة".
تعريف
والفارابي الشهير بـ "المعلم الثاني" كُني بـ "أبي نصر" مع أنه قد جرت العادة أن يكنى المرء باسم ابنه الأكبر، والمشهور من سيرة الفارابي أنه لم يتزوج، ولم ينجب أولاداً. وأما السبب في تلقيبه بالمعلم الثاني، فهو أن المؤرخ حاجي خليفة يذهب إلى أن الفارابي قام بترجمة أعمال أرسطو الذي كان يلقب بالمعلم الأول.. وبما أن الفارابي اعتبر من أوائل الشُرّاح لآراء أرسطو، فقد أطلق عليه لقب المعلم الثاني.
وقد اختلف المؤرخون في سلسلة نسب الفارابي، فقد ذهب البيهقي إلى أن الفارابي هو محمد بن محمد بن طرخان، ووافقه ابن النديم على ذلك، أما أحمد الأندلسي، فقال: إنه محمد بن محمد بن نصر.. ومعظم الذين ترجموا للفارابي يذهبون إلى أنه تركي الأصل.. لكن ابن أبي أصيبعة ذكر أن والد الفارابي كان قائداً للجيش الفارسي.. ولا نكاد نعرف شيئاً يقينياً عن طفولته الأولى، وما وصل إلينا من سيرته هو أنه عكف بعد أن وصل سن البلوغ على دراسة مواد العلوم الرياضية والآداب والفلسفة واللغات، وخاصة التركية والفارسية واليونانية والعربية.. وقد بولغ بعدد لغات أخرى كثيرة قيل إنه يجيدها قراءة ونطقاً وكتابة.
معطياته
وما يعنينا من تناول هؤلاء العباقرة هو الوقوف على معطياتهم التي أثرت الفكر الإنساني، وساهمت بفعالية في جعل المعرفة تصل بالحضارة الإنسانية إلى ما هي عليه الآن. لا أحد يذكر متى بدأ الفارابي بتأليف كتاب (آراء أهل المدينة الفاضلة)، ولكن صاحب كتاب عيون الأخبار (ابن أبي أصيبعة) ذكر: "إن الفارابي قد ابتدأ في بغداد بتأليف كتاب المدينة الفاضلة، والمدينة الجاهلة، والمدينة الفاسقة، والمدينة المبدِّلة، والمدينة الضالة". وهذه أقسام للمدينة التي ذكرها الفارابي في فقرة من فقرات كتابه حيث جعل عنوانها: "القول في مضادات المدينة الفاضلة".
قصد الفارابي من كتابه هذا إلى تكوين مجتمع فاضل من نوع تلك المجتمعات التي فكر فيها من قبله طائفة من فلاسفة اليونان - مثل (جمهورية أفلاطون) و(نبشاي إفهيمير) و(مدينة الشمس) لـ (كامبا نيلا) - وقد أراد الفارابي أن ينشئ مدينته وفقاً للمبادئ الرئيسية التي تقوم عليها فلسفته وآراؤه في السعادة والكون والأخلاق.
وقد وقف الفارابي في فاتحة البحث عند الموجود الأول وهو الله جل وتبارك، وأظهر طائفة من صفاته سبحانه فقال: "القول في الموجود الأول، القول في نفي الشريك عنه تعالى، ونفى الضد عنه، ونفي الحد عنه سبحانه وأن وحدته عين ذاته، وأنه تعالى عالم وحكيم، وأنه حق وحيّ وحياة.. والقول في عظمته وجلال مجده وصدور جميع الموجودات عنه، ثم القول في مراتب هذه الموجودات الروحية والمادية، وحالات كل طائفة منها، وصلتها بالله تعالى.. وصلتها بعضها ببعض.. وما إلى ذلك". ثم يأتي على الموجودات الثواني، وكيفية صدور الكثير عن الواحد في الموجودات والأجسام التي لدينا. ويسترسل الفارابي في شرح بيان ما تعطيه الطبيعة للإنسان، ولأنه قد كرَّس كل حياته للتأليف والبحث والكتابة في الفلسفة والمنطق والعلوم الإنسانية كالطب والتشريح والصيدلة، إلى جانب ثروة لغوية مكنته من الإقبال على الدراسات الإسلامية، فألمّ بالفقه والحديث والتفسير إضافة إلى العلوم الاجتماعية، لذا نجده قد خصّ الجانب الاجتماعي من كتاب (آراء أهل المدينة الفاضلة) باهتمام كبير لكي يناظر جمهورية أفلاطون مع مراعاة فروق يسيرة عمد الفيلسوف إلى إحداثها ليميز مدينته الفاضلة التي يسعى إلى إنشائها في إطار إسلامي.
ومما قاله في هذا القسم:
"إن الإنسان اجتماعي بطبعه من جهته، ومضطر إلى هذا الاجتماع اضطراراً لسد حاجاته من جهة أخرى، وإنه من أجل ذلك نشأت الجماعات الإنسانية".
ويقسم الفارابي الجماعات إلى قسمين:
- مجتمعات كاملة:
وهي ما يتحقق فيها التعاون الاجتماعي بوجه كامل، لتحقيق سعادة الأفراد.
- مجتمعات ناقصة:
وهي مالا يتحقق فيها هذا التعاون الكامل، ولا تستطيع أن تكفي نفسها بنفسها... ويقسم الفارابي المجتمعات الكاملة إلى ثلاث مراتب، فأرقاها مرتبة: اجتماع العالم كله في دولة واحدة، وتحت سيطرة حكومة واحدة. وأقل منها كمالاً: أمة في جزء من المعمورة تحت سيطرة حكومة مستقلة. - وأقلها جميعاً في الكمال:
اجتماع أهل مدينة في جزء من الأمة تحت سلطة رئيس.
كما صنف المجتمعات الناقصة إلى ثلاث مراتب:
أدناها:
اجتماع أهل القرية، واجتماع أهل المحلة، واجتماع أهل السكة، ثم اجتماع أفراد أسرة في منزل.
ويقسم الفارابي في مدينته الفاضلة المجتمعات إلى: عظمى، ووسطى، وصغرى.
ويرى أن أفراد المدينة لا تتحقق لهم السعادة، ولا تصبح مدينتهم فاضلة، إلا إذا ساروا على غرار رئيسهم، وأصبحوا صورة منه، وأن الرئيس لا يعدو مؤدياً رسالته إلا إذا وصل بهم إلى هذا المستوى الرفيع من القيادة.
والذي لا شك فيه أن للفارابي العديد من المؤلفات، ولكن لم يصل إلينا منها إلا أربعين رسالة، منها اثنتان وثلاثون كتبت في أصلها العربي، وست رسائل وصلت إلينا مترجمة إلى العبرية، ورسالتان ترجمتا إلى اللاتينية.. هذا ما ذكره كارل بروكلمان في تاريخ الأدب العربي.
وفكرة المدينة الفاضلة أو الـ (يوتوبيا) قد راودت الكثيرين من أولئك العباقرة ممن يتمتعون بحس أخلاقي رفيع المستوى أمثال الروماني شيشرون، والقديس أوغسطين في كتابة (مدينة الرب)، ودانتي في رسالته الملكية، والسير توماس مور في الـ (يوتوبيا)، وفرنسيس بيكون في (أطلانطس الجديدة).. وهناك إشارات كثيرة إلى أن بعض هؤلاء وصلت أيديهم (جمهورية أفلاطون) بعد أن قام الفارابي بتحقيقها بتصرف. وقبل أن نتجاوز الحديث عن مدينة الفارابي الفاضلة، هناك حقيقة لابد من الإشارة إليها،، وهي أن الفارابي عاش زاهداِ ومات زاهداً، فلم يكن يعبأ بشيء من متاع الدنيا سوى ما يضمن له قوت يومه. والحقيقة الأخرى هي أن الفارابي عاش في عصور عشش فيها القلق والخوف والسخط والفوضى نتيجة عوامل سياسية واجتماعية واقتصادية بسبب فساد الحكم، والتسلط الشعوبي.
ولأنه كان يتمتع بعبقرية فذة، وذكاء خارق، نجده قد لجأ إلى التفكير بالمدينة الفاضلة ليتقدم بها كوثيقة إثبات تدين ما كان سائداً من فحش وفجور في تلك المجتمعات التي انغمست في الفساد والرذيلة، فظهرت مدينة الفارابي الفاضلة في العالم الإسلامي لتؤكد أن هذا الفيلسوف يقف في طليعة المسلمين الذين يدعون إلى وضع نظام اجتماعي يتخذ من هذا الدين قدوة مثالية للبشرية جمعاء.
وإذا كان الفارابي يدعو إلى سبر أغوار الفكر الإسلامي، فإنه بذلك يقرن القول بالعمل ويصب جام غضبه على الجمود والتعصب، ويدعو إلى الانطلاق والتحرر كي تتحقق أسمى مراتب السعادة العليا للإنسان، وهذا جُل أهداف الإسلام حيال الإنسانية جمعاء. وقد تعرض الفارابي إلى كثير من الهجوم شأنه في ذلك شأن معظم الفلاسفة منذ سقراط وحتى عصر فيلسوفنا المسلم هذا.
وكان للشعر مكانة رفيعة في زمن الفارابي، حيث كان المتنبي، وسبقه البحتري، وأبو تمام.. وغيرهم. ولم تكن قريحة الفارابي الشعرية تقارن بفحول مثل أولئك الشعراء، إلا أنه كان يستخدم القريض من حين لآخر ليرد به على المناوئين لأفكاره، وقد قال محاججاً خصومه:
وإن مقام مثلي في الأعادي
كمثل البدر تنبحه الكلاب
رموني بالعيوب ملفقات
وقد علموا بأني لا أعاب
وأني لا تروعني المخازي
وأني لا يروعني السُبابُ
ولما لم يلاقوا فيّ عيباً
كسوني من عيوبهم وعابوا
يتبع